{ ويرزقه من حيث لا يحتسب } ما ساق من الغنم . وقال مقاتل : أصاب غنماً ومتاعاً ثم رجع إلى أبيه ، فانطلق أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره الخبر ، وسأله : أيحل له أن يأكل ما أتى به ابنه ؟ فقال له صلى الله عليه وسلم : نعم ، فأنزل الله هذه الآية . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وابن مسعود : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } هو أن يعلم أنه من قبل الله وأن الله رازقه . وقال الربيع بن خيثم : { يجعل له مخرجاً } من كل شيء ضاق على الناس . وقال أبو العالية : يجعل له مخرجاً من كل شدة . وقال الحسن : { مخرجاً } عما نهاه عنه . { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } يتق الله فيما نابه كفاه ما أهمه . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً " . { إن الله بالغ أمره } قرأ طلحة بن مصرف ، وحفص عن عاصم : { بالغ أمره } بالإضافة ، وقرأ الآخرون بالغ بالتنوين أمره بالنصب ، أي منفذ أمره ، ممض في خلقه قضاءه . { قد جعل الله لكل شيء قدراً } أي جعل الله لكل شيء من الشدة والرخاء أجلاً ينتهي إليه . قال مسروق في هذه الآية { إن الله بالغ أمره } توكل عليه أو لم يتوكل ، غير أن المتوكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً .
وقوله { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } أي : يسوق الله الرزق للمتقي ، من وجه لا يحتسبه ولا يشعر به .
{ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } أي : في أمر دينه ودنياه ، بأن يعتمد على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره ، ويثق به في تسهيل ذلك { فَهُوَ حَسْبُهُ } أي : كافيه الأمر الذي توكل عليه به ، وإذا كان الأمر في كفالة الغني القوي [ العزيز ] الرحيم ، فهو أقرب إلى العبد من كل شيء ، ولكن ربما أن الحكمة الإلهية اقتضت تأخيره إلى الوقت المناسب له ؛ فلهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي : لا بد من نفوذ قضائه وقدره ، ولكنه { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } أي : وقتًا ومقدارًا ، لا يتعداه ولا يقصر عنه .
ورزقا من حيث لا يقدر ولا ينتظر . وهو تقرير عام ، وحقيقة دائمة . ولكن إلصاقها هنا بأحكام الطلاق يوحي بدقة انطباقها وتحققها عندما يتقي المتقون الله في هذا الشأن بصفة خاصة . وهو الشأن الذي لا ضابط فيه أحس ولا أدق من ضابط الشعور والضمير ، فالتلاعب فيه مجاله واسع ، لا يقف دونه إلا تقوى الله وحساسية الضمير .
( ومن يتوكل على الله فهو حسبه ، إن الله بالغ أمره ) . .
فمجال الكيد في هذه العلاقة واسع ، ومسالكه كثيرة ، وقد تؤدي محاولة اتقاء الكيد إلى الكيد ! فهنا إيحاء بترك هذه المحاولة ، والتوكل على الله ، وهو كاف لمن يتوكل عليه . فالله بالغ أمره . فما قدر وقع ، وما شاء كان ؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر ، وقوة القاهر . الفعال لما يريد . البالغ ما يشاء .
والنص عام . والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب ، بالنسبة لإرادة الله وقدره . . ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره .
( قد جعل الله لكل شيء قدرا ) . .
فكل شيء مقدر بمقداره ، وبزمانه ، وبمكانه ، وبملابساته ، وبنتائجه وأسبابه . وليس شيء مصادفة ، وليس شيء جزافا . في هذا الكون كله ، وفي نفس الإنسان وحياته . . وهي حقيقة ضخمة يقوم عليها جانب
كبير من التصور الإيماني . [ وقد فصلنا الحديث عنها عند استعراض قوله تعالى : ( وخلق كل شيء فقدره تقديرا )في سورة الفرقان . وعند قوله تعالى : ( إنا كل شيء خلقناه بقدر ) . . في سورة القمر ] . ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته ، والعدة ووقتها ، والشهادة وإقامتها . ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة ، والناموس الكلي العام . ويوقع في الحس أن الأمر جد من جد النظام الكوني المقدر في كل خلق الله .
يقول تعالى : فإذا بلغت المعتدات أجلهن ، أي : شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية ، فحينئذ إما أن يعزم الزوج على إمساكها ، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده . { بِمَعْرُوفٍ } أي : محسنًا إليها في صحبتها ، وإما أن يعزم على مفارقتها { بِمَعْرُوفٍ } أي : من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف ، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن .
وقوله : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } أي : على الرجعة إذا عَزَمتم عليها ، كما رواه أبو داود وابن ماجة ، عن عمران {[28956]} بن حُصَين : أنه سُئِل عن الرجل يطلق امرأته ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال : طَلَّقتَ لغير سنة ، ورجعت لغير سنة ، وأشهِدْ على طلاقها وعلى رجعتها ، ولا تَعُدْ{[28957]} {[28958]}
وقال ابن جريج : كان عطاء يقول : { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } قال : لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل ، كما قال الله ، عز وجل ، إلا أن يكون من عذر .
وقوله : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ } أي : هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة ، إنما يأتمر به من يؤمن بالله وأنه شرع هذا ، ومن يخاف عقاب{[28959]} الله في الدار الآخرة .
ومن ها هنا ذهب الشافعي - في أحد قوليه - إلى وجوب الإشهاد في الرجعة ، كما يجب عنده في ابتداء النكاح . وقد قال بهذا طائفة من العلماء ، ومن قال بهذا يقول : إن الرجعة لا تصح إلا بالقول ليقع الإشهاد عليها .
وقوله : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي : ومن يتق الله فيما أمره به ، وتَرَك ما نهاه عنه ، يجعل له من أمره مخرجًا ، ويرزقه من حيث لا يحتسب ، أي : من جهة لا تخطر بباله .
قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا كَهمس بن الحسن ، حدثنا أبو السليل ، عن أبي ذر قال : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلو عَلَيَّ هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } حتى فرغ من الآية ، ثم قال : " يا أبا ذر ، لو أن الناس كلهم أخذوا بها كفتهم " . وقال : فجعل يتلوها ويُرددها علي حتى نَعَست ، ثم قال : " يا أبا ذر ، كيف تصنع إن{[28960]} أخرجت من المدينة ؟ . " قلت : إلى السعة والدّعة{[28961]} أنطلق ، فأكون حمامة من حمام مكة . قال : " كيف تصنع إن أخرجت من مكة ؟ " . قال : قلت : إلى السعة والدّعة ، وإلى الشام والأرض المقدسة . قال : " وكيف تصنع إن أخرجتَ من الشام ؟ " . قلت : إذا - والذي بعثك بالحق{[28962]} - أضع سيفي على عاتقي . قال : " أو خير من ذلك ؟ " . قلت : أو خير من ذلك ؟ قال : " تسمع وتطيع ، وإن كان عبدًا حبشيًّا " {[28963]}
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن منصور الرمادي ، حدثنا يعلى بن عبيد ، حدثنا زكريا ، عن عامر ، عن شُتَير{[28964]} بن شكَل قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن : { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ } [ النحل : 90 ] وإن أكثر آية في القرآن فرجًا : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا }
وفي المسند : حدثني مهدي بن جعفر ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الحكم بن مصعب ، عن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ، عن أبيه ، عن جده عبد الله بن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هَمٍّ فرجًا ، ومن كل ضيق مخرجًا ، ورزقه من حيث لا يحتسب " {[28965]}
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يقول : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
وقال الربيع بن خثيم : { يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي : من كل شيء ضاق على الناس .
وقال عكرمة : من طلق كما أمره الله يجعل له مخرجًا . وكذا روي عن ابن عباس ، والضحاك .
وقال ابن مسعود ، ومسروق : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } يعلم أن الله إن شاء منع ، وإن شاء أعطى { مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } أي{[28966]} من حيث لا يدري .
وقال قتادة : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا } أي : من شبهات الأمور والكرب{[28967]} عند الموت ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } ومن حيث لا يرجو أو لا يأمل .
وقال السدي : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ } يطلق للسنة ، ويراجع للسنة ، وزعم أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له : " عوف بن مالك الأشجعي " كان له ابن ، وأن المشركين أسروه ، فكان فيهم ، وكان أبوه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر ، ويقول له : " إن الله سيجعل لك فرجًا " {[28968]} فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيرًا أن انفلت ابنه من أيدي العدو فمر بغنم من أغنام العدو ، فاستاقها فجاء بها إلى أبيه ، وجاء معه بغنى{[28969]} قد أصابه من الغنم ، فنزلت فيه هذه الآية : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ }
رواه ابن جرير ، {[28970]} وروي أيضًا من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا نحوه{[28971]}
وقال الإمام أحمد ، حدثنا وكَيع ، حدثنا سفيان ، عن عبد الله بن عيسى ، عن عبد الله بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن العبد لَيُحْرَمُ الرزق بالذنب يُصيبُه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر " .
ورواه النسائي وابن ماجة ، من حديث سفيان - وهو الثوري - به{[28972]}
وقال محمد بن إسحاق : جاء مالك الأشجعي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : له أسر ابني عوف . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أرسل إليه أن رسول الله يأمرك أن تكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله " . وكانوا قد شدوه بالقد فسقط القِد عنه ، فخرج ، فإذا هو بناقة لهم فركبها ، وأقبل فإذا بسَرْح القوم الذين كانوا قد شدوه فصاح بهم ، فاتبع أولها آخرها ، فلم يفجأ أبويه إلا وهو ينادي بالباب ، فقال أبوه : عوف ورب الكعبة . فقالت أمه : واسوأتاه . وعوف كيف يقدم لما هو فيه من القد - فاستبقا الباب والخادم ، فإذا عوف قد ملأ الفناء إبلا فقص على أبيه أمره وأمر الإبل ، فقال أبوه : قفا حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسأله عنها . فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبر عوف وخبر الإبل ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنع بها ما أحببت ، وما كنت صانعًا بمالك " . ونزل : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ } رواه ابن أبي حاتم .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن الحسين ، حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، حدثنا إبراهيم بن الأشعث ، حدثنا الفضيل بن عياض ، عن هشام بن حسان{[28973]} عن عمران بن حُصَين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من انقطع إلى الله كفاه الله كل مَئُونة ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكَلَه إليها " {[28974]}
وقوله : { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } قال الإمام أحمد :
حدثنا يونس ، حدثنا ليث ، حدثنا قيس بن الحجاج ، عن حَنَش الصنعاني ، عن عبد الله بن عباس : أنه حدثه أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا غلام ، إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، وإذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك ، لم ينفعوك إلا بشيء كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك ، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام ، وجفت الصحف " .
وقد رواه الترمذي من حديث الليث بن سعد ، وابن لَهِيعة ، به{[28975]} وقال : حسن صحيح .
وقال الإمام أحمد : حدثنا وَكِيع ، حدثنا بشير بن سلمان ، عن سيار أبي الحكم ، عن طارق بن شهاب ، عن عبد الله - هو ابن مسعود - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمنًا أن لا تُسَهَّل حاجته ، ومن أنزلها بالله أتاه الله برزق عاجل ، أو بموت آجل " .
ثم رواه عن عبد الرزاق ، عن سفيان ، عن بشير ، عن سيار أبي حمزة ، ثم قال : وهو الصواب ، وسيار أبو الحكم لم يحدث عن طارق{[28976]}
وقوله : { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } أي : منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه { قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } كقوله : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ]
ومن يتق الله يجعل له مخرجا . ويرزقه من حيث لا يحتسب جملة اعتراضية مؤكدة لما سبق بالوعد على الاتقاء عما نهى عنه صريحا أو ضمنا من الطلاق في الحيض والإضرار بالمعتدة وإخراجها من المسكين وتعدي حدود الله وكتمان الشهادة وتوقع جعل على إقامتها بأن يجعل الله له مخرجا مما في شأن الأزواج من المضايق والغموم ويرزقه فرجا وخلفا من وجه لم يخطر بباله أو بالوعد لعامة المتقين بالخلاص عن مضار الدارين والفوز بخيرهما من حيث لا يحتسبون أو كلام جيء به للاستطراد عند ذكر المؤمنين وعنه صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم ومن يتق الله فما زال يقرؤها ويعيدها وروي أن سالم بن عوف بن مالك الأشجعي أسره العدو أسره العدو فشكا أبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له اتق الله وأكثر قول لا حول ولا قوة إلا بالله ففعل فبينما هو في بيته إذ قرع ابنه الباب ومعه مائة من الإبل غفل عنها العدو فاستاقها وفي رواية رجع ومعه غنيمات ومتاع ومن يتوكل على الله فهو حسبه كافية إن الله بالغ أمره يبلغ ما يريده ولا يفوته مراد وقرأ حفص بالإضافة وقرىء بالغ أمره أي نافذ وبالغا على أنه حال والخبر قد جعل الله لكل شيء قدرا تقديرا أو مقدرا أو أجلا لا يتأتى تغييره وهو بيان لوجوب التوكل وتقرير لما تقدم من تأقيت الطلاق بزمان العدة والأمر بإحصائها وتمهيد لما سيأتي من مقاديرها .
وقوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } ، الآيات كلها عظة لجميع الناس ، والحسب : الكافي المرضي ، وقال ابن مسعود هذه أكثر الآيات حضّاً على التفويض ، وروي أن رجلاً قال لعمر : ولّني مما ولاك الله ، فقال له عمر : أتقرأ القرآن ؟ قال : لا . قال : فأنا لا أولي من لا يقرأ القرآن . فتعلم الرجل رجاء الولاية ، فلما حفظ كثيراً من القرآن تخلف عن عمر فلقيه يوماً فقال له عمر ما أبطا بك ؟ قال له تعلمت القرآن ، فأغناني الله تعالى عن عمر وعن بابه .
ثم قرأ هذه الآيات من هذه السورة . وقوله تعالى : { إن الله بالغ أمره } بيان وحض على التوكل ، أي لا بد من نفوذ أمر الله توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق . فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة ، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك ، وأمره في الوجهين نافذ ، وقرأ داود بن أبي هند{[11161]} -ورويت عن أبي عمرو «بالغ أمرُه » برفع الأمر{[11162]} وحذف مفعول تقدير : بالغ أمره ما شاء ، وقرأ جمهور السبعة : «بالغ أمرَه » بنصب الأمر{[11163]} وقرأ حفص والمفضل عن عاصم : «بالغُ أمرِه » على الإضافة وترك التنوين في : «بالغُ » ، ورويت عن أبي عمرو ، والأعمش ، وهي قراءة طلحة بن مصرف ، وقرأ جمهور الناس : «قدْراً » بسكون الدال ، وقرأ بعض القراء : «قدَراً » بفتح الدال وهذا كله حض على التوكل .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قوله:"وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ "يقول: ويسبب له أسباب الرزق من حيث لا يشعر، ولا يعلم...
وقوله: "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ" يقول تعالى ذكره: ومن يتق الله في أموره، ويفوّضها إليه فهو كافيه.
وقوله: "إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ" منقطع عن قوله "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ". ومعنى ذلك: إن الله بالغ أمره بكل حال توكل عليه العبد أو لم يتوكل عليه... عن مسروق "وَمَنْ يَتَوَكّلْ على اللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إنّ اللّهَ بالِغُ أمْرِهِ" توكل عليه أو لم يتوكل عليه، غير أن المتوكل يُكَفّرْ عنه سيئاته، ويُعْظِم له أجرا...
وقوله: "قَدْ جَعَلَ اللّهُ لِكُلّ شَيْءٍ قَدْرا" يقول تعالى ذكره: قد جعل الله لكلّ شيء من الطلاق والعدّة وغير ذلك حدّا وأجلاً وقدرا يُنتهى إليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
جاز أن يكون المعنى من قوله: {ومن يتق الله} في ما بين له من الحدود، فلم يضيعه {يجعل له مخرجا} في ما لم يبين له وفي ما اشتبه من الحد، أو يجوز أن يكون المعنى من قوله تعالى: {ومن يتق الله} أي جاهد في ما أمره، ونهاه {يجعل له مخرجا} في أن يهديه، ويبين له السبيل...
أو يجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} يعني يتق عقابه {يجعل له مخرجا} من الشدة في الدنيا ومن سكرات الموت وغمراته ومن شدائد الآخرة وأهوالها. ويجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} في مكاسبه {يجعل له مخرجا} من الشبه والحرمات، فيسلم منها. ويجوز أن يكون قوله: {ومن يتق الله} في ما بين له من الحدود في هذه الآيات المتقدمة، فحفظها في صحبة النساء على ما أمر به {يجعل له مخرجا} مما أهمه من ناحيتهن {ويرزقه من حيث لا يحتسب}. يجوز أن يكون هذا في ما بيّن له من الحدود إذا حفظها أن يرزقه ما وصفنا من المرأة والمال. ويجوز أن يكون هذا في جميع الأمور من المكاتبة والتجارات لأن التجار يظنون أنهم إنما يرزقون الفضل والربح لما يدخلون فيها من الشبه والحرمات وأنها إذا نفيت من تجارتهم تلك الشبه والحرمات رزقهم من حيث لم يحتسبوا...
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه} يجوز أن يكون معناه: أي من يعتمده في كل نائبة، ويفوض إليه كل نازلة. والوكيل، هو الموكول إليه الأمور. وقيل: الوكيل، هو الحافظ، فكأنه قال: ومن يعتمد على الله في ما نابه كفى به وكيلا موكولا إليه أمره، وكفى به حافظا وناصرا ومعينا. وقوله تعالى: {إن الله بالغ أمره} أي في ما أخبر من حكمه ووعده ووعيده أن ينزل بهم...
{قد جعل الله لكل شيء قدرا} قال الحسن: {لكل شيء} من أعمال العباد {قدرا} ثوابا في الآخرة. والوجه عندنا {قد جعل الله لكل شيء} مما كان، ويكون إلى يوم القيامة من حسن وقبيح في الحكمة {قدرا}. ألا ترى إلى أفعال العباد أنها كيف تخرج عن تدبيرهم من زمان ومكان ونحو ذلك ليعلم أن الله تعالى، هو الذي قدّر ذلك المكان والزمان والفعل حتى خرج هذا العبد عن تقريره، الذي قدّره...
ثم ليس في قوله تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} له تخصيص، أي من لا يتّقه يرزقه من حيث لا يحتسب، لأنه قد نرى في الشاهد من يرزقه من حيث لا يحتسب، اتقاه، أو لم يتقه. فثبت أن فائدة التخصيص ليست تعني غير المقصود، ولكن فائدة تخصيص المتلقي بالذكر، هي أنه يرزقه من حيث يطيب له، ولا يلام عليه، وليس ذلك في غير المتقي...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
(ويرزقه من حيث لا يحتسب) أي من حيث لا يتوقعه ولا يظنه (ومن يتوكل على الله) أي من أسند أمره إلى الله ووثق بحكمه وسكن إلى رحمته (فهو حسبه) أي كافيه جميع ذلك (إن الله بالغ أمره) أي يبلغ ما يريد ويشاء من أمره وتدبيره (قد جعل الله لكل شيء قدرا) أي قدر الله لكل شيء مقدارا وأجلا، لا زيادة فيه ولا نقصان.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. لم يقل: ومَنْ يتوكل على الله فتوكُّلُه حَسْبُه، بل قال: {فَهُوَ حَسْبُهُ}؛ أي فاللَّهُ حَسْبُه أي كافيه. {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً}. إذا سَبَقَ له شيءٌ من التقدير فلا محالةَ يكون، وبتَوَكُّله لا يتغير المقدور ولا يستأخر، ولكنَّ التوكَّل بنيانه على أنْ يكون العبدُ مُرَوَّحَ القلب غيرَ كارهٍ... وهذا من أَجَلِّ النِّعم...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
وقوله تعالى: (ومن يتوكل على الله فهو حسبه) أي: يثق بالله ويفوض أمره إليه: ويقال: التوكل على الله هو الرضا بقضائه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{وَيَرْزُقْهُ} من وجه لا يخطره بباله ولا يحتسبه إن أوفى المهر وأدى الحقوق والنفقات وقل ماله.
{قَدْراً} تقديراً وتوقيتاً. وهذا بيان لوجوب التوكل على الله، وتفويض الأمر إليه؛ لأنه إذا علم أنّ كل شيء من الرزق ونحوه لا يكون إلا بتقديره وتوقيته: لم يبق إلا التسليم للقدر والتوكل.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، الآيات كلها عظة لجميع الناس، والحسب: الكافي المرضي، وقال ابن مسعود هذه أكثر الآيات حضّاً على التفويض، ....
... {إن الله بالغ أمره} بيان وحض على التوكل،... أي لا بد من نفوذ أمر الله توكلت أيها المرء أو لم تتوكل قاله مسروق. فإن توكلت كفاك وتعجلت الراحة والبركة، وإن لم تتوكل وكلك إلى عجزك وتسخطك، وأمره في الوجهين نافذ،...
لطيفة: وهي أن التقوى في رعاية أحوال النساء مفتقرة إلى المال، فقال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجا} وقريب من هذا قوله: {إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله}...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إن الله بالغ أمره)...
.فالله بالغ أمره. فما قدر وقع، وما شاء كان؛ فالتوكل عليه توكل على قدرة القادر، وقوة القاهر. الفعال لما يريد. البالغ ما يشاء. والنص عام. والمقصود به هو إنشاء التصور الإيماني الصحيح في القلب، بالنسبة لإرادة الله وقدره.. ولكن وروده هنا بمناسبة أحكام الطلاق له إيحاؤه في هذا المجال وأثره. (قد جعل الله لكل شيء قدرا).. فكل شيء مقدر بمقداره، وبزمانه، وبمكانه، وبملابساته، وبنتائجه وأسبابه. وليس شيء مصادفة، وليس شيء جزافا. في هذا الكون كله ....
...ولكن ذكر هذه الحقيقة الكلية هنا يربط بها ما قدره الله عن الطلاق وفترته، والعدة ووقتها، والشهادة وإقامتها. ويطبع هذه الأحكام بطابع السنة الإلهية النافذة...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{من حيث لا يحتسب} احتراس لئلا يتوهَّم أحد أن طرق الرزق معطلة عليه فيستبعد ذلك فيمسك عن مراجعة المطلقة لأنه لا يستقبل مالاً ينفق منه، فأعلمه الله أن هذا الرزق لطف من الله والله أعلم كيف يهيئ له أسباباً غير مرتقبة...
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ الله بالغ أمره}. تكملة للتي قبلها فإن تقوى الله سبب تفريج الكُرَب والخَلاص من المضائق، وملاحظةُ المسلم ذلك ويقينُه بأن الله يدفع عنه ما يخطر بباله من الخواطر الشيطانية التي تثبطه عن التقوى يحقق وعد الله إياه بأن يجعل له مخرجاً ويرزقَه من حيث لا يحتسب...
وجملة {إن الله بالغ أمره} في موضع العلة لجملة {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}، أي لا تستبعدوا وقوع ما وعدكم الله حين ترون أسباب ذلك مفقودة فإن الله إذا وعد وعداً فقد أراده وإذا أراد الله أمراً يسَّر أسبابه...
{قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شيء قدرا}. لهذه الجملة موقع تتجلى فيه صورة من صور إعجاز القرآن في ترتيب مواقع الجمل بعضها بعد بعض كما نبهت عليه في مواقع سلفت. فهذه الجملة لها موْقع الاستئناف البياني ناشئ عما اشتملت عليه جمل {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}، إلى قوله: {إن الله بالغ أمره} لأن استعداد السامعين لليقين بما تضمنته تلك الجمل متفاوت فقد يستبعد بعض السامعين تحقق الوعد لأمثاله بما تضمنته تلك الجمل بعرضها على ارتباك أحْواله، أو يتردد يقينه فيقول: أين أنا من تحصيل هذا، حين يُتبع نظره فيرى بَوْنا عن حصول الموعود بسبب انعدام وسائله لديه فيتملكه اليأس. فهذا الاستئناف البياني وقع عقب الوعد تذكيراً بأن الله علم مواعيده وهيأ لها مقادير حصولها لأنه جعل لكل شيء قدراً...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} فإذا ضاق به رزقه، وأغلقت عنه مداخله ومخارجه من خلال الوسائل التي يملكها في ساحته العملية، فإن عليه أن لا يستغرق في حدود هذه الوسائل، بل يفكر بطريقةٍ إيمانيةٍ...
{وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} لأنه الذي يملك الأمر كله، فهو يملك الناس كلهم، والحياة كلها، ويملك ما يملكه الآخرون...
فلا يمنعه من تنفيذ إرادته مانع في الأرض ولا في السماء، {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3]...
وقد نلاحظ في وقفةٍ تأمليةٍ أمام هذه الآية أنها تؤكد للإنسان المؤمن عدة نقاطٍ في حركة حياته:
الشعور الدائم بأنّ الله لا يخذله في ما يواجهه من صعوبات الحياة...
أن يبقى الإنسان مشدوداً إلى مسألة الرزق على أساس أن أمره بيد الله، فإذا أغلق عنه باب، فهناك أكثر من باب مفتوح في علم الله...
الثقة بالله في وعده، من خلال الإيمان بأنه بالغ أمره، وبأنه الكافي لمن توكّل عليه، ولا كافي غيره...
الإحساس بأن الحياة في انتصاراتها وهزائمها وفي أفراحها وأحزانها لا تتحرك في أجواء الفوضى، بل تخضع لنظامٍ كونيٍّ متوازنٍ، يضع كل شيءٍ في موضعه، ويقدر لكل حدثٍ قدره...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ويرزقه من حيث لا يحتسب) ولا يتصوّر تحصيله. (ومن يتوكّل على الله فهو حسبه) وسيكفيه ما يهمّه من أموره. (إنّ الله بالغ أمره) لأنّ الله عزّ وجلّ قادر مطلق، وأمره نافذ في كلّ شيء وتخضع جميع الكائنات لمشيئته وإرادته... ولهذا يحذّر النساء والرجال والشهود أن لا يخافوا قول الحقّ، ويحثّهم على الاعتماد عليه واللجوء إليه في تيسير الصعوبات، لأنّه قد تعهّد بأن ييسّر للمتّقين أمرهم، ويجعل لهم مخرجاً ويرزقهم من حيث لا يحتسبون. لقد تعهّد الله أن لا يترك من توكّل عليه يتخبّط في حيرته، وإنّه لقادر على الوفاء بهذا التعهّد. ورغم أنّ هذه الآيات نزلت بشأن الطلاق والأحكام المتعلّقة به، لكنّها تحتوي مفاهيم واسعة ومعاني عظيمة تشمل جميع المجالات التي يعاهد الله بها المتّقين، ويبعث في نفوسهم الأمل بأنّه سيشملهم بلطفه ورعايته، فينجيهم من المآزق، ويرشدهم إلى الصواب، ويفتح أمامهم الآفاق الرحبة، ويرفع عنهم مشاكل الحياة وصعوباتها، ويبدّد الغيوم السوداء التي تلبّد سماء سعادتهم. وفي إشارة لطيفة إلى النظام العامّ الذي يحكم التكوين والتشريع، يقول تعالى: (قد جعل الله لكلّ شيء قدراً) فكلّ هذه الأحكام والأوامر التي فرضها الله في شأن الطلاق، إنّما كانت ضمن حساب دقيق ومقاييس عامّة شاملة لا يغيب عنها شيء. وهكذا يجب أن يلتزم الناس في جميع المشاكل التي تنتاب حياتهم وليس فقط في مسألة الطلاق بالموازين والأحكام الشرعية، وأن يواجهوا تلك الأمور بالتقوى والصبر وطلب التوفيق من الله، لا أن يطلقوا ألسنتهم بالشكوى وارتكاب الذنوب، وما إلى ذلك ويتوسّلون بالطرق غير المشروعة لحلّ مشاكلهم...