قوله تعالى : { وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس } صار أولئك الذين تمنوا ما رزقه الله من المال والزينة يتندمون على ذلك التمني ، والعرب تعبر عن الصيرورة بأضحى وأمسى وأصبح ، تقول : أصبح فلان عالماً ، وأضحى معدماً ، وأمسى حزيناً ، { يقولون ويكأن الله } اختلفوا في معنى هذه اللفظة ، قال مجاهد : ألم تعلم ، وقال قتادة : ألم تر . قال الفراء : هي كلمة تقرير كقول الرجل : أما ترى إلى ما صنع الله وإحسانه . وذكر أنه أخبره من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك ؟ فقال : ويكأنه وراء البيت ، يعني : أما ترينه وراء البيت . وعن الحسن : أنه كلمة ابتداء ، تقديره : أن الله يبسط الرزق . وقيل : هو تنبيه بمنزلة إلا ، وقال قطرب : ويك بمعنى ويلك ، حذفت اللام منه كما قال عنترة :
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمها *** قول الفوارس ويك عنتر أقدم
أي : ويلك ، وأن منصوب بإضمار اعلم أن الله ، وقال الخليل : وي مفصولة من كأن ومعناها التعجب ، كما تقول : وي لم فعلت ذلك ! وذلك أن القوم تندموا فقالوا : وي ! متندمين على ما سلف منهم وكأن معناها أظن ذلك وأقدره ، كما تقول كأن : الفرح قد أتاك أي أظن ذلك وأقدره ، { يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر } أي : يوسع ويضيق ، { لولا أن من الله علينا لخسف بنا } قرأ حفص ، ويعقوب : بفتح الخاء والسين ، وقرأ العامة بضم الخاء وكسر السين ، { ويكأنه لا يفلح الكافرون } .
{ وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ } أي : الذين يريدون الحياة الدنيا ، الذين قالوا : { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ } { يَقُولُونَ } متوجعين ومعتبرين ، وخائفين من وقوع العذاب بهم : { وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أي : يضيق الرزق على من يشاء ، فعلمنا حينئذ أن بسطه لقارون ، ليس دليلا على خير فيه ، وأننا غالطون في قولنا : { إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } و { لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا } فلم يعاقبنا على ما قلنا ، فلولا فضله ومنته { لَخَسَفَ بِنَا } فصار هلاك قارون عقوبة له ، وعبرة وموعظة لغيره ، حتى إن الذين غبطوه ، سمعت كيف ندموا ، وتغير فكرهم الأول .
{ وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } أي : لا في الدنيا ولا في الآخرة .
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون : وي ! كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر . لولا أن من الله علينا لخسف بنا . وي ! كأنه لا يفلح الكافرون . .
وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس ، ولم يؤتهم ما آتى قارون . وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة . وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله . فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب . ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف . إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء . وعلموا أن الكافرين لا يفلحون . وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال ، ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين ، ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين .
ويسدل الستار على هذا المشهد . وقد انتصرت القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة ، وقد رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان . .
وقوله تعالى : { وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأمْسِ } أي : الذين لما رأوه في زينته قالوا { يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } ، فلما خسف به أصبحوا يقولون : { وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أي : ليس المال بدالّ على رضا الله عن صاحبه [ وعن عباده ]{[22441]} ؛ فإن الله يعطي ويمنع ، ويضيق ويوسع ، ويخفض ويرفع ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة . وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود : " إن الله قسم بينكم أخلاقكم ، كما قسم أرزاقكم وإن الله يعطي المال من يحب ، ومن لا يحب ، ولا يعطي الإيمان إلا من يحب " {[22442]} .
{ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا } أي : لولا لُطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا ، كما خسف به ، لأنا وَددْنا أن نكون مثله .
{ وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ } يعنون : أنه كان كافرًا ، ولا يفلح الكافر عند الله ، لا في الدنيا ولا في الآخرة .
وقد اختلف النحاة في معنى قوله تعالى [ ها هنا ]{[22443]} : { وَيْكَأَنَّ } ، فقال بعضهم : معناها : " ويلك اعلم أن " ، ولكن خُفّفت فقيل : " ويك " ، ودلَّ فتح " أن " على حذف " اعلم " . وهذا القول ضعَّفه ابن جرير{[22444]} ، والظاهر أنه قوي ، ولا يشكل على ذلك إلا كتابتها في المصاحف متصلة " ويكأن " . والكتابة أمر وضعي اصطلاحي ، والمرجع إلى اللفظ العربي ، والله أعلم .
وقيل : معناها : ويكأن ، أي : ألم تر أن . قاله قتادة . وقيل : معناها " وي كأن " ، ففصلها وجعل حرف " وي " {[22445]} للتعجب أو للتنبيه ، و " كأن " بمعنى " أظن وأحسب " . قال ابن جرير : وأقوى الأقوال في هذا قول قتادة : إنها بمعنى : ألم تر أن ، واستشهد بقول الشاعر{[22446]} :
سَألَتَاني الطَّلاق أنْ رَأتَاني *** قَلّ مَالي ، وقَدْ جئْتُمَاني بِنُكر
وَيْكأنْ مَنْ يكُن له نَشَب يُحْ*** بَبْ ومن يَفْتقر يَعش عَيشَ ضُرّ
{ وأصبح الذين تمنوا مكانه } منزلته . { بالأمس } منذ زمان قريب . { يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر } { يبسط } { ويقدر } بمقتضى مشيئته لا لكرامة تقتضي البسط ولا لهوان يوجب القبض ، وويكأن عند البصريين مركب من " وي " للتعجب " وكأن " للتشبه والمعنى : ما أشبه الأمر أن يبسط الرزق . وقيل من " ويك " بمعنى ويلك " وأن " تقديره ويك اعلم أن الله { لولا أن من الله علينا } فلم يعطنا ما تمنينا . { لخسف بنا } لتوليده فينا ما ولده فيه فخسف بنا لأجله . وقرأ حفص بفتح الخاء والسين . { ويكأنه لا يفلح الكافرون } لنعمة الله أو المكذبون برسله وبما وعدوا لهم ثواب الآخرة .
ثم أخبر تعالى عن حال { الذين تمنوا مكانه بالأمس } وندمهم واستشعارهم أن الحول والقوة لله تعالى .
وقوله { ويكأن } مذهب سيبويه والخليل أن «وي » حرف تنبيه ، وهي منفصلة من «كأن » لكن أضيفت في الكتاب لكثرة الاستعمال ، [ والمعنى أنهم نبهوا من خاطبوه ]{[9189]} ثم قالوا بين الأخبار وعلى جهة التعجب والتثبت كأن الله يبسط ، وقال أبو حاتم وجماعة من النحويين «ويك » هي ويلك حذفت اللام{[9190]} منها لكثرة الاستعمال وجرت في الكلام كذلك ومنه قول عنترة : [ الكامل ]
ولقد شفى نفسي وأذهب سقمها . . . قيل الفوارس ويك عنتر أقدم{[9191]}
فكأن المعنى ويلك اعلم أن الله ونحو هذا من الإضمار للفعل{[9192]} ، وقالت فرقة من النحويين { ويكأن } بجملتها دون تقدير انفصال كلمة بمنزلة قولك ألم تر أن .
قال الفقيه الإمام القاضي : ويقوى الانفصال فيها على ما قاله سيبويه لأنها تجيء مع «أنَّ » ، ومع «أنْ » وأنشد سيبويه
ويكأنْ من يكن له نشب يحبب . . . ومن يفتقر يعش عيش ضر{[9193]}
وهذا البيت لزيد بن عمرو بن نفيل ، وقرأ الأعمش «لولا من الله » بحذف «أن » وروي عنه «لولا منُّ » برفع النون وبالإضافة إلى الله تعالى ، وقرأ الجمهور «لخُسِف » بضم الخاء وكسر السين ، وقرأ عاصم بفتح الخاء والسين ، وقرأ الأعمش وطلحة بن مصرف «لا نخسف » كأنه فعل مضارع أريد به أن الأرض كانت تبتلعه ، وروي عن الكسائي أنه كان يقف على «وي » ، ويبتدىء «كأن » ، وروي عنه الوصل كالجماعة ، وروي عن أبي عمرو أنه كان يقف «ويك » ويبتدىء «أن الله » وعلى هذا المعنى قال الحسن إن شئت «ويكأن » أو «يكإن » بفتح الهمزة وبكسرها ، وكذلك في { ويكأنه } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس} بعدما خسف به {يقولون ويكأن الله} يعني: لكن الله {يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر} يعني: يوسع الرزق على من يشاء، ويقتر على من يشاء، وقالوا: {لولا أن من الله علينا} يعني: لولا أن الله عز وجل أنعم علينا بالإيمان {لخسف بنا} ثم قال: {ويكأنه} يعني: ولكنه {لا يفلح} لا يسعد {الكافرون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأصبح الذين تمنّوا مكانه بالأمس من الدنيا، وغناه وكثرة ماله، وما بسط له منها بالأمس، يعني قبل أن ينزل به ما نزل من سخط الله وعقابه، يقولون:"ويْكأنّ الله..."
اختلف في معنى "وَيْكَأنّ اللّهَ"؛ فأما قَتادة، فإنه رُوي عنه في ذلك قولان: أحدهما:... ألم تر أنه... والقول الآخر:... أو لم يعلم أن الله...
وقال آخرون: إن معنى قوله "وَيْكأَنّ": «وي» منفصلة من كأنّ، كقولك للرجل: وَيْ أما ترى ما بين يديك؟ فقال: "وي "ثم استأنف، "كأن الله يبسط الرزق"، وهي تعجب، وكأنّ في معنى الظنّ والعلم، فهذا وجه يستقيم. قال: ولم تكتبها العرب منفصلة، ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة، وقد يجوز أن تكون كُثّر بها الكلام، فوُصِلت بما ليست منه.
وقال آخر منهم: إن «وَيْ»: تنبيه، وكأن حرف آخر غيره، بمعنى: لعلّ الأمر كذا، وأظنّ الأمر كذا، لأن كأنّ بمنزلة أظنّ وأحسب وأعلم.
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة: القول الذي ذكرنا عن قَتادة، من أن معناه: ألم تَرَ، ألم تعلَمْ... فتأويل الكلام: وأصبح الذين تمنوا مكان قارون وموضعه من الدنيا بالأمس، يقولون لَمّا عاينوا ما أحلّ الله به من نقمته، ألم تر يا هذا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده، فيُوسّع عليه، لا لفضل منزلته عنده، ولا لكرامته عليه، كما كان بسط من ذلك لقارون، لا لفضله ولا لكرامته عليه "وَيَقدِرُ "يقول: ويضيق على من يشاء من خلقه ذلك، ويقتّر عليه، لا لهوانه، ولا لسُخْطه عمله.
وقوله: "لَوْلا أنْ مَنّ اللّهُ عَلَيْنا" يقول: لولا أن تفضل علينا، فصرف عنا ما كنا نتمناه بالأمس، لَخَسَفَ بِنا...
وقوله: "وَيْكأنّهُ لا يُفْلِحُ الكافِرُونَ" يقول: ألم تعلم أنه لا يفلح الكافرون، فتنْجح طَلباتهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
وقوله تعالى: {وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس} كانوا تمنوا أن يعطوا مثل ما أعطي قارون 7 {يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون}...
وقال الزجاج:"وي" مقطوع من "كأن"، وهو حرف يفتتح به التندم. ثم ابتدأ بقوله: "كأنه لا يفلح الكافرون".
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
{وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بِالأَمْسِ} العرب تعبّر بأضحى وأمسى وأصبح عن الصيرورة والفعل...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"وي" التنبيه على أمر من الأمور... وذلك أنهم لما رأوا الخسف تنبهوا فتكلموا على قدر علمهم عند التنبيه لهم، كما يقول القائل إذا تبين له الخطأ: وي كنت على خطأ... "ويكأنه لا يفلح الكافرون" أي لا يفوز بثوابه وينجو من عقابه من يجحد نعم الله ويعبد معه سواه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَمَّا المُتَمَنّون مكانَه فقد نَدِمُوا، وأمّا الراضون بقسمته -سبحانه- فقد سَلِمُوا؛ سَلِمُوا في العاجل إلى أَنْ تَظْهرَ سعادتُهم في الآجل.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{لولا أن من الله علينا} عصمنا عن مثل ما كان عليه قارون من البطر والبغي.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس}: بدل، وأصبح، إذا حمل على ظاهره، أن الخسف به وبداره كان ليلاً، وهو أفظع العذاب، إذ الليل مقر الراحة والسكون، والأمس يحتمل أن يراد به الزمان الماضي، ويحتمل أن يراد به ما قبل يوم الخسف، وهو يوم التمني، ويدل عليه العطف بالفاء التي تقتضي التعقيب في قوله: {فخسفنا}، فيكون فيه اعتقاب العذاب خروجه في زينته، وفي ذلك تعجيل العذاب.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: ليس المال بدالّ على رضا الله عن صاحبه... فإن الله يعطي ويمنع، ويضيق ويوسع، ويخفض ويرفع، وله الحكمة التامة والحجة البالغة.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما خسف به فاستبصر الجهال الذين هم كالبهائم لا يرون إلا المحسوسات، عبر عن حالهم بقوله: {وأصبح} أي وصار، ولكنه عبر به لمقابلة الأمس، وإعلاماً بأن ما رأوا من حاله ملأ صدورهم فلم يكن لهم هم سواه {الذين تمنوا} أي أرادوا إرادة عظيمة بغاية الشغف أن يكونوا {مكانه} أي يكون حاله ومنزلته في الدنيا لهم {بالأمس} أي الزمان الماضي القريب وإن لم يكن يلي يومهم الذي هم فيه من قبله {يقولون ويكأن}... تعجباً أو ويلاً أو تندماً على ما قلنا في تبين غلطنا، وتنبيهاً على الخطأ، أو هلاك لنا، إو إنكار علينا، أو حزن لنا، أو تفجع علينا، أو استدراك علينا، أو رحمة لنا، أو تنبه منا، أو تنبيه لنا، ثم عللوا ذلك بقولهم: أن الله، أو يشبه أن الله، أو ألم تر أيها السامع والناظر أن الله... {ويكأنه} أي عجباً أو ندماً لأنه، أو يشبه أنه، أو ألم تر أنه...
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
صار هلاك قارون عقوبة له، وعبرة وموعظة لغيره، حتى إن الذين غبطوه، سمعت كيف ندموا، وتغير فكرهم الأول.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون: وي! كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر. لولا أن من الله علينا لخسف بنا. وي! كأنه لا يفلح الكافرون..
وقفوا يحمدون الله أن لم يستجب لهم ما تمنوه بالأمس، ولم يؤتهم ما آتى قارون. وهم يرون المصير البائس الذي انتهى إليه بين يوم وليلة. وصحوا إلى أن الثراء ليس آية على رضى الله. فهو يوسع الرزق على من يشاء من عباده ويضيقه لأسباب أخرى غير الرضى والغضب. ولو كان دليل رضاه ما أخذ قارون هذا الأخذ الشديد العنيف. إنما هو الابتلاء الذي قد يعقبه البلاء. وعلموا أن الكافرين لا يفلحون. وقارون لم يجهر بكلمة الكفر ولكن اغتراره بالمال، ونسبته إلى ما عنده من العلم جعلهم يسلكونه في عداد الكافرين، ويرون في نوع هلاكه أنه هلاك للكافرين.
ويسدل الستار على هذا المشهد. وقد انتصرت القلوب المؤمنة بتدخل القدرة السافرة، وقد رجحت قيمة الإيمان في كفة الميزان..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى الآية على الأقوال كلها أن الذين كانوا يتمنون منزلة قارون ندموا على تمنيهم لما رأوا سوء عاقبته وامتلكهم العجب من تلك القصة ومن خفي تصرفات الله تعالى في خلقه وعلموا وجوب الرضى بما قدر للناس من الرزق فخاطب بعضهم بعضاً بذلك وأعلنوه... ومعنى {لولا أن منَّ الله علينا لخسف بنا}: لولا أن منَّ الله علينا فحفظنا من رزق كرزق قارون لخسف بنا، أي لكنا طغينا مثل طغيان قارون فخسف بنا كما خسف به، أو لولا أن منّ الله علينا بأن لم نكن من شيعة قارون لخسف بنا كما خسف به وبصاحبيه، أو لولا أن منّ الله علينا بثبات الإيمان.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
أمّا التعبير عن الفكرة الصحيحة بكأن، فربما يكون خاضعاً للإعلان عن الصدمة التي تلقّوها في مسألة مصير قارون التي هزّت قناعاتهم، فبدأوا يتراجعون تدريجياً، ما يجعل التعبير على سبيل التشبيه الذي يوحي بالاحتمال القريب جداً. وهو تعبير متعارف في ابتداء انكشاف الحقيقة، التي كان يُرى خلافها، للإنسان، فيقول بعض الناس في ما كانوا ينكرونه، كأن المسألة كانت على غير ما نعتقد؛ والله العالم.