{ ويرزقه } أي : الثواب { من حيث لا يحتسب } أي : يبارك له فيما أتاه ، وقال سهل بن عبد الله : ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجاً من عقوبة البدع ، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب ، وقال أبو سعيد الخدري : ومن تبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله تعالى يجعل له مخرجاً مما كلفه الله بالمعونة له ، وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم ، وهذا هو الذي يقوى عندي .
وقال أبو ذر : «قال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آيه لو أخذ الناس بها لكفتهم ، وتلا : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } قال : مخرجاً من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة » .
وقال أكثر المفسرين : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه الفاقة ، وقال : إن العدو أسر ابني وجزعت الأم فما تأمرني ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «اتقي الله واصبر ، وآمرك وإياها أن تكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فقالت : نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وجاء بها إلى المدينة وهي أربعة آلاف شاة فنزلت الآية ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له » وروي أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو ، وكان فقيراً . فقال الكلبي : إنه أصاب خمسين بعيراً ، وفي رواية فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة لقوم فمر بسرح لهم فاستاقه ، وقال مقاتل : أصاب غنماً ومتاعاً ، فقال أبوه للنبي صلى الله عليه وسلم أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني قال : نعم ونزل { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } وروى الحسن عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها » .
وقال الزجاج : أي : إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ، ورزقه من حيث لا يحتسب . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب » .
{ ومن يتوكل } أي : يسند أموره كلها معتمداً فيها { على الله } أي : الملك الذي بيده كل شيء ولا كفء له { فهو } أي : الله في غيبه فضلاً عن الشهادة بسبب توكله { حسبه } أي : كافيه ما أهمه ، وحذف المتعلق للتعميم ، وحرف الاستعلاء للإشارة إلى أنه كان حمل أموره كلها عليه سبحانه ، لأنه القوي العزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار إلى غير ذلك من المعاني الكبار ، فلا يبدو له عالم الشهادة شيء يشينه .
وقيل : من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ولم يرد الدنيا ، لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل ، وفي الحديث : «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً » ويؤخذ من هذا أن التوكل يكون مع مباشرة الأسباب لأنه صلى الله عليه وسلم قال : تغدو وتروح وهي من المقامات العظيمة . قال البقاعي نقلاً عن المولوي : وإلا كان اتكالاً ، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة ؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب . ا . ه .
ولما كان ذلك أمراً إلا يكاد يحيط به الوهم بقوله تعالى مهوّلاً له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار : { إن الله } أي : المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص { بالغ أمره } أي : جميع ما يريده فلا بد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا ، قال مسروق : يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه ، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً . وقرأ حفص : بالغ ، بغير تنوين وأمره بالجر مضاف إليه على التخفيف ، والباقون بالتنوين ، وأمره بنصب الراء وضم الهاء . قال ابن عادل : وهو الأصل خلافاً لأبي حيان { قد جعل الله } أي : الملك الذي لا كفء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقييد بجهة ولا حيثية { لكل شيء } كرخاء وشدة { قدراً } أي : تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه وجميع عوارضه وأحواله ، وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه . فمن توكل استفاد الأجر ، وخفف عنه الألم ، وقذف في قلبه السكينة ، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك ، وزاد ألمه وطال غمه بشدة وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجية . فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء ، ولا ينقص منها شيء .
ويحكى أن رجلاً أتى عمر فقال : أولني مما أولاك الله ، فقال : أتقرأ القرآن ، قال : لا ، قال : إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن ، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه فلما تعلم القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال : يا هذا أهجرتنا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر ، ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر ، قال : فأي آية أغنتك قال : قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } فمن توكل على غيره سبحانه ضاع ، لأنه لا يعلم المصالح وإن علم لا يعلم كيف يستعملها ، وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله ولا يعلمه حق علمه غيره .
تنبيه : الآية تفهم أن من لم يتق الله يقتر عليه ، وهو موافق لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : «لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الزرق بالذنب يصيبه » . وتفهم أن من لم يتوكل لم يكف شيئاً من الأشياء .
وقال عبد الله بن رافع : لما نزل قوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه ، فنزل { إن الله بالغ أمره } فيكم وعليكم . وقال الربيع بن خيثم : إن الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجاه ، ومن دعاه أجاب له . وتصديق ذلك في كتاب الله { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } [ التغابن : 11 ]
{ ومن يتوكل على الله فهو حسبه } { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم } [ التغابن : 17 ] { ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } [ آل عمران : 101 ] { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } [ البقرة : 186 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.