السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَيَرۡزُقۡهُ مِنۡ حَيۡثُ لَا يَحۡتَسِبُۚ وَمَن يَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسۡبُهُۥٓۚ إِنَّ ٱللَّهَ بَٰلِغُ أَمۡرِهِۦۚ قَدۡ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيۡءٖ قَدۡرٗا} (3)

{ ويرزقه } أي : الثواب { من حيث لا يحتسب } أي : يبارك له فيما أتاه ، وقال سهل بن عبد الله : ومن يتق الله في اتباع السنة يجعل له مخرجاً من عقوبة البدع ، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب ، وقال أبو سعيد الخدري : ومن تبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله تعالى يجعل له مخرجاً مما كلفه الله بالمعونة له ، وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم ، وهذا هو الذي يقوى عندي .

وقال أبو ذر : «قال النبي صلى الله عليه وسلم إني لأعلم آيه لو أخذ الناس بها لكفتهم ، وتلا : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } قال : مخرجاً من شبهات الدنيا ، ومن غمرات الموت ، ومن شدائد يوم القيامة » .

وقال أكثر المفسرين : نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون ابناً له يسمى سالماً فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتكي إليه الفاقة ، وقال : إن العدو أسر ابني وجزعت الأم فما تأمرني ؟ فقال صلى الله عليه وسلم «اتقي الله واصبر ، وآمرك وإياها أن تكثرا من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله فعاد إلى بيته وقال لامرأته : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فقالت : نعم ما أمرنا به فجعلا يقولان فغفل العدو عن ابنه فساق غنمهم وجاء بها إلى المدينة وهي أربعة آلاف شاة فنزلت الآية ، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم تلك الأغنام له » وروي أنه جاء وقد أصاب إبلاً من العدو ، وكان فقيراً . فقال الكلبي : إنه أصاب خمسين بعيراً ، وفي رواية فأفلت ابنه من الأسر وركب ناقة لقوم فمر بسرح لهم فاستاقه ، وقال مقاتل : أصاب غنماً ومتاعاً ، فقال أبوه للنبي صلى الله عليه وسلم أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني قال : نعم ونزل { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } وروى الحسن عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها » .

وقال الزجاج : أي : إذا اتقى وآثر الحلال والصبر على أهله فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ، ورزقه من حيث لا يحتسب . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ، ومن كل ضيق مخرجاً ، ورزقه من حيث لا يحتسب » .

{ ومن يتوكل } أي : يسند أموره كلها معتمداً فيها { على الله } أي : الملك الذي بيده كل شيء ولا كفء له { فهو } أي : الله في غيبه فضلاً عن الشهادة بسبب توكله { حسبه } أي : كافيه ما أهمه ، وحذف المتعلق للتعميم ، وحرف الاستعلاء للإشارة إلى أنه كان حمل أموره كلها عليه سبحانه ، لأنه القوي العزيز الذي يدفع عنه كل ضار ويجلب له كل سار إلى غير ذلك من المعاني الكبار ، فلا يبدو له عالم الشهادة شيء يشينه .

وقيل : من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية ولم يرد الدنيا ، لأن المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل ، وفي الحديث : «لو أنكم توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصاً وتروح بطاناً » ويؤخذ من هذا أن التوكل يكون مع مباشرة الأسباب لأنه صلى الله عليه وسلم قال : تغدو وتروح وهي من المقامات العظيمة . قال البقاعي نقلاً عن المولوي : وإلا كان اتكالاً ، وليس بمقام بل خسة همة وعدم مروءة ؛ لأنه إبطال حكمة الله التي أحكمها في الدنيا من ترتب المسببات على الأسباب . ا . ه .

ولما كان ذلك أمراً إلا يكاد يحيط به الوهم بقوله تعالى مهوّلاً له بالتأكيد والإظهار في موضع الإضمار : { إن الله } أي : المحيط بكل كمال المنزه عن كل شائبة نقص { بالغ أمره } أي : جميع ما يريده فلا بد من نفوذه سواء حصل توكل أم لا ، قال مسروق : يعني قاضٍ أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه ، إلا أن من توكل عليه يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً . وقرأ حفص : بالغ ، بغير تنوين وأمره بالجر مضاف إليه على التخفيف ، والباقون بالتنوين ، وأمره بنصب الراء وضم الهاء . قال ابن عادل : وهو الأصل خلافاً لأبي حيان { قد جعل الله } أي : الملك الذي لا كفء له ولا معقب لحكمه جعلاً مطلقاً من غير تقييد بجهة ولا حيثية { لكل شيء } كرخاء وشدة { قدراً } أي : تقديراً لا يتعداه في مقداره وزمانه وجميع عوارضه وأحواله ، وإن اجتهد جميع الخلائق في أن يتعداه . فمن توكل استفاد الأجر ، وخفف عنه الألم ، وقذف في قلبه السكينة ، ومن لم يتوكل لم ينفعه ذلك ، وزاد ألمه وطال غمه بشدة وخيبة أسبابه التي يعتقد أنها هي المنجية . فمن رضي فله الرضا ، ومن سخط فله السخط جف القلم فلا يزاد في المقادير شيء ، ولا ينقص منها شيء .

ويحكى أن رجلاً أتى عمر فقال : أولني مما أولاك الله ، فقال : أتقرأ القرآن ، قال : لا ، قال : إنا لا نولي من لا يقرأ القرآن ، فانصرف الرجل واجتهد حتى تعلم القرآن رجاء أن يعود إلى عمر فيوليه فلما تعلم القرآن تخلف عن عمر فرآه ذات يوم فقال : يا هذا أهجرتنا ؟ فقال : يا أمير المؤمنين لست ممن يهجر ، ولكني تعلمت القرآن فأغناني الله عن عمر وعن باب عمر ، قال : فأي آية أغنتك قال : قوله تعالى : { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً } فمن توكل على غيره سبحانه ضاع ، لأنه لا يعلم المصالح وإن علم لا يعلم كيف يستعملها ، وهو سبحانه المنفرد بعلم ذلك كله ولا يعلمه حق علمه غيره .

تنبيه : الآية تفهم أن من لم يتق الله يقتر عليه ، وهو موافق لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : «لا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر ، وإن الرجل ليحرم الزرق بالذنب يصيبه » . وتفهم أن من لم يتوكل لم يكف شيئاً من الأشياء .

وقال عبد الله بن رافع : لما نزل قوله تعالى : { ومن يتوكل على الله فهو حسبه } قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه ، فنزل { إن الله بالغ أمره } فيكم وعليكم . وقال الربيع بن خيثم : إن الله قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ، ومن آمن به هداه ، ومن أقرضه جازاه ، ومن وثق به نجاه ، ومن دعاه أجاب له . وتصديق ذلك في كتاب الله { ومن يؤمن بالله يهد قلبه } [ التغابن : 11 ]

{ ومن يتوكل على الله فهو حسبه } { إن تقرضوا الله قرضاً حسناً يضاعفه لكم } [ التغابن : 17 ] { ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم } [ آل عمران : 101 ] { وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان } [ البقرة : 186 ] .