قوله عز وجل :{ ومن يسلم وجهه إلى الله } يعني : لله ، أي : يخلص دينه لله ، ويفوض أمره إلى الله ، { وهو محسن } في عمله ، { فقد استمسك بالعروة الوثقى } أي : اعتصم بالعهد الأوثق الذي لا يخاف انقطاعه . { وإلى الله عاقبة الأمور ومن كفر فلا يحزنك كفره إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا إن الله عليم بذات الصدور* }
{ 22 - 24 } { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ * وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ }
{ وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ } أي : يخضع له وينقاد له بفعل الشرائع مخلصا له دينه . { وَهُوَ مُحْسِنٌ } في ذلك الإسلام بأن كان عمله مشروعا ، قد اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم .
أو : ومن يسلم وجهه إلى اللّه ، بفعل جميع العبادات ، وهو محسن فيها ، بأن يعبد اللّه كأنه يراه ، فإن لم يكن يراه ، فإنه يراه .
أو ومن يسلم وجهه إلى اللّه ، بالقيام بحقوقه ، وهو محسن إلى عباد اللّه ، قائم بحقوقهم .
والمعاني متلازمة ، لا فرق بينها إلا من جهة [ اختلاف ]{[671]} مورد اللفظتين ، وإلا فكلها متفقة على القيام بجميع شرائع الدين ، على وجه تقبل به وتكمل ، فمن فعل ذلك فقد أسلم و { اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : بالعروة التي من تمسك بها ، توثق ونجا ، وسلم من الهلاك ، وفاز بكل خير .
ومن لم يسلم وجهه للّه ، أو لم يحسن لم يستمسك بالعروة الوثقى ، وإذا لم يستمسك بالعروة الوثقى لم يكن ثَمَّ إلا الهلاك والبوار . { وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ } أي : رجوعها وموئلها ومنتهاها ، فيحكم في عباده ، ويجازيهم بما آلت إليه أعمالهم ، ووصلت إليه عواقبهم ، فليستعدوا لذلك الأمر .
وبمناسبة ذلك الجدال المتعنت الذي لا يستند إلى علم ، ولا يهتدي بهدى ، ولا يستمد من كتاب . يشير إلى السلوك الواجب تجاه الدليل الكوني والنعمة السابغة :
( ومن يسلم وجهه إلى الله - وهو محسن - فقد استمسك بالعروة الوثقى ، وإلى الله عاقبة الأمور ) . .
إنه الاستسلام المطلق لله - مع إحسان العمل والسلوك - الاستسلام بكامل معناه ، والطمأنينة لقدر الله . والانصياع لأوامر الله وتكاليفه وتوجيهاته مع الشعور بالثقة والاطمئنان للرحمة ، والاسترواح للرعاية ، والرضى الوجداني ، رضى السكون والارتياح . . كل أولئك يرمز له بإسلام الوجه إلى الله . والوجه أكرم وأعلى ما في الإنسان . .
( ومن يسلم وجهه إلى الله - وهو محسن - فقد استمسك بالعروة الوثقى ) . . العروة التي لا تنقطع ولا تهن ولا تخون ممسكا بها في سراء أو ضراء ، ولا يضل من يشد عليها في الطريق الوعر والليلة المظلمة ، بين العواصف والأنواء !
هذه العروة الوثقى هي الصلة الوثيقة الثابتة المطمئنة بين قلب المؤمن المستسلم وربه . هي الطمأنينة إلى كل ما يأتي به قدر الله في رضى وفي ثقة وفي قبول ، طمأنينة تحفظ للنفس هدوءها وسكينتها ورباطة جأشها في مواجهة الأحداث ، وفي الاستعلاء على السراء فلا تبطر ، وعلى الضراء فلا تصغر ؛ وعلى المفاجآت فلا تذهل ؛ وعلى اللأواء في طريق الإيمان ، والعقبات تتناثر فيه من هنا ومن هناك .
إن الرحلة طويلة وشاقة وحافلة بالأخطار . وخطر المتاع فيها والوجدان ليس أصغر ولا أقل من خطر الحرمان فيها والشقاء . وخطر السراء فيها ليس أهون ولا أيسر من خطر الضراء . والحاجة إلى السند الذي لا يهن ، والحبل الذي لا ينقطع ، حاجة ماسة دائمة . والعروة الوثقى هي عروة الإسلام لله والاستسلام والإحسان . ( وإلى الله عاقبة الأمور ) . . وإليه المرجع والمصير . فخير أن يسلم الإنسان وجهه إليه منذ البداية ؛ وأن يسلك إليه الطريق على ثقة وهدى ونور . .
يقول تعالى مخبرًا عمن أسلم وجهه لله ، أي : أخلص له العمل وانقاد لأمره واتبع شرعه ؛ ولهذا قال : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي : في عمله ، باتباع ما به أمر ، وترك ما عنه زجر ، { فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى } أي : فقد أخذ موثقا من الله متينًا أنه لا يعذبه ، { وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ } .
لما ذكر تعالى حال الكفرة أعقب ذلك بذكر حال المؤمنين ليبين الفرق وتتحرك النفوس إلى طلب الأفضل ، وقرأت عامة القراء «يسْلم » بسكون السين وتخفيف اللام .
وقرأ عبد الله بن مسلم وأبو عبد الرحمن «يسَلّم » بفتح السين وشد اللام ومعناه يخلص ويوجه ويستسلم به{[9379]} ، و «الوجه » هنا الجارحة استعير للمقصود لأن القاصد للشيء فهو مستقبله بوجهه فاستعير ذلك للمقاص ، و «المحسن » الذي جمع القول والعمل ، وهو الذي شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأله جبريل عن الإحسان{[9380]} ، و { العروة الوثقى } استعارة للأمر المنجي الذي لا يخاف عليه استحالة ولا إخلال والعرى موضع التعليق فكأن المؤمن متعلق بأمر الله فشبه ذلك { بالعروة } ، و { الأمور } جمع أمر وليس بالمضاد للنهي .
هذا مقابل قوله { ومن الناس من يجادل في الله بغير علم } [ لقمان : 20 ] إلى قوله : { يدعوهم إلى عذاب السعير } [ لقمان : 21 ] ، فأولئك الذين اتبعوا ما وجدوا ءاباءهم عليه من الشرك على غير بصيرة فوقعوا في العذاب ، وهؤلاء الذين لم يتمسكوا بدين آبائهم وأسلموا لله لما دعاهم إلى الإسلام فلم يصدّهم عن اتباع الحق إلف ولا تقديس آباء ؛ فأولئك تعلقوا بالأوهام واستمسكوا بها لإرضاء أهوائهم ، وهؤلاء استمسكوا بالحق إرضاء للدليل وأولئك أرضوا الشيطان وهؤلاء اتّبعوا رضى الله .
وإسلام الوجه إلى الله تمثيل لإفراده تعالى بالعبادة كأنه لا يقبل بوجهه على غير الله ، وقد تقدم في قوله تعالى { بَلى مَن أسلم وجهه لله وهو محسن } في سورة البقرة ( 112 ) ، وقوله { فَقُل أسلَمْتُ وجهيَ لله } في سورة آل عمران ( 20 ) .
وتعدية فعل { يُسْلم } بحرف { إلى } هنا دون اللام كما في آيتي سورة البقرة ( 112 ) وسورة آل عمران ( 20 ) عند الزمخشري مجاز في الفعل بتشبيه نفس الإنسان بالمتاع الذي يدفعه صاحبه إلى آخر ويَكِلُه إليه . وحقيقته أن يعدى باللام ، أي وجهه وهو ذاته سالماً لله ، أي خالصاً له كما في قوله تعالى { فإن حاجُّوك فقل أسلمتُ وجهيَ لله } في سورة آل عمران ( 20 ) .
والإحسان : العمل الصالح والإخلاص في العبادة . وفي الحديث : الإحسان أن تعبد الله كأنه تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك . والمعنى : ومن يسلم إسلاماً لا نفاق فيه ولا شك فقد أخذ بما يعتصم به من الهُوِيّ أو التزلزل .
وقوله { فقد استمسك بالعروة الوثقى } مضى الكلام على نظيره عند قوله تعالى { فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى } في سورة البقرة ( 25 ) ، وهو ثناء على المسلمين . وتذييل هذا بقوله { وإلى الله عاقبة الأمور } إيماء إلى وعدهم بلقاء الكرامة عند الله في آخر أمرهم وهو الحياة الآخرة .
والتعريف في { الأمور } للاستغراق ، وهو تعميم يراد به أن أمور المسلمين التي هي من مشمولات عموم الأمور صائرة إلى الله وموكولة إليه فجزاؤهم بالخير مناسب لعظمة الله .
والعاقبة : الحالة الخاتمة والنهاية . و { الأمور : جمع أمر وهو الشأن .
وتقديم { إلى الله } للاهتمام والتنبيه إلى أن الراجع إليه يلاقي جزاءه وافياً .