اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{وَأَصۡبَحَ ٱلَّذِينَ تَمَنَّوۡاْ مَكَانَهُۥ بِٱلۡأَمۡسِ يَقُولُونَ وَيۡكَأَنَّ ٱللَّهَ يَبۡسُطُ ٱلرِّزۡقَ لِمَن يَشَآءُ مِنۡ عِبَادِهِۦ وَيَقۡدِرُۖ لَوۡلَآ أَن مَّنَّ ٱللَّهُ عَلَيۡنَا لَخَسَفَ بِنَاۖ وَيۡكَأَنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلۡكَٰفِرُونَ} (82)

قوله : { وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالأَمْسِ } أي : صار{[40892]} أولئك الذين تمنوا{[40893]} ما رُزق من{[40894]} المال والزينة يتندمون على ذلك التمني{[40895]} ، والعرب تعبِّر عن{[40896]} الصيرورة بأصبح وأمسى وأضحى ، تقول : أصبح فلانٌ عالماً ، وأضحى معدماً ، وأمسى حزيناً ، والمعنى صار ذلك زاجراً لهم عن حب الدنيا ومخالفة موسى وداعياً إلى الرضا بقضاء الله وقسمته{[40897]} .

قوله : { وَيْكَأَنَّ الله . . . . وَيْكَأَنَّه } فيه مذاهب منها : أن وَيْ كلمة برأسها وهي اسم فعلٍ معناها أعجب{[40898]} أي أنا والكاف للتعليل ، و «أنْ » وما في حيّزها مجرورة بها ، أي : أعجب لأنَّه لا يفلح الكافرون ، وسمع كما أنَّه لا يعلم غفر الله له{[40899]} ، وقياس هذا القول أن يوقف على «وَيْ » وحدها ، وقد فعل ذلك الكسائي ، إلا أنه ينقل عنه أنه يعتقد في الكلمة أن أصلها «وَيْلَكَ » كما سيأتي ، وهذا ينافي وقفه ، وأنشد سيبويه{[40900]} :

4020 - وَيْ كَأَنْ مَنْ يَكُنْ لَهُ نَشَبٌ يُحْ *** بَبْ وَمَنْ يَفْتَقِرْ يَعِشْ عَيْشَ ضُرٍّ{[40901]}

الثاني : قال بعضهم «كَأَنَّ » هنا للتشبيه إلا أنه ذهب منها معناه ، وصارت للخبر والتيقن{[40902]} ، وأنشد :

4021 - كَأَنَّنِي حِينَ أُمْسِي لاَ يُكَلِّمُنِي *** مُتَيَّمٌ يَشْتَهِي مَا لَيْسَ مَوْجُودا{[40903]}

وهذا أيضاً يناسبه الوقف على «وَيْ » .

الثالث : أن «وَيْكَ » كلمة برأسها والكاف حرف خطاب ، وأنَّ معمولة لمحذوف ، أي : اعلم أنَّه لا يفلح ، قال الأخفش{[40904]} ، وعليه قوله :

4022- ألا ويك المسرة لا تدوم *** ولا يبقى على البؤس النعيم{[40905]}

وقوله عنترة{[40906]} :

4023 - وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِيَ وَأَبْرَأَ سُقْمَهَا *** قِيلُ الفَوَارِسِ وَيْكَ عَنْتَرَ أَقْدِمِ{[40907]}

وحقه أن تقف على «وَيْكَ » وقد فعله أبو عمرو بن العلاء{[40908]} .

الرابع : أن أصلها «وَيْلَكَ » فَحُذِفَ{[40909]} ، وإليه ذهب الكسائي ويونس وأبو حاتم{[40910]} ، وحقهم{[40911]} أن يقفوا على الكاف كما فعل أبو عمرو ، ومن قال بهذا استشهد بالبيتين المتقدمين ، فإنه يحتمل أن يكون الأصل فيهما «وَيْلَكَ » فحذف ولم يرسم في القرآن إلا «وَيْكَأَنَّ » «وَيْكَأَنَّهُ »{[40912]} متصلة في الموضعين{[40913]} . فعامَّة القرَّاء اتبعوا الرسم ، والكسائي وقف على «وَيْ » وأبو عمرو على «وَيْكَ »{[40914]} وهذا كله في وقف الاختيار دون الاختبار كنظائر تقدمت{[40915]} .

الخامس : أنَّ وَيْكَأَنَّ كلها كلمة مستقلة بسيطة ومعناها «أَلَمْ تَرَ »{[40916]} . وربَّما نقل ذلك عن ابن عباس{[40917]} ، ونقل الكسائي والفراء أنها بمعنى : أما ترى إلى صنع الله ، قال الفراء : هي كلمة تقرير ، وذكر أنه أخبره{[40918]} من سمع أعرابية تقول لزوجها : أين ابنك ؟ قال : وَيْ كأنَّه وراء البيت ، يعني : أما ترينه وراء البيت{[40919]} ، وحكى ابن قتيبة أنها بمعنى : رحمة لك في لغة حمير{[40920]} .

قوله : { لولا أَن مَّنَّ الله } قرأ الأعمش «لَوْلاَ مَنَّ » بحذف «أنْ » وهي مرادة ، لأن لولا هذه لا يليها إلا المبتدأ{[40921]} ، وعنه «مَنُّ » برفع النون وجر الجلالة ، وهي واضحة{[40922]} .

قوله : «لَخَسَفَ » قرأ حفص : «لَخَسَفَ » مبنياً للفاعل أي الله تعالى ، والباقون ببنائه للمفعول{[40923]} ، و «بِنَا » هو القائم مقام الفاعل ، وعبد الله وطلحة لانْخُسِفَ بِنَا{[40924]} أي : المكان ، وقيل : «بِنَا » هو القائم مقام الفاعل كقولك : انقطع بنا{[40925]} ، وهي عبارة رديئة وقيل : الفاعل{[40926]} : ضمير المصدر أي : لانخسف الانخساف{[40927]} وهي عنه أيضاً ، وعن عبد الله «لَتُخُسِّفَ » بتاء من فوق وتشديد السين مبنياً للمفعول ، وبنا قائم مقامه{[40928]} .

قوله : «وَيْكَأَنَّ » كلمة مستعملة عند التنبيه للخطاب وإظهار التندم{[40929]} ، فلما قالوا : { يا ليت لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ } [ القصص : 79 ] ثم شاهدوا الخسف تنبهوا لخطئهم ، ثم قالوا : كأنه { يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ } بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه ، ويضيق على من يشاء لا لهوان من يضيِّق عليه ، بل لحكمته وقضائه ابتلاء وفتنة{[40930]} ، قال سيبويه : سألت الخليل عن هذا الحرف ، فقال : «وَيْ » مفصولة{[40931]} «من كَأَنَّ » وأن القوم تنبهوا وقالوا متندمين على ما سلف منهم{[40932]} .


[40892]:في ب: صاروا.
[40893]:في ب: الَّذين تمنَّوا مكانه بالأمس.
[40894]:في ب: بـ.
[40895]:في ب: الغنى. وهو تحريف.
[40896]:في ب: عن ذلك.
[40897]:انظر الفخر الرازي 25/20.
[40898]:في ب: معناه وأعجب. وهو تحريف.
[40899]:هذا قول الخليل، قاله سيبويه: (وسألت الخليل-رحمه الله تعالى- عن قوله: "ويكأنَّه لا يفلح" وعن قوله تعالى جده: "ويكأن الله" فزعم أنها "وي" مفصولة من "كأنَّ"، والمعنى: وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبِّهوا فقيل لهم: أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا. والله تعالى أعلم) الكتاب 2/154، وانظر الكشاف 3/180، البيان 2/237، التبيان 2/1027، البحر المحيط 7/135.
[40900]:الكتاب 2/155.
[40901]:البيت من بحر الخفيف قاله زيد بن عمرو بن نفيل، أو نبيه بن الحجاج، وهو في الكتاب 2/155، معاني القرآن للفراء 2/312، مجالس ثعلب 1/322، معاني القرآن وإعرابه للزجاج 4/157، المحتسب 2/155، الخصائص 2/41، 169، الكشاف 3/180. تفسير ابن عطية 11/344، البيان 2/237، ابن يعيش 4/76، اللسان (ويا)، البحر المحيط 7/135، المغني 2/369، شرح شواهده 2/786، الهمع 2/106، الأشموني 3/199، الخزانة 6/405. النشب: المال. والشاهد فيه (ويكأنَّ) فهي عند الخليل وسيبويه مركبة من (وي) للتنبيه، و(كأن) للتشبيه.
[40902]:قال ابن جني: (وهو أن (وي) على قياس مذهبهما (الخليل وسيبويه) اسم سمي به الفعل في الخبر، فكأنه اسم أعجب، ثم ابتدأ فقال: "كأنه لا يفلح الكافرون" و "وي كأنَّ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده"، فـ (كأنَّ) إخبار عار من معنى التشبيه، ومعناه إنَّ الله يبسط الرزق لمن يشاء) المحتسب 2/155. وردَّ هذا بأن (وي) للتنبيه، وليست بمعنى: أعجب، وأما قوله: (إن كأنَّ عارية من معنى التشبيه)، فقول سيبويه: (أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا) انظر الخزانة 6/404-408.
[40903]:البيت من بحر البسيط قاله عمر بن أبي ربيعة، وهو في ديوانه (53)، الخصائص 3/70، المحتسب 2/155، البيان 2/237، ابن يعيش 4/77، اللسان (عود) ونسب فيه إلى يزيد بن الحكم يمدح سليمان بن عبد الملك، المغني 2/369، شرح شواهده 2/788. والشاهد فيه أنَّ (كأنَّ) هنا ليست للتشبيه فكأنها زائدة قال ابن جني في المحتسب: (وممَّا جاءت فيه (كأنَّ) عارية من معنى التشبيه ما أنشدناه أبو علي:... البيت. أي: أنا حين أمسي (متيَّم) من حالي كذا وكذا) المحتسب 2/155.
[40904]:كذا نقل عنه ابن جني في الخصائص 3/40-، 41، 170، وابن الأنباري في البيان 2/237، وكلام الأخفش في المعاني لا يفهم منه ذلك، فإنه قال في معرض حديثه عن هذه الآية: (المفسرون يفسرونها: ألم تر أنم الله، وقال: (ويكأنَّه لا يفلح الكافرون) وفي الشعر: سالتاني الطَّلاق أن رأتا ما *** لي قليلاً قد جئتماني بنكر ويكأنَّ من يكن له نشبٌ يحـ *** ـبب ومن يفتقر يعش عَيْشَ ضرّ المعاني 2/654-655.
[40905]:البيت من بحر الوافر، لم أهتد إلى قائله، وهو في البحر المحيط 7/135. والشاهد فيه قوله: (ويك) فإن الكاف فيه حرف خطاب لا محل له من الإعراب، ومعناه: اعلم أن المسرَّة.
[40906]:تقدم.
[40907]:البيت من بحر الكامل، وهو من معلقته، وهو في المحتسب 1/16، 2/156 د أمالي ابن الشجري 2/5، 6، السبع الطوال لابن الأنباري 359، 360، ابن يعيش 4/77، المغني 2/369، شرح التصريح 2/197، شرح شواهد المغني 2/787، الأشموني 3/198، الخزانة 6/421. عنتر: منادى مرخم. والشاهد فيه قوله: (ويك) فهي كلمة برأسها غير مركبة من كلمتين، ومعناها هنا التعجب، والكاف حرف خطاب.
[40908]:نسب الأشموني هذا القول لأبي عمرو بن العلاء. انظر الأشموني 3/198-199.
[40909]:في ب: محذوف.
[40910]:انظر البحر المحيط 7/135.
[40911]:في ب: فحذف اللام، وإنما جاز هذا الحذف لكثرتها في الكلام، وجعل (أن) مفتوحة بفعل مضارع مضمر كأنه قال: ويلك اعلم، وحقهم.
[40912]:في ب: إلا ويكأن مكانه. وهو تحريف.
[40913]:انظر معاني القرآن للفراء 2/312.
[40914]:انظر تفسير ابن عطية 11/345.
[40915]:في ب: وهذا كله في وقف الاختيار كنظائره وتقدمت.
[40916]:عزاه ابن خالويه إلى أبي زيد فإنه قال: (وقال أبو زيد: "ويكأنَّ" حرف واحد) المختصر (114).
[40917]:انظر البحر المحيط 7/135.
[40918]:في ب: أخبر.
[40919]:معاني القرآن 2/312.
[40920]:انظر تأويل مشكل إعراب القرآن (527).
[40921]:في ب: بالمبتدأ.
[40922]:المختصر (114)، تفسير ابن عطية 11/344، البحر المحيط 7/135.
[40923]:السبعة (495)، الكشف 2/175-176، النشر 2/342، الإتحاف 344.
[40924]:المختصر (114)، تفسير ابن عطية 11/345، البحر المحيط 7/135.
[40925]:قال أبو حيان: (وابن مسعود، وطلحة، والأعمش: "لانْخُسِفَ بنا" كقولك: انقطع بنا، كأنَّه فعل مطاوع، والمقام مقام الفاعل هو "بنا") البحر المحيط 7/135.
[40926]:الفاعل: سقط من ب.
[40927]:قال أبو حيان: (ويجوز أن يكون المصدر، أي: لانخسف الانخساف، ومطاوع فعل لا يتعدى إلى مفعول به، فلذلك بني إما لـ "بنا"، وإما للمصدر) البحر المحيط 7/135-136.
[40928]:المختصر (114)، البحر المحيط 7/136.
[40929]:في ب: الندم.
[40930]:انظر الفخر الرازي 25/20.
[40931]:في ب: مفعول. وهو تحريف.
[40932]:انظر الكتاب 2/154.