إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

{ وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أي من وجهٍ لا يخطرُ ببالِهِ ولا يحتسبُهُ ويجوزُ أن يكونَ كلاماً جيءَ بهِ على نهجِ الاستطرادِ عند ذكرِ قولِهِ تعالى : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله } [ سورة الطلاق ، الآية 2 ] إلى آخرِهِ فالمَعْنَى ومن يتقِ الله في كلِّ ما يأتي وما يذرُ يجعلْ لهُ مخرجاً ومخلصاً من غمومِ الدُّنيا والآخرةِ فيندرجُ فيهِ ما نحنُ فيهِ اندراجاً أولياً . عن النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ أنه قرأَها فقالَ : «مخرجاً من شبهاتِ الدُّنيا ومن غمراتِ الموتِ ومن شدائدِ يومِ القيامةِ » وقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ : «إني لأعلمُ آيةً لو أخذَ الناسُ بها لكفتْهُم »{[785]} { ومن يتقِ الله } فما زال يقرؤها ويعيدُهَا . ورُوِيَ أن عوفَ بنَ مالكٍ الأشجعيَّ أسرَ المشركونَ ابنَهُ سالماً فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال : «أسرَ ابنِي وشكَا إليهِ الفاقةَ » فقالَ عليهِ الصلاةُ والسلامُ : «اتقِ الله وأكثِرْ قولَ لا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العليِّ العظيمِ » ففعلَ فبينَا هُو في بيتِهِ إذ قرعَ ابنُهُ البابَ ومعهُ مائةٌ من الإبلِ غفلَ عنها العدوُّ فاستاقَهَا فنزلتْ .

{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } أيْ كافيهِ في جميعِ أمورِهِ { إِنَّ الله بالغ أَمْرِهِ } بالإضافةِ أي منفذُ أمرِهِ وقُرِئَ بتنوينِ بالغُ ونصبِ أمرِهِ أيْ يبلغُ ما يريدُهُ لا يفوتُهُ مرادٌ ولا يُعجزُه مطلوبٌ ، وقُرِئَ برفعِ أمرِهِ على أنَّه مبتدأٌ وبالغٌ خبرٌ مقدمٌ ، والجملةُ خبرُ إنَّ أو بالغٌ خبر إنَّ ، وأمرُهُ مرتفعٌ بهِ على الفاعليةِ أي نافذ أمرُهُ . وقُرِئَ بالغاً أمرَهُ على أنَّه حالٌ وخبرُ إنَّ قولُهُ تعالَى : { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلّ شَيء قَدْراً } أي تقديراً وتوقيتاً أو مقداراً وهُو بيانٌ لوجوبِ التوكلِ عليهِ تعالَى ، وتفويضُ الأمرِ إليهِ لأنَّه إذا علمَ أنَّ كلَّ شيءٍ من الرزقِ وغيرِه لا يكونُ إلا بتقديرِه تعالَى لا يبقى إلا التسليمُ للقدرِ والتوكلُ على الله تعالى .


[785]:أخرجه الدارمي في كتاب الرقاق باب (16).