ثم نزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك : { لو كان عرضًا قريباً } ، واسم كان مضمر ، أي : لو كان ما تدعونهم إليه عرضا قريبا ، أي : غنيمة قريبة المتناول ، { وسفراً قاصداً } ، أي قريبا هينا ، { لاتبعوك } ، لخرجوا معك ، { ولكن بعدت عليهم الشقة } أي : المسافة ، والشقة : السفر البعيد ، لأنه يشق على الإنسان . وقيل : الشقة الغاية التي يقصدونها ، { وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم } ، يعني باليمين الكاذبة ، { والله يعلم إنهم لكاذبون } ، في أيمانهم وإيمانهم ، لأنهم كانوا مستطيعين .
لو كان خروجهم لطلب العرض القريب ، أي : منفعة دنيوية سهلة التناول { و } كان السفر { سَفَرًا قَاصِدًا } أي : قريبا سهلا . { لَاتَّبَعُوكَ } لعدم المشقة الكثيرة ، { وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } أي : طالت عليهم المسافة ، وصعب عليهم السفر ، فلذلك تثاقلوا عنك ، وليس هذا من أمارات العبودية ، بل العبد حقيقة هو المتعبد لربه في كل حال ، القائم بالعبادة السهلة والشاقة ، فهذا العبد للّه على كل حال .
{ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي : سيحلفون أن تخلفهم عن الخروج أن لهم أعذرا وأنهم لا يستطيعون ذلك .
{ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ } بالقعود والكذب والإخبار بغير الواقع ، { وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
وهذا العتاب إنما هو للمنافقين ، الذين تخلفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في { غزوة تبوك } وأبدوا من الأعذار الكاذبة ما أبدوا ، فعفا النبي صلى الله عليه وسلم عنهم بمجرد اعتذارهم ، من غير أن يمتحنهم ، فيتبين له الصادق من الكاذب ، ولهذا عاتبه اللّه على هذه المسارعة إلى عذرهم فقال :
( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لا تبعوك ، ولكن بعدت عليهم الشقة ؛ وسيحلفون باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم ، يهلكون أنفسهم ، واللّه يعلم إنهم لكاذبون . عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين ? لا يستأذنك الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم واللّه عليم بالمتقين . إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر ، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون ؛ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره اللّه انبعاثهم ، فثبطهم ، وقيل : اقعدوا مع القاعدين . لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة ، وفيكم سماعون لهم ، واللّه عليم بالظالمين . لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون ) . .
لو كان الأمر أمر عرض قريب من أعراض هذه الأرض ، وأمر سفر قصير الأمد مأمون العاقبة لاتبعوك ! ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة . ولكنه الجهد الخطر الذي تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب المنخوبة . ولكنه الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبنية المهزولة .
وإنه لنموذج مكرور في البشرية ذلك الذي ترسمه تلك الكلمات الخالدة :
( لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة ) . .
فكثيرون هم أولئك الذين يتهاوون في الطريق الصاعد إلى الآفاق الكريمة . كثيرون أولئك الذين يجهدون لطول الطريق فيتخلفون عن الركب ويميلون إلى عرض تافه أو مطلب رخيص . كثيرون تعرفهم البشرية
في كل زمان وفي كل مكان ، فما هي قلة عارضة ، إنما هي النموذج المكرور . وإنهم ليعيشون على حاشية الحياة ، وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع ونالوا مطالب ، واجتنبوا أداء الثمن الغالي ، فالثمن القليل لا يشتري سوى التافه الرخيص !
( وسيحلفون باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم ) . .
فهو الكذب المصاحب للضعف أبداً . وما يكذب إلا الضعفاء . أجل ما يكذب إلا ضعيف ولو بدا في صورة الأقوياء الجبارين في بعض الأحايين . فالقوي يواجه والضعيف يداور . وما تتخلف هذه القاعدة في موقف من المواقف ولا في يوم من الأيام . .
بهذا الحلف وبهذا الكذب ، الذي يخيل إليهم أنه سبيل النجاة عند الناس ، واللّه يعلم الحق ، ويكشفه للناس ، فيهلك الكاذب في الدنيا بكذبه ، ويهلك في الآخرة يوم لا يجدي النكران .
يقول تعالى موبّخًا للذين تخلفوا عن النبي{[13537]} صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وقعدوا عن النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما استأذنوه في ذلك ، مظهرين أنهم ذوو أعذار ، ولم يكونوا كذلك ، فقال : { لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا } قال ابن عباس : غنيمة قريبة ، { وَسَفَرًا قَاصِدًا } أي : قريبا أيضا ، { لاتَّبَعُوكَ } أي : لكانوا جاءوا معك لذلك ، { وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ } أي : المسافة إلى الشام ، { وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ } أي : لكم إذا رجعتم إليهم { لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ } أي : لو لم تكن لنا أعذار لخرجنا معكم ، قال الله تعالى : { يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }
القول في تأويل قوله تعالى : { لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاّتّبَعُوكَ وَلََكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشّقّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنّهُمْ لَكَاذِبُونَ } .
يقول جلّ ثناؤه للنبي صلى الله عليه وسلم ، وكانت جماعة من أصحابه قد استأذنوه في التخلف عنه حين خرج إلى تبوك فأذن لهم : لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك والمستأذنيك في ترك الخروج معك إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه ، عَرَضا قَرِيبا يقول : غنيمة حاضرة ، وسَفَرا قاصِدا ، يقول : وموضعا قريبا سهلاً ، لاتّبعوكَ ونفروا معك إليهما ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد ، وكلفتهم سفرا شاقّا عليهم ، لأنك استنهضتهم في وقت الحرّ وزمان القيظ وحين الحاجة إلى الكنّ . وسَيَحْلِفُونَ باللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يقول تعالى ذكره : وسيحلف لك يا محمد هؤلاء المستأذنوك في ترك الخروج معك اعتذارا منهم إليك بالباطل ، لتقبل منهم عذرهم ، وتأذن لهم في التخلف عنك بالله كاذبين : لو استطعنا لخرجنا معكم يقول : لو أطقنا الخروج معكم بوجود السعة والمراكب والظهور وما لا بدّ للمسافر والغازي منه ، وصحة البدن والقوى ، لخرجنا معكم إلى عدوّكم . يُهْلِكُونَ أنْفُسَهُمْ يقول : يوجبون لأنفسهم بحلفهم بالله كاذبين الهلاك والعطب ، لأنهم يورثونها سخط الله ويكسبونها أليم عقابه . وَاللّهُ يَعْلَمُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ في حلفهم باللّهِ لو استطعنا لخرجنا معكم لأنهم كانوا للخروج مطيقين بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال مما يحتاج إليه الغازي في غزوه والمسافر في سفره وصحة الأبدان وقوى الأجسام .
وبنحو الذي قلنا ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : لَوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا إلى قوله لَكَاذِبُونَ إنهم يستطيعون الخروج ، ولكن كان تبطئة من عند أنفسهم والشيطان وزهادة في الخير .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة : وَلَوْ كَانَ عَرَضا قَرِيبا قال : هي غزوة تبوك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : وَاللّهُ يَعْلَمُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ إي أنهم يستطيعون . ذكر من قال ذلك .
{ لو كان عرضا } أي لو كان ما دعوا إليه نفعا دنيويا . { قريبا } سهل المأخذ . { وسفرا قاصدا } متوسطا . { لاتّبعوك } لوافقوك . { ولكن بعُدت عليهم الشُّقة } أي المسافة التي تقطع بمشقة . وقرئ بكسر العين والشين . { وسيحلفون بالله } أي المتخلفون إذا رجعت من تبوك معتذرين . { لو استطعنا } يقولون لو كان لنا استطاعة العدة أو البدن . وقرئ { لو استطعنا } بضم الواو تشبيها لها بواو الضمير في قوله : { اشتروا الضلالة } { لخرجنا معكم } ساد مسد جوابي القسم والشرط ، وهذا من المعجزات لأنه إخبار عما وقع قبل وقوعه . { يهلكون أنفسهم } بإيقاعها في العذاب ، وهو بدل من سيحلفون لأن الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك أو حال من فاعله . { والله يعلم أنهم لكاذبون } في ذاك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج .
وقوله : { لو كان عرضاً قريباً } الآية ، ظاهر هذه الآية وما يحفظ من قصة تبوك أن الله لما أمر رسوله بغزو الروم نذب الناس وكان ذلك في شدة من الحر وطيب من الثمار والظلال ، فنفر المؤمنون ، واعتذر منهم لا محالة فريق لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة ، ويدل على ذلك قوله في أول هذه الآية
{ يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض } [ التوبة : 38 ] ، لأن هذا الخطاب ليس للمنافقين خاصة بل هو عام ، واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة ، وكانوا بسبيل كسل مفرط وقصد للتخلف وكانت أعذار المؤمنين خفيفة ولكنهم تركوا الأولى من التحامل ، فنزل ما سلف من الآيات في عتاب المؤمنين ، ثم ابتدأ من هذه الآية ذكر المنافقين وكشف ضمائرهم ، فيقول لو كان هذا الغزو لعرض أي لمال وغنيمة تنال قريباً بسفر قاصد يسير لبادروا إليه ، لا لوجه الله ولا لظهور كلمته ، ولكن بعدت عليهم الشقة في غزو الروم أي المسافة الطويلة ، وذكر أبو عبيدة أن أعرابياً قدم البصرة وكان قد حمل حمالة فعجز عنها ، وكان معه ابن له يسمى الأحوص ، فبادر الأحوص أباه بالقول ، فقال : إنا من تعلمون ، وابنا سبيل ، وجئنا من شقة ، ونطلب في حق ، وتنطوننا{[5665]} ويجزيكم الله فتهيأ أبوه ليخطب فقال له :«يا ، إياك ، إني قد كفيتك » .
قال القاضي أبو محمد : يا تنبيه وإياك نهي ، وقرأ عيسى ابن عمر «الشِّقة » بكسر الشين ، وقرأ الأعرج «بعِدت » بكسر العين ، وحكى أبو حاتم أنها لغة بني تميم في اللفظتين ، وقوله { سيحلفون بالله } يريد المنافقين ، وهذا إخبار بغيب ، وقوله { يهلكون أنفسهم } يريد عند تخلفهم مجاهرة وكفرهم ، فكأنهم يوجبون على أنفسهم الحتم بعذاب الله .
ثم أخبر أن الله الذي هو أعدل الشاهدين يعلم كذبهم وأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكنهم تركوه كفراً ونفاقاً ، وهذا كله في الجملة لا بتعيين شخص ولو عين لقتل بالشرع ، وقرأ الأعمش على جهة التشبيه بواو ضمير الجماعة «لوُ استطعنا » بضم الواو ، ذكره ابن جني ، ومثله بقوله{[5666]} تعالى : { لقد ابتغوا الفتنة }{[5667]} { فتمنوا الموت }{[5668]} و { اشتروا الضلالة }{[5669]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{لو كان عرضا قريبا}، يعني غنيمة قريبة، {وسفرا قاصدا}، يعني هينا، {لاتبعوك} في غزاتك، {ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا) يعني لو وجدنا سعة في المال، {لخرجنا معكم} في غزاتكم، {يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون} بأن لهم سعة في الخروج، ولكنهم لم يريدوا الخروج...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت جماعة قد استأذنوه في التخلف عنه حين خرج إلى تبوك فأذن لهم: لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك والمستأذنيك في ترك الخروج معك إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه، "عَرَضا قَرِيبا "يقول: غنيمة حاضرة، "وسَفَرا قاصِدا"، يقول: وموضعا قريبا سهلاً، "لاتّبعوكَ" ونفروا معك إليهما، ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد، وكلفتهم سفرا شاقّا عليهم، لأنك استنهضتهم في وقت الحرّ وزمان القيظ وحين الحاجة إلى الكنّ. "وسَيَحْلِفُونَ باللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ" يقول تعالى ذكره: وسيحلف لك يا محمد هؤلاء المستأذنوك في ترك الخروج معك اعتذارا منهم إليك بالباطل، لتقبل منهم عذرهم، وتأذن لهم في التخلف عنك بالله كاذبين: "لو استطعنا لخرجنا معكم" يقول: لو أطقنا الخروج معكم بوجود السعة والمراكب والظهور وما لا بدّ للمسافر والغازي منه، وصحة البدن والقوى، لخرجنا معكم إلى عدوّكم. "يُهْلِكُونَ أنْفُسَهُمْ" يقول: يوجبون لأنفسهم بحلفهم بالله كاذبين الهلاك والعطب، لأنهم يورثونها سخط الله ويكسبونها أليم عقابه. "وَاللّهُ يَعْلَمُ إنّهُمْ لَكَاذِبُونَ" في حلفهم باللّهِ لو استطعنا لخرجنا معكم لأنهم كانوا للخروج مطيقين بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال مما يحتاج إليه الغازي في غزوه والمسافر في سفره وصحة الأبدان وقوى الأجسام.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... وأصل قوله: (لو كان عرضا قريبا) أي منافع حاضرة (وسفرا قاصدا) أي منافع غائبة، والعرض: المنافع. يقول: لو كانت لهم منافع حاضرة (لاتبعوك) في ما استتبعتهم لأن عادتهم اتباع المنافع؛ يعني المنافقين...
وأما المؤمنون يعبدون الله في كل حال: في حالة السعة وفي حالة الضيق، ويتبعون رسول الله، ولا يفارقونه، كانت لهم منافع، أو لم تكن، أصابتهم مشقة، أو لا؛ هم لا يفارقون رسول الله على كل حال.
وقوله تعالى: (وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوْ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ) أي لو كان لنا ظهر وسلاح (لخرجنا معكم) ولو كان معنا زاد وما نشتري ما نحارب به (لخرجنا معكم). ثم أخبر أنه لهم استطاعة على ذلك، وأنهم كاذبون أنه لا استطاعة لهم حين قال: (وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً)...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
يريد به المتخلفين عنه في غزوة "تبوك"، بيَّنَ سبحانه أنه لو كانت المسافةُ قريبةً، والأمرُ هيِّناً لَمَا تخلَّفوا عنك؛ لأنَّ مَنْ كان غيرَ متحقِّقٍ في قَصْدِه كان غيرَ بالغ في جهده، يعيش على حَرْفٍ، ويتصرَّف بحرف، فإِنْ أصابه خيرٌ اطمأنَّ به وإنْ أصابَتْه فتنةٌ انقلبَ على وجهه. وقال تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ} [محمد: 21]. فإذا رأيتَ المريدَ يتبعُ الرُّخَصَ ويَجْنَحُ إلى الكسل، ويتعلَّلُ بالتأويلاتِ.. فاعلَمْ أنه مُنْصَرِفٌ عن الطريق، متخلِّفٌ عن السلوك،...
قوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ}: يمين المتعلِّلِ والمُتَأَوِّلِ يمينٌ فاجرةٌ تشهد بكذبها عيون الفراسة، وتنفر منها القلوب، فلا تجد من القلوب محلاً...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
العرض: ما عرض لك من منافع الدنيا. يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، أي لو كان ما دعوا إليه غنماً قريباً سهل المنال {وَسَفَرًا قَاصِدًا} وسطاً مقارباً. {الشقة}: المسافة الشاقّة...
{وَسَيَحْلِفُونَ بِاللهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ}... أي سيحلفون بعني المتخلفين عند رجوعك من غزوة تبوك معتذرين يقولون بالله {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} أو سيحلفون بالله ويقولون: لو استطعنا، وقوله: {لَخَرَجْنَا} سدّ مسدّ جوابي القسم ولو جميعاً، والإخبار بما سوف يكون بعد القفول من حلفهم واعتذارهم. وقد كان من جملة المعجزات. ومعنى الاستطاعة: استطاعة العدّة، أو استطاعة الأبدان، كأنهم تمارضوا... {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} إما أن يكون بدلاً من سيحلفون، أو حالاً بمعنى مهلكين. والمعنى: أنهم يوقعونها في الهلاك بحلفهم الكاذب وما يحلفون عليه من التخلف. ويحتمل أن يكون حالاً من قوله: {لَخَرَجْنَا} أي لخرجنا معكم، وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها من المسير في تلك الشقة. وجاء به على لفظ الغائب لأنه مخبر عنهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله: {لو كان عرضاً قريباً} الآية، ظاهر هذه الآية وما يحفظ من قصة تبوك أن الله لما أمر رسوله بغزو الروم ندب الناس وكان ذلك في شدة من الحر وطيب من الثمار والظلال، فنفر المؤمنون، واعتذر منهم لا محالة فريق لا سيما من القبائل المجاورة للمدينة، ويدل على ذلك قوله في أول هذه الآية
{يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38]، لأن هذا الخطاب ليس للمنافقين خاصة بل هو عام، واعتذر المنافقون بأعذار كاذبة، وكانوا بسبيل كسل مفرط وقصد للتخلف وكانت أعذار المؤمنين خفيفة ولكنهم تركوا الأولى من التحامل، فنزل ما سلف من الآيات في عتاب المؤمنين، ثم ابتدأ من هذه الآية ذكر المنافقين وكشف ضمائرهم، فيقول لو كان هذا الغزو لعرض أي لمال وغنيمة تنال قريباً بسفر قاصد يسير لبادروا إليه، لا لوجه الله ولا لظهور كلمته، ولكن بعدت عليهم الشقة في غزو الروم أي المسافة الطويلة...
وقوله {سيحلفون بالله} يريد المنافقين، وهذا إخبار بغيب، وقوله {يهلكون أنفسهم} يريد عند تخلفهم مجاهرة وكفرهم، فكأنهم يوجبون على أنفسهم الحتم بعذاب الله.
ثم أخبر أن الله الذي هو أعدل الشاهدين يعلم كذبهم وأنهم كانوا يستطيعون الخروج ولكنهم تركوه كفراً ونفاقاً، وهذا كله في الجملة لا بتعيين شخص ولو عين لقتل بالشرع..
اعلم أنه تعالى لما بالغ في ترغيبهم في الجهاد في سبيل الله، وكان قد ذكر قوله: {يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، وبين أن أقواما، مع كل ما تقدم من الوعيد والحث على الجهاد، تخلفوا في غزوة تبوك، وبين أنه {لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى: العرض ما عرض لك من منافع الدنيا...
قال الزجاج: فيه محذوف والتقدير: لو كان المدعو إليه سفرا قاصدا، فحذف اسم (كان) لدلالة ما تقدم عليه. وقوله: {وسفرا قاصدا} قال الزجاج: أي سهلا قريبا. وإنما قيل لمثل هذا قاصدا، لأن المتوسط، بين الإفراط، والتفريط، يقال له: مقتصد. قال تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد} وتحقيقه أن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد، فسمي قاصدا، وتفسير القاصد: ذو قصد... قوله: {ولكن بعدت عليهم الشقة} قال الليث: الشقة بعد مسيره إلى أرض بعيدة يقال: شقة شاقة، والمعنى: بعدت عليهم الشاقة البعيدة، والسبب في هذا الاسم أنه شق على الإنسان سلوكها...
المسألة الثانية: هذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، ومعنى الكلام أنه لو كانت المنافع قريبة والسفر قريبا لاتبعوك طمعا منهم في الفوز بتلك المنافع، ولكن طال السفر فكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة، بسبب أنهم كانوا يستعظمون غزو الروم، فلهذا السبب تخلفوا. ثم أخبر الله تعالى أنه إذا رجع من الجهاد يجدهم {يحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} إما عندما يعاتبهم بسبب التخلف، وإما ابتداء على طريقة إقامة العذر في التخلف، ثم بين تعالى أنهم يهلكون أنفسهم بسبب ذلك الكذب والنفاق. وهذا يدل على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام:"اليمين الغموس تدع الديار بلاقع" ثم قال: {والله يعلم إنهم لكاذبون} في قولهم ما كنا نستطيع الخروج، فإنهم كانوا مستطيعين الخروج.
المسألة الثالثة: دلت الآية على أن قوله: {انفروا خفافا وثقالا} إنما يتناول من كان قادرا متمكنا، إذ عدم الاستطاعة عذر في التخلف...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان هذا العتاب مؤذناً بأن فيهم من تباطأ عن الجهاد اشتغالاً بنحو الأموال والأولاد، وكان ما اشتملت عليه هذه الآيات من الأوامر والزواجر والمواعظ جديرا: بأن يخفف كل متثاقل وينشط كل متكاسل، تشوفت النفوس إلى ما اتفق بعد ذلك فأعلم سبحانه به في أساليب البلاغة المخبرة عن أحوال القاعدين وأقاصيص الجامدين المفهمة أن هناك من غلب عليه الشقاء فلم ينتفع بالمواعظ، فالتفت من لطف الإقبال إلى تبكيت المتثاقلين بأسلوب الإعراض المؤذن بالغضب المحقق للسخط المبين لفضائحهم المبعثر لقبائحهم المخرج لهم مما دخلوا فيه من عموم الدعاء باسم الإيمان فقال: {لو كان} أي ما تدعوا إليه {عرضاً} أي متاعاً دنيوياً {قريباً} أي سهل التناول {وسفراً قاصداً} أي وسطاً عدلاً مقارباً {لا تبعوك} أي لأجل رجاء العرض مع سهولة السفر لأن هممهم قاصرة و منوطة بالحاضر {ولكن} أي لم يتبعوك تثاقلاً إلى الأرض ورضى بالفاني الحاضر من الباقي الغائب لأنها {بعدت عليهم الشقة} أي المسافة التي تطوى بذرع الأرجل بالمسير فيحصل بها النكال والمشقة فلم يواز ما يحصل لهم بها من التعب ما يرجونه من العرض، فاستأذنوك، وفي هذا إشارة إلى ذمهم بسفول الهمم ودناءة الشيم بالعجز والكسل والنهم والثقل، وإلى أن هذا الدين متين لا يحمله إلا ماضي الهم صادق العزم...فلله در أولي العزائم والصبر على الشدائد والمغارم! ولما ذمهم بالشح بالدنيا، أتبعه وصمهم بالسماح بالدين فقال مخبراً عما سيكون منهم علماً من أعلام النبوة: {وسيحلفون} أي المتخلفون بإخبار محقق لا خلف فيه {بالله} أي الذي لا أعظم منه عند رجوعكم إليهم جمعاً إلى ما انتهكوا من حرمتك بالتخلف عنك لانتهاك حرمة الله بالكذب قائلين: والله {لو استطعنا} أي الخروج إلى ما دعوتمونا إليه {لخرجنا معكم} يحلفون حال كونهم {يهلكون أنفسهم} أي بهذا الحلف الذي يريدون به حياتها لأنهم كذبوا فيه فانتهكوا حرمة اسم الله {والله} أي والحال أن الملك الأعظم المحيط علماً وقدرة سبحانه {يعلم إنهم لكاذبون*} فقد جمعوا بين إهلاك أنفسهم والفضيحة عند الله بعلمه بكذبهم في أنهم غير مستطيعين، وجزاء الكاذب في مثل ذلك الغضب المؤبد الموجب للعذاب الدائم المخلد.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{لو كان عرضا قريبا وسفرا قاصدا لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم والله يعلم إنهم لكاذبون (42) عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين (43)} كان دأب المؤمنين وعادتهم إذا استنفرهم الرسول صلى الله عليه وسلم للقتال أن ينفروا بهمة ونشاط، ولما استنفرهم لغزوة تبوك تثاقلوا لما تقدم من الأسباب، وللتثاقل درجات تختلف باختلاف قوة الإيمان وضعفه، ويسر الأسباب وعسرها، وكثرة الأعذار وقلتها، ولكن نفر الأكثرون طائعين، وتخلف الأقلون عاجزين. وأما المنافقون فقد كبر عليهم الأمر، وعظم فيهم الخطب، وطفقوا ينتحلون الأعذار الواهية، ويستأذنونه صلى الله عليه وسلم في القعود والتخلف فيأذن لهم، فكان نزول هذه الآيات وما بعدها لبيان تلك الحال وأحكام تلك الوقائع. وهي لا تفهم إلا بمعرفة أسبابها، كما كان يعرفها من وقعت منهم ومعهم وفيما بينهم. ومن حكمة الله تعالى في هذا الأسلوب أنه يضطر المؤمنين بعد ذلك العصر إلى البحث عن تاريخه ليستعينوا به على فهم ما تعبدهم الله تعالى به من الآيات فيعرفوا نشأة دينهم، وسياسة ملتهم، وصفة تكوين أمتهم، ولا شيء أعون للأمم على حفظ حقيقتها كمعرفة تاريخها.
أي لو كان ما استنفرتهم له ودعوتهم إليه أيها الرسول عرضاً وهو ما يعرض للمرء من منفعة ومتاع، مما لا ثبات له ولا بقاء قريب المكان أو المنال، ليس في الوصول إليه كبير عناء، وسفراً قاصداً -أي وسطاً لا مشقة فيه ولا كلال -لاتبعوك فيه، وأسرعوا بالنفر إليه، لأن حب المنافع المادية والرغبة فيها لاصقة بطبع الإنسان، وناهيك بها إذا كانت سهلة المأخذ قريبة المنال، وكان الراغب فيها من غير الموقنين بالآخرة وما فيها من الأجر العظيم للمجاهدين، كأولئك المنافقين. {ولكن بعدت عليهم الشقة} التي دعوا إليها وهي تبوك والشقة الناحية، أو المسافة والطريق التي لا تقطع إلا بتكبد المشقة والتعب وكبر عليهم التعرض لقتال الروم في ديار ملكهم، وهم أكبر دول الأرض الحربية، فتخلفوا جبناً وحباً بالراحة والسلامة. {وسيحلفون بالله} أي بعد رجوعكم إليهم، وقال: {سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم} [التوبة: 95] كما قال: {يعتذرون إليكم إذا رجعتم إليهم} [التوبة: 94] قائلين {لو استطعنا لخرجنا معكم} أي لو استطعنا الخروج إلى الجهاد بانتفاء الأعذار المانعة لخرجنا معكم، فإننا لم نتخلف عنكم إلا مضطرين. {يهلكون أنفسهم} بامتهان اسم الله تعالى بالحلف الكاذب لستر نفاقهم وإخفائه، يؤيدون الباطل بالباطل، ويدعمون الإجرام بالإجرام، أو بالتخلف عن الجهاد المفضي إلى الفضيحة، وما تقتضيه من سوء المعاملة، فالجملة مبينة لحالهم في حلفهم أو ما كان سبباً له، وأنهم يريدون به النجاة فيقعون في الهلاك. {والله يعلم إنهم لكاذبون} في زعمهم أنهم لو استطاعوا الخروج لخرجوا معكم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
من هنا يبدأ الحديث عن الطوائف التي ظهرت عليها أعراض الضعف في الصف. وبخاصة جماعة المنافقين، الذين اندسوا في صفوف المسلمين باسم الإسلام، بعد أن غلب وظهر، فرأى هؤلاء أن حب السلامة وحب الكسب يقتضيان أن يحنوا رؤوسهم للإسلام، وأن يكيدوا له داخل الصفوف بعد أن عز عليهم أن يكيدوا له خارج الصفوف. وسنرى في هذا المقطع كل الظواهر التي تحدثنا عنها في تقديم السورة كما يصورها السياق القرآني. ونحسب أنها ستكون مفهومة واضحة في ضوء ذلك التقديم الذي أسلفنا. (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لا تبعوك، ولكن بعدت عليهم الشقة؛ وسيحلفون باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم، يهلكون أنفسهم، واللّه يعلم إنهم لكاذبون. عفا اللّه عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين؟ لا يستأذنك الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم واللّه عليم بالمتقين. إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون باللّه واليوم الآخر، وارتابت قلوبهم فهم في ريبهم يترددون؛ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره اللّه انبعاثهم، فثبطهم، وقيل: اقعدوا مع القاعدين. لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالاً ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة، وفيكم سماعون لهم، واللّه عليم بالظالمين. لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر اللّه وهم كارهون).. لو كان الأمر أمر عرض قريب من أعراض هذه الأرض، وأمر سفر قصير الأمد مأمون العاقبة لاتبعوك! ولكنها الشقة البعيدة التي تتقاصر دونها الهمم الساقطة والعزائم الضعيفة. ولكنه الجهد الخطر الذي تجزع منه الأرواح الهزيلة والقلوب المنخوبة. ولكنه الأفق العالي الذي تتخاذل دونه النفوس الصغيرة والبنية المهزولة. وإنه لنموذج مكرور في البشرية ذلك الذي ترسمه تلك الكلمات الخالدة: (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة).. فكثيرون هم أولئك الذين يتهاوون في الطريق الصاعد إلى الآفاق الكريمة. كثيرون أولئك الذين يجهدون لطول الطريق فيتخلفون عن الركب ويميلون إلى عرض تافه أو مطلب رخيص. كثيرون تعرفهم البشرية في كل زمان وفي كل مكان، فما هي قلة عارضة، إنما هي النموذج المكرور. وإنهم ليعيشون على حاشية الحياة، وإن خيل إليهم أنهم بلغوا منافع ونالوا مطالب، واجتنبوا أداء الثمن الغالي، فالثمن القليل لا يشتري سوى التافه الرخيص! (وسيحلفون باللّه لو استطعنا لخرجنا معكم).. فهو الكذب المصاحب للضعف أبداً. وما يكذب إلا الضعفاء. أجل ما يكذب إلا ضعيف ولو بدا في صورة الأقوياء الجبارين في بعض الأحايين. فالقوي يواجه والضعيف يداور. وما تتخلف هذه القاعدة في موقف من المواقف ولا في يوم من الأيام.. (يهلكون أنفسهم).. بهذا الحلف وبهذا الكذب، الذي يخيل إليهم أنه سبيل النجاة عند الناس، واللّه يعلم الحق، ويكشفه للناس، فيهلك الكاذب في الدنيا بكذبه، ويهلك في الآخرة يوم لا يجدي النكران. (واللّه يعلم إنهم لكاذبون)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف لابتداء الكلام على حال المنافقين وغزوة تبوك حين تخلّفوا واستأذن كثير منهم في التخلّف واعتلُّوا بعلل كاذبة، وهو ناشئ عن قوله: {ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} [التوبة: 38]. وانتُقل من الخطاب إلى الغيبة لأنّ المتحدّث عنهم هنا بعض المتثاقلين لا محالة بدليل قوله بعد هذا {إنما يستأذنك الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر وارتابت قلوبهم} [التوبة: 45]. ومن هذه الآيات ابتدأ إشعار المنافقين بأنّ الله أطْلَع رسوله صلى الله عليه وسلم على دخائلهم. والعَرَض ما يعرض للناس من متاع الدنيا وتقدّم في قوله تعالى: {يأخذون عرض هذا الأدنى} في سورة الأعراف (169) وقوله: {تريدون عرض الدنيا} في سورة الأنفال (67) والمراد به الغنيمة. والقريب: الكائن على مسافة قصيرة، وهو هنا مجاز في السهْل حصولُه. {وقاصدا} أي وَسطاً في المسافة غير بعيد. واسم كان محذوف دلّ عليه الخبر: أي لو كان العرض عرضاً قريباً، والسفر سفراً متوسّطاً، أو: لو كان ما تدعوهم إليه عَرضاً قريباً وسفراً. والشُّقة بضمّ الشين المسافة الطويلة. وتعدية {بعدت} بحرف (على) لتضمّنه معنى ثقلت، ولذلك حسن الجمع بين فعل {بعدت} وفاعله {الشقة} مع تقارب معنييهما، فكأنّه قيل: ولكن بعد منهم المكان لأنّه شُقّة، فثقل عليهم السفر، فجاء الكلام موجزاً. وقوله: {وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم} يؤذن بأنّ الآية نزلت قبل الرجوع من غزوة تبوك، فإنّ حلفهم إنّما كان بعد الرجوع وذلك حين استشعروا أنّ الرسول عليه الصلاة والسلام ظانٌ كذبَهم في أعذارهم. والاستطاعة القدرة: أي لسنا مستطيعين الخروج، وهذا اعتذار منهم وتأكيد لاعتذارهم. وجملة {لخرجنا معكم} جواب {لو}. والخروج الانتقال من المقرّ إلى مكان آخر قريب أو بعيد ويعدّى إلى المكان المقصود ب (إلى)، وإلى المكان المتروك ب (مِن)، وشاع إطلاق الخروج على السفر للغزو. وتقييده بالمعية إشعار بأنّ أمر الغزو لا يهمّهم ابتداءً، وأنّهم إنّما يخرجون لو خرجوا إجابة لاستنفار النبي صلى الله عليه وسلم خروج الناصر لغيره، تقول العرب: خرج بنو فلان وخرج معهم بنو فلان، إذا كانوا قاصدين نصرهم. وجملة {يهلكون أنفسهم} حال، أي يحلفون مُهلكين أنفسهم، أي موقعينَها في الهُلْك. والهُلْك: الفناء والموتُ، ويطلق على الأضرار الجسيمة وهو المُناسب هنا، أي يتسبّبون في ضرّ أنفسهم بالأيمان الكاذبة، وهو ضرّ الدنيا وعذاب الآخرة. وفي هذه الآية دلالة على أنّ تعمد اليمين الفاجرة يفضي إلى الهلاك، ويؤيّده ما رواه البخاري في كتاب الديات من خبر الهذليين الذين حلفوا أيمان القسامة في زمن عُمر، وتعمّدوا الكذب، فأصابهم مطر فدخلوا غاراً في جبل فانهجم عَليهم الغار فماتوا جميعاً. وجملة {والله يعلم إنهم لكاذبون} حال، أي هم يفعلون ذلك في حال عدم جدواه عليهم، لأنّ الله يعلم كذبهم، أي ويُطلِع رسوله على كذبهم، فما جنوا من الحلف إلاّ هلاك أنفسهم. وجملة {إنهم لكاذبون} سدّت مسدّ مفعولي {يعلم}...
ثم بعد ذلك يعود الحق سبحانه وتعالى إلى الذين يتثاقلون عن الجهاد ليصفي المسائل كلها، فيقول جل جلاله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)}: والعَرَضُ هو ما يقابل الجوهر، والجوهر هو ما لا تطرأ عليه أغيار، فالصحة عَرَض والمرض عرض؛ لأن كليهما لا يدوم، إذن فكل ما يتغير يسمى عَرَضا يزول. ويقال: الدنيا عَرَض حاضر يأكل منها البَرُّ والفاجر. إذن: فقول الحق سبحانه وتعالى: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} أي: لو كان أمرا من متاع سهل التناول، ومحببا للنفس؛ وليس فيه مشقة السفر والتضحية بالمال والنفس؛ لأسرعوا إليه. {وَسَفَرًا قَاصِدًا}، والقاصد هو المقتصد الذي في الوسط؛ وبعض الناس يسرف في الكسل، فلا يستنبط الخير من السعي في الأرض ومما خلق الله، وبعض الناس يسرف في حركة الدنيا ويركض كركض الوحوش في البرية، ولا يكون له إلا ما قسمه الله. وأمزجة الناس تتراوح ما بين الإسراف والتقتير، أما المؤمن فعليه أن يكون من الأمة المقتصدة. والحق هو القائل: {منهم أمة مقتصدة} (المائدة: 66) لأن المؤمن لا يأخذه الكسل فيفقد خير الدنيا، ولا يأخذه الإسراف فينسى الإيمان. إذن: فالحق سبحانه وتعالى يوضح لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه لو كأنه هناك متاع من متاع الدنيا أو سفر بلا مشقة ولا تعب لاتبعوك، فهم لم يتبعوك؛ لأنه ليست هناك مغانم دنيوية؛ لأن هناك مشقة، فالرحلة إلى تبوك، ومقاتلة الروم، وهم أصحاب الدولة المتحضرة التي تخضع رأسها برأس دولة الفرس، وهذه أيضا مشقة، والعام عُسْر والحر شديد، ولو أن الأمر سهل مُيسَّر لاتبعوك. ويتابع سبحانه: {وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} أي: أن المشقة طويلة، ثم يقول: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} هم إذن لم يتبعوك؛ لأن المسألة ليست عرضا قريبا ولا سفرا سهلا، بل هي رحلة فيها أهوال، وتضحيات بالمال والنفس، وحين تعود من القتال سوف يحلفون لك؛ أنهم لو استطاعوا لخرجوا معكم للقتال. وقد قال الحق ذلك قبل أن يأتي أوان الحلف، وهذه من علامات النبوة، لكي يعرف رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقين مِنْ صادقي الإيمان. وسبحانه وتعالى يفضح غباء المنفقين؛ لذلك قال: {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} واستخدام حرف السين هنا يعني أنهم لم يكونوا قد قالوها بعد، ولكنهم سيقولونها في المستقبل، ولو أنهم تنبهوا إلى ذلك لامتنعوا عن الحلف. ولقالوا: إن القرآن قال سنحلف. ولكن الله أعماهم فحلفوا، وهكذا يأتي خصوم الإسلام ليشهدوا – رغم أنوفهم – للإسلام...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وكانت الغزوة التي دُعُوا إليها غزوة تبوك التي تبعد مسافةً طويلة عن المدينة ممّا لا يتحمّله أولئك المنافقون الذي لا يتحمّسون للجهاد من حيث المبدأ، فكيف إذا كان خارجاً عن المألوف في بعض التفاصيل، حيث يضيف إلى مشاكل الجهاد، مشاكل السفر الطويل، فاعتذروا من النبيّ، وحاولوا أن يثيروا بعض المبررات الذاتية التي تحاول أن توحي في الظاهر، بأنهم يمتنعون عن الخروج لموانع اضطراريّة، لا لحالةٍ تمردّية، وجاءت هذه الآيات لتفضح هذه اللعبة، وتكشف واقعهم الداخلي البعيد عن خطّ الانسجام مع الأهداف الرساليّة التي يستهدفها المؤمنون في التزامهم بأوامر النبي صلى الله عليه وسلم ونواهيه من خلال الخطّة الشاملة التي تثبّت مواقع الإسلام في الأرض. طلب الغنيمة بدون مشقة {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا} أي لو كان هذا الأمر الذي دعوتهم إليه يمثل غنيمة سهلة التناول قريبة المأخذ، وسفراً متوسطاً لا مشقّة فيه ولا عناء {لاَّتَّبَعُوكَ} وساروا معك ليحصلوا على الغنيمة، كما كانوا يخرجون في المعارك السابقة طمعاً في الغنائم {وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ} والمسافة التي تكلفهم جهداً مضاعفاً لا يغريهم بالحركة والاستجابة للدعوة، لأنّهم لا يجدون في ما يمكن أن يحصلوا عليه من المغانم عوضاً عما يتكلفونه من التعب والمشقّة. {وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} ليؤكدوا إيمانهم وإخلاصهم بطريقةٍ استعراضيّةٍ يحاولون من خلالها إخفاء الواقع المزيّف الذي يعيشون فيه، كما في الكثيرين الذين يتخذون الحلف بالله ستاراً لإخفاء أوضاعهم النفسية والعملية القلقة، ليحصلوا على الثقة من أقرب طريق، وليبرّروا انحرافهم بمبرراتٍ لا تخضع إلى قاعدة. فهم يقسمون الأيمان المغلّظة {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} فالمسألة عندهم ليست مسألة تكاسلٍ وتمرّدٍ، بل هي مسألة عجزٍ عن الخروج لمرضٍ ونحوه، فلا مجال للتشكيك بهم والتنديد بموقفهم عندما يرجع المسلمون من مسيرتهم ويوجهون إليهم اللوم على تخلّفهم. {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} في هذا الجو النفسيّ الخائف من الفضيحة والأسلوب المرتبك في الاعتذار الذي يكاد ينمّ عما في الداخل، بحيث يشعرون بالتمزّق الداخلي الذي يمنعهم من الشعور بالثقة والاستقرار، وربما كان المعنى، أنهم يهلكون أنفسهم بهذا الأسلوب الملتوي الذي يواجهون فيه الهلاك على مستوى الدنيا بالفضيحة، وعلى مستوى الآخرة بالعقاب {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في ما يحلفون ويؤكدون، فلا يخفى عليه شيءٌ من أمرهم.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يتناول القرآن ضعاف الإِيمان الكسالى الذين يتشبثون بالحجج الواهية للفرار من ساحة القتال، فيخاطب النّبي مبيّناً واقعهم فيقول: (لو كان عرضاً قريباً وسفراً قاصداً لأتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة) والعجيب أنّهم لا يكتفون بالأعذار الواهية، بل (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم). فعدم ذهابنا إِلى ساحات القتال إِنّما هو لضعفنا وعدم اقتدارنا وابتلائنا!! (يهلكون أنفسهم والله يعلم أنّهم لكاذبون). فهم قادرون على الذهاب إِلى ساحات القتال، لكن حيث أن السفر ذو مشقة، ويواجهون صعوبةً وحرجاً، فإنّهم يتشبثون بالكذب والباطل. ولم يكن هذا الأمر منحصراً بغزوة تبوك وعصر النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحسب، ففي كل مجتمع فئة من الكسالى والمنافقين والطامعين والانتهازيين الذين ينتظرون لحظات الانتصار ليقحموا أنفسهم في الصفوف الأُولى، ويصرخوا بعالي الصوت أنّهم المجاهدون الأوائل والمخلصون البواسل، لينالوا ثمرات جهود الآخرين في انتصارهم دون أن يبذلوا أيّ جهد! غير أنّ هؤلاء «المجاهدين» المخلصين!! كما يزعمون، حين يواجهون الشدائد والأزمات يلوذون بالفرار ويتشبثون بالأعذار الباطلة والحجج الواهية. كأن يقول أحدهم: إِنّي مريض، ويقول الآخر: إني مبتلىً بطفلي، ويقول الثّالث: زوجي مُقرب وعلى وشك الولادة، ويقول الرّابع: ياليتني كنت معكم لولا ضعف في عينيّ لا أبصر بهما، ويقول الخامس: أنا أتدارك مقدمات الأمر وأنا على أثركم، وهكذا... إِلاّ أنّ على القادة والصفوة من النّاس أن يعرفوا هذه الفئة من بداية الأمر، وإذا لم يكونوا أهلا للإِصلاح فينبغي إِخراجهم وطردهم من صفوف المجاهدين...