الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

" { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } لا يرجو ولا يتوقع .

قال أكثر المفسرين : نزلت هذه الآية في عوف بن مالك الأشجعي ، وذلك أنّ المشركين أسروا ابناً له يسمّى : سالماً ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال :يا رسول اللّه إنّ العدوّ أسر ابني وشكا إليه أيضاً الفاقة ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " ما أمسى عند آل محمد إلاّ مُدْ فاتّق اللّه واصبر وأكثر من قول : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه " ففعل الرجل ذلك ، فبينا هو في بيته إذ أتاه ابنه وقد غفل عنه العدو فأصاب إبلا وجاء بها إلى أبيه وكان فقيراً " وقال الكلبي في رواية يوسف بن مالك : قدم ابنه ومعه خمسون بعيراً .

أخبرنا عبد اللّه بن حامد أخبرنا محمد بن عامر البلخي ، حدّثنا القاسم بن عبّاد ، حدّثنا صالح بن محمد الترمذي ، حدّثنا أَبُو علي غالب عن سلام بن سليم عن عبد الحميد عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : " جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول اللّه إنّ ابني أسره العدو وجزعت الأُم ، فما تأمرني ؟ قال : " [ اتّق اللّه واصبر ] وآمرك وإيّاها أن تستكثر من قول : لا حول ولا قوة إلاّ باللّه " . فانصرف إليها وقالت : ما قال لك النبي صلى الله عليه وسلم قال : أمرني وإياك أن نستكثر من قول : لا حول ولا قوة إلاّ بالله ، قالت : نِعْمَ ما أمرك به ، فجعلا يقولان فغفل عنه العدو فساق غنمهم فجاء بها إلى أبيه وهي أربعة آلاف شاة "

، فنزلت { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } ما ساقَ من الغنيمة .

وقال مقاتل : أصاب غنماً ومتاعاً ثمّ رجع إلى أبيه فانطلق أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر وسأله الحلّ له وأن يأكل ما أتاه به ابنه ، فقال النبي ( عليه السلام ) : «نعم » وأنزل اللّه تعالى هذه الآية .

أخبرنا ابن فنجويه الدينوري ، حدّثنا عبد اللّه بن محمد بن شيبة ، حدّثنا بن وهب ، أخبرنا عبد اللّه بن إسحاق ، حدّثنا عَمرو بن الأشعث ، حدّثنا سعد بن راشد الحنفي ، حدّثنا عبد اللّه بن سعيد بن أبي هند عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس قال : " قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } قال : مخرجاً من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة " .

وقال ابن مسعود ومسروق : { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } هو أن يعلم أنّه من قِبَل اللّه ، وأنّ اللّه تعالى رازقه وهو معطيه ومانعه . الربيع بن خيثم : { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } من كلّ شيء ضاق على الناس .

أَبُو العالية : مخرجاً من كلّ شدّة .

الحسن : مخرجاً عمّا نهاه عنه .

الحسين بن الفضل : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ } في أداء الفرائض { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } من العقوبة ويرزقه الثواب من حيث لا يحتسب .

وقال الصادق : " { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } يعني يبارك له فيما آتاه " .

وقال سهل : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ } في اتّباع السُّنّة { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } من عقوبة أهل البدع ، ويرزقه الجنّة من حيث لا يحتسب .

عَمرو بن عثمان الصدفي : ومن يقف عند حدوده ، ويحتسب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال ، ومن الضّيق إلى السعة ، ومن النّار إلى الجنّة .

أَبُو سعيد الخرّاز : ومن يتبرأ من حوله وقوّته بالرجوع إليه يجعل له مخرجاً ممّا كلّفهُ بالمعونه له .

علي بن صالح : { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } يقنّعه برزقه ، وقيل : ومن يتّق اللّه في الرزق وغيره بقطع العلائق يجعل له مخرجاً بالكفاية ويرزقه من حيث لا يحتسب .

أخبرنا أَبُو عبد اللّه بن فنجويه ، أخبرنا أَبُو مكي بن مالك المطيعي ، حدّثنا عبد اللّه بن أحمد بن حنبل ، حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي ، حدّثنا معتمر عن كهمس عن أبي السليل عن أبي ذر قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم

" إنّي لأعلم آيةً لو أخذ بها النّاس لكفتهم { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } فما يزال يقولها ويعيدها " .

ويحكى أنّ رجلا أتى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه فقال : ولّني مما ولاّك اللّه قال أتقرأ القرآن ؟ قال : لا . فقال : إنّا لا نولّي من لا يقرأ القرآن ، فانصرف الرجل واجتهد في تعلّم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيولّيه عملا ، فلمّا تعلم القرآن تخلّف عن عمر ، فرآه ذات يوم فقال : يا هذا هجرتنا ، فقال : يا أمير المؤمنين لست ممّن يهجر ، ولكنّي تعلّمت القرآن فأغناني اللّه تعالى عن عمر وعن باب عمر . فقال : أيُّ آية أغنتك ، فقال : قول اللّه تعالى : { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } .

أخبرنا عبد اللّه بن حامد بن محمد ، أخبرنا أحمد بن محمد بن عّدوس ، أخبرنا عثمان بن سعيد الرّازي ، حدّثنا مهدي بن جعفر الرّملي ، حدّثنا الوليد بن مسلم عن الحكم بن مصعب عن محمد بن علي عن عبد اللّه بن عباس عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم " من أكثر الاستغفار جعل اللّه له من كل همَ فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ويرزقهُ من حيثُ لا يحتسب " .

{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ } فيثق به ويسكن قلبه إليه في الموجود والمفقود .

{ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } قرأ العامة بالغ بالتنوين { أَمْرِهِ } النّصب : أي منفِّذٌ أمرَه ممضى في حلقة قضائه ، وقرأ طلحة بن مضر : بالغ أمره على الإضافة ، ومثلهُ روى حفص والمفضل عن عاصم .

وقرأ داود بن أبي هند : بالغ بالتنوين أمره : رفعاً .

قال الفراء : أي أمرهُ بالغ .

قال عبد الرحمن بن نافع : لما نزلت { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } قال أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حسبنا اللّه إذا توكلنا عليه ؛ فنحن ننسى ما كان لنا ولا نحفظهُ ، فأنزل اللّه تعالى { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } يعني منكم وعليكم .

{ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } حداً وأجلا ينتهي إليه .

قال مسروق : في هذه الآية { إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } توكل عليه أو لم يتوكل ، غير أنّ المتوكل عليه يكفِّر عنه سيئاته ويُعظم له أجرا .

قال الربيع : إنّ اللّه تعالى قضى على نفسه أنّ من توكل كفاهُ ، ومن آمن به هداهُ ، ومن أقرضهُ جازاهُ ، ومن وثق به نجّاه ، ومن دعاهُ أجاب له ، وتصديق ذلك في كتاب اللّه تعالى :

{ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ } [ التغابن : 11 ]

{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ]

{ إِن تُقْرِضُواْ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } [ التغابن : 17 ]

{ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ آل عمران : 101 ]

{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ . . . } [ البقرة : 186 ] .