قوله تعالى : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } الآية ، قال المفسرون : لما مات أبو طالب خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصر والمنعة له من قومه ، فروى محمد بن إسحاق عن يزيد بن زياد ، عن محمد بن كعب القرظي قال : لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف إلى نفر من ثقيف ، وهو يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم ، وهو إخوة ثلاثة : عبد ياليل ، ومسعود ، وحبيب بنو عمرو بن عمير ، وعند أحدهم امرأة من قريش من بني جمح ، فجلس إليهم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام ، والقيام معه على من خالفه من قومه . فقال له أحدهم : هو يمرط ثياب الكعبة ، إن كان الله أرسلك ، وقال الآخر : ما وجد الله أحداً يرسله غيرك ؟ وقال الثالث : والله ما أكلمك كلمة أبداً ، لئن كنت رسولاً من الله كما تقول لأنت أعظم خطراً من أن أرد عليك الكلام ، ولئن كنت تكذب على الله فما ينبغي لي أن أكلمك . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم ، وقد يئس من خير ثقيف ، وقال لهم : إذ فعلتم فاكتموه علي وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه فيديلهم عليه ذلك ، فلم يفعلوا ، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس ، وألجأوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة ، وهما فيه فرجع عنه سفهاء ثقيف ومن كان تبعه ، فعمد إلى ظل حبلة من عنب ، فجلس فيه ، وابنا ربيعة ينظران إليه ، ويريان ما لقي من سفهاء ثقيف ، ولقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك المرأة التي من بني جمح ، فقال لها : ماذا لقينا من أحمائك ؟ . فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس ، أنت أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين ، وأنت ربي ، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني أو إلى عدو ملكته أمري ؟ ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك هي أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن ينزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضى ، ولا حول ولا قوة إلا بك . فلما رأى ابنا ربيعة ما لقي تحركت رحمهما فدعوا غلاماً لهما نصرانياً يقال له : عداس ، فقالا له : خذ قطفاً من العنب وضعه في ذلك الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل ، فقل له يأكل منه ، ففعل ذلك عداس ، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده قال : بسم الله ، ثم أكل ، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال : والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : من أي البلاد أنت يا عداس ؟ وما دينك ؟ قال : أنا نصراني ، وأنا رجل من أهل نينوى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ قال له : وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذاك أخي كان نبياً وأنا نبي ، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبل رأسه ويديه وقدميه . قال : فيقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه : أما غلامك فقد أفسده عليك ، فلما جاءهم عداس قالا له : ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال : يا سيدي ما في الأرض خير من هذا الرجل ، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي ، فقالا : ويحك يا عداس لا يصرفنك عن دينك فإن دينك خير من دينه . ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من الطائف راجعاً إلى مكة حين يئس من خير ثقيف ، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين اليمن ، فاستمعوا له ، فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين ، قد آمنوا وأجابوا لما سمعوا ، فقص الله خبرهم عليه ، فقال : ( وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن ) .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنبأنا محمد بن يوسف ، حدثنا محمد بن إسماعيل ، حدثنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : " انطلق النبي صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، فأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ؟ قالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، فانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك الذين توجهوا نحو تهامة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو بنخلة ، عامدين إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء ، فهنالك رجعوا إلى قومهم فقالوا : يا قومنا { إنا سمعنا قرآنا عجبا * يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا } ( الجن-2 ) ، فأنزل الله على نبيه : { قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن } ( الجن-1 ) وإنما أوحي إليه قول الجن . وروي : أنهم لما رجموا بالشهب بعث إبليس سراياه لتعرف الخبر ، وكان أول بعث بعث ركباً من أهل نصيبين ، وهم أشراف الجن وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة . وقال أبو حمزة اليماني : بلغنا أنهم من الشيصبان وهم أكثر الجن عدداً ، وهم عامة جنود إبليس ، فلما رجعوا قالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً . وقال جماعة : بل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف إليه نفراً من الجن من أهل نينوى ، وجمعهم له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أمرت أن أقرأ على الجن الليلة ، فأيكم يتبعني ؟ فأطرقوا ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا ، فاتبعه عبد الله بن مسعود ، قال عبد الله : ولم يحضر معه أحد غيري ، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل نبي الله صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له : شعب الحجون ، وخط لي خطاً ثم أمرني أن أجلس فيه ، وقال : لا تخرج منه حتى أعود إليك ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فجعلت أرى أمثال النسور تهوي ، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق إلي وقال : أنمت ؟ فقلت : لا والله يا رسول الله ، وقد هممت مراراً أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، تقول : اجلسوا ، قال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، ثم قال : هل رأيت شيئاً ؟ قلت : نعم يا رسول الله رأيت رجالاً سوداً مستثفري ثياب بيض ، قال أولئك جن نصيبين سألوني المتاع -والمتاع الزاد- فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة . قال : فقالوا : يا رسول الله تقذرها الناس ، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يستنجي بالعظم والروث . قال : فقلت : يا رسول الله وما يغني ذلك عنهم ؟ قال : إنهم لا يجدون عظماً إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكله ، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكلت ، قال فقلت : يا رسول الله سمعت لغطاً شديداً ؟ فقال : إن الجن تدارأت في قتيل قتل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق ، قال : ثم تبرز رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتاني ، فقال :هل معك ماء ؟ قلت : يا رسول الله معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر ، فاستدعاه فصببت على يده فتوضأ وقال : ثمرة طيبة وماء طهور . وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن مسعود لما قدم الكوفة رأى شيوخاً شمطاً من الزط فأفزعوه حين رآهم ، فقال : اظهروا ، فقيل له : إن هؤلاء قوم من الزط ، فقال : ما أشبههم بالنفر الذين صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يريد الجن " .
أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ، أنبأنا عبد الغفار بن محمد بن عيسى الجلودي ، حدثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ، حدثنا مسلم بن الحجاج ، حدثنا محمد ابن المثنى ، حدثنا عبد الأعلى ، حدثنا داود وهو ابن أبي هند ، عن عامر قال : " سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله ليلة الجن ؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود فقلت : هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن ؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقلنا : استطير أو اغتيل ، قال فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حراء ، قال فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك ، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم فقال : أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن . قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . قال : وسألوه الزاد ، فقال : لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً وكل بعرة علف لدوابكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن " . ورواه مسلم عن علي بن حجر ، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم ، عن داود بهذا الإسناد إلى قوله : " وآثار نيرانهم " . قال الشعبي : وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة إلى آخر الحديث من قول الشعبي مفصلاً من حديث عبد الله . قوله عز وجل : { وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن } اختلفوا في عدد ذلك النفر ، فقال ابن عباس : كانوا سبعة من جن نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم . وقال آخرون : كانوا تسعة . وروى عاصم عن زر بن حبيش : كان زوبعة من التسعة الذين استمعوا القرآن . { فلما حضروه قالوا أنصتوا } قالوا : صه . وروي في الحديث : أن الجن ثلاثة أصناف : صنف لهم أجنحة يطيرون بها في الهواء ، وصنف حيات وكلاب ، وصنف يحلون ويظعنون . فلما حضروه قال بعضهم لبعض : أنصتوا واسكتوا لنستمع إلى قراءته ، فلا يحول بيننا وبين الاستماع شيء ، فأنصتوا واستمعوا القرآن حتى كاد يقع بعضهم على بعض من شدة حرصهم . { فلما قضي } فرغ من تلاوته ، { ولوا إلى قومهم } انصرفوا إليهم ، { منذرين } مخوفين داعين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم .
{ 29-32 } { وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ }
كان الله تعالى قد أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم إلى الخلق إنسهم وجنهم وكان لا بد من إبلاغ الجميع لدعوة النبوة والرسالة .
فالإنس يمكنه عليه الصلاة والسلام دعوتهم وإنذارهم ، وأما الجن فصرفهم الله إليه بقدرته وأرسل إليه { نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا } أي : وصى بعضهم بعضا بذلك ، { فَلَمَّا قُضِي } وقد وعوه وأثر ذلك فيهم { وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ } نصحا منهم لهم وإقامة لحجة الله عليهم وقيضهم الله معونة لرسوله صلى الله عليه وسلم في نشر دعوته في الجن .
( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ، فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين . قالوا : يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ، مصدقا لما بين يديه ، يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم . يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم . ومن لا يجب داعيالله فليس بمعجز في الأرض ، وليس له من دونه أولياء ، أولئك في ضلال مبين . أو لم يروا أن الله الذي خلق السماوات والأرض ولم يعي بخلقهن بقادر على أن يحيي الموتى ? بلى إنه على كل شيء قدير ) . .
ومقالة النفر من الجن - مع خشوعهم عند سماع القرآن - تتضمن أسس الاعتقاد الكامل : تصديق الوحي . ووحدة العقيدة بين التوراة والقرآن . والاعتراف بالحق الذي يهدي إليه . والإيمان بالآخرة وما ينتهي إلى المغفرة وما ينتهي إلى العذاب من الأعمال . والإقرار بقوة الله وقدرته على الخلق وولايته وحده للعباد . والربط بين خلق الكون وإحياء الموتى . . وهي الأسس التي تتضمنها السورة كلها ، والقضايا التي تعالجها في سائر أشواطها . . كلها جاءت على لسان النفر من الجن . من عالم آخر غير عالم الإنسان .
ويحسن قبل أن نستعرض هذه المقالة أن نقول كلمة عن الجن وعن الحادثة . .
إن ذكر القرآن لحادث صرف نفر من الجن ليستمعوا القرآن من النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وحكاية ما قالوا وما فعلوا . . هذا وحده كاف بذاته لتقرير وجود الجن ، ولتقرير وقوع الحادث . ولتقرير أن الجن هؤلاء يستطيعون أن يستمعوا للقرآن بلفظه العربي المنطوق كما يلفظه رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] ولتقرير أن الجن خلق قابلون للإيمان وللكفران ، مستعدون للهدى وللضلال . . وليس هنالك من حاجة إلى زيادة تثبيت أو توكيد لهذه الحقيقة ؛ فما يملك إنسان أن يزيد الحقيقة التي يقررها الله - سبحانه - ثبوتا .
ولكنا نحاول إيضاح هذه الحقيقة في التصور الإنساني .
إن هذا الكون من حولنا حافل بالأسرار ، حافل بالقوى والخلائق المجهولة لنا كنها وصفة وأثرا . ونحن نعيش في أحضان هذه القوى والأسرار . نعرف منها القليل ، ونجهل منها الكثير . وفي كل يوم نكشف بعض هذه الأسرار ، وندرك بعض هذه القوى ، ونتعرف إلى بعض هذه الخلائق تارة بذواتها . وتارة بصفاتها . وتارة بمجرد آثارها في الوجود من حولنا .
ونحن ما نزال في أول الطريق . طريق المعرفة لهذا الكون ، الذي نعيش نحن وآباؤنا وأجدادنا ويعيش أبناؤنا وأحفادنا ، على ذرة من ذراته الصغيرة الصغيرة . . هذا الكوكب الأرضي الذي لا يبلغ أن يكون شيئا يذكر في حجم الكون أو وزنه !
وما عرفناه اليوم - ونحن في أول الطريق - يعد بالقياس إلى معارف البشرية قبل خمسة قرون فقط عجائب أضخم من عجيبة الجن . ولو قال قائل للناس قبل خمسة قرون عن شيء من أسرار الذرة التي نتحدث عنها اليوم لظنوه مجنونا ، أو لظنوه يتحدث عما هو أشد غرابة من الجن قطعا !
ونحن نعرف ونكشف في حدود طاقتنا البشرية ، المعدة للخلافة في هذه الأرض ، ووفق مقتضيات هذه الخلافة ، وفي دائرة ما سخره الله لنا ليكشف لنا عن أسراره ، وليكون لنا ذلولا ، كيما نقوم بواجب الخلافة في الأرض . . ولا تتعدى معرفتنا وكشوفنا في طبيعتها وفي مداها - مهما امتد بنا الأجل - أي بالبشرية - ومهما سخر لنا من قوى الكون وكشف لنا من أسراره - لا تتعدى تلك الدائرة . دائرة ما نحتاجه للخلافة في هذه الأرض . وفق حكمة الله وتقديره .
وسنكشف كثيرا ، وسنعرف كثيرا ، وستتفتح لنا عجائب من أسرار هذا الكون وطاقاته ، مما قد تعتبر أسرار الذرة بالقياس إليه لعبة أطفال ! ولكننا سنظل في حدود الدائرة المرسومة للبشر في المعرفة . وفي حدود قول الله - سبحانه - ( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) . . قليلا بالقياس إلى ما في هذا الوجود من أسرار وغيوب لا يعلمها إلا خالقه وقيومه . وفي حدود تمثيله لعلمه غير المحدود ، ووسائل المعرفة البشرية المحدودة بقوله : ( ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله ) . .
فليس لنا - والحالة هذه - أن نجزم بوجود شيء أو نفيه . وبتصوره أو عدم تصوره . من عالم الغيب المجهول ، ومن أسرار هذا الوجود وقواه ، لمجرد أنه خارج عن مألوفنا العقلي أو تجاربنا المشهودة . ونحن لم ندرك بعد كل أسرار أجسامنا وأجهزتها وطاقاتها ، فضلا على إدراك أسرار عقولنا وأرواحنا !
وقد تكون هنالك أسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عنه أصلا . وأسرار ليست داخلة في برنامج ما يكشف لنا عن كنهه ، فلا يكشف لنا إلا عن صفته أو أثره أو مجرد وجوده ، لأن هذا لا يفيدنا في وظيفة الخلافة في الأرض .
فإذا كشف الله لنا عن القدر المقسوم لنا من هذه الأسرار والقوى ، عن طريق كلامه - لا عن طريق تجاربنا ومعارفنا الصادرة من طاقتنا الموهوبة لنا من لدنه أيضا - فسبيلنا في هذه الحالة أن نتلقى هذه الهبة بالقبول والشكر والتسليم . نتلقاها كما هي فلا نزيد عليها ولا ننقص منها لأن المصدر الوحيد الذي نتلقى عنه مثل هذه المعرفة لم يمنحنا إلا هذا القدر بلا زيادة . وليس هنالك مصدر آخر نتلقى عنه مثل هذه الأسرار !
ومن هذا النص القرآني ، ومن نصوص سورة الجن ، والأرجح أنها تعبير عن الحادث نفسه ، ومن النصوص الأخرى المتناثرة في القرآن عن الجن ، ومن الآثار النبوية الصحيحة عن هذا الحادث ، نستطيع أن ندرك بعض الحقائق عن الجن . . ولا زيادة . .
هذه الحقائق تتلخص في أن هنالك خلقا اسمه الجن . مخلوق من النار . لقول إبليس في الحديث عن آدم : ( أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ) . . وإبليس من الجن لقول الله تعالى : ( إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه ) . . فأصله من أصل الجن .
وأن هذا الخلق له خصائص غير خصائص البشر . منها خلقته من نار ، ومنها أنه يرى الناس ولا يراه الناس ، لقوله تعالى عن إبليس - وهو من الجن - : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) . .
وأن له تجمعات معينة تشبه تجمعات البشر في قبائل وأجناس . للقول السابق : ( إنه يراكم هو وقبيله . . . ) .
وأن له قدرة على الحياة في هذا الكوكب الأرضي - لا ندري أين - لقوله تعالى : لآدم وإبليس معا : ( اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ) . .
والجن الذين سخروا لسليمان عليه السلام كانوا يقومون له بأعمال في الأرض تقتضي أن يكونوا مزودين بالقدرة على الحياة فيها .
وأن له قدرة كذلك على الحياة خارج هذا الكوكب لقول الله تعالى حكاية عن الجن : وأنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا ، وأنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع ، فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا . .
وأنه يملك التأثير في إدراك البشر وهو مأذون في توجيه الضالين منهم - غير عباد الله - للنصوص السابقة ، ولقوله تعالى في حكاية حوار إبليس اللعين : ( قال : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ) . . وغير هذا من النصوص المماثلة . ولكنا لا نعرف كيف يوسوس ويوجه وبأي أداة .
وأنه يستطيع أن يسمع صوت الإنسان ويفهم لغته ، بدلالة استماع نفر من الجن للقرآن وفهمه والتأثر به .
وأنه قابل للهدى وللضلال بدلالة قول هذا النفر في سورة الجن : ( وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون . فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا ، وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا ) . . وبدليل ذهابهم إلى قومهم منذرين يدعونهمإلى الإيمان ، بعدما وجدوه في نفوسهم ، وعلموا أن قومهم لم يجدوه بعد .
وهذا هو القدر المستيقن في أمر الجن ، وهو حسبنا ، بلا زيادة عليه ليس عليها من دليل .
فأما الحادث الذي تشير إليه هذه الآيات ، كما تشير إليه سورة الجن كلها على الأرجح ، فقد وردت فيه روايات متعددة نثبت أصحها :
أخرج البخاري - بإسناده - عن مسدد ، ومسلم عن شيبان بن فروخ عن أبي عوانة . وروى الإمام أحمد في مسنده قال : حدثنا عفان ، حدثنا أبو عوانة وقال الإمام الحافظ أبو بكر البيهقي في كتابه دلائل النبوة : أخبرنا أبو الحسن علي بن أحمد بن عبدان ، أخبرنا أحمد بن عبيد الصفار ، حدثنا إسماعيل القاضي ، أخبرنا مسدد ، حدثنا أبو عوانة عن أبي بشر عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : " ما قرأ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] على الجن ولا رآهم . انطلق رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ . وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت عليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهم ، فقالوا : ما لكم ? فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب . قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلا شيء حدث ، فاضربوا في مشارق الأرض ومغاربها ، وانظروا ما هذا الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فانطلقوا يضربون في مشارق الأرض ومغاربها ، يبتغون ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء . فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو بنخلة عامدا إلى سوق عكاظ ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر . فلما سمعوا القرآن استمعوا له ، فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء . فهنالك حين رجعوا إلى قومهم : وقالوا يا قومنا ( إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ، ولن نشرك بربنا أحدا ) . . وأنزل الله على نبيه [ صلى الله عليه وسلم ] : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) . . وإنما أوحي إليه قول الجن .
وأخرج مسلم وأبو داود والترمذي - بإسناده - عن علقمة ، قال : قلت لابن مسعود - رضي الله عنه - هل صحب النبي [ صلى الله عليه وسلم ] منكم أحد ليلة الجن ? قال : ما صحبه أحد منا ولكنا كنا معه ذات ليلة ، ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب . فقلنا : استطير ، أو اغتيل . فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فلما أصبحنا فإذا هو جاء من قبل حراء . فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم . فقال : " أتاني داعي الجن فذهبت معه ، فقرأت عليهم القرآن " . قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم . وسألوه الزاد فقال : " لكم كل عظم ذكر اسم الله تعالى عليه ، يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم " . فقال [ صلى الله عليه وسلم ] " فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم " . .
وقال : ساق ابن إسحاق - فيما رواه ابن هشام في السيرة - خبر النفر من الجن بعد خبر خروج رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ، بعد موت عمه أبي طالب ، واشتداد الأذى عليه وعلى المسلمين في مكة . ورد ثقيف له ردا قبيحا ، وإغرائهم السفهاء والأطفال به ، حتى أدموا قدميه [ صلى الله عليه وسلم ] بالحجارة . فتوجه إلى ربه بذلك الابتهال المؤثر العميق الكريم : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي ، وقلة حيلتي ، وهواني على الناس . يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي . إلى من تكلني ? إلى بعيد يتجهمني ? أم إلى عدو ملكته أمري ? إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ، ولكن عافيتك أوسع لي . أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة ، من أن تنزل بي غضبك ، أو يحل علي سخطك . لك العتبى حتى ترضى . ولا حول ولا قوة إلا بك " .
قال : ثم إن رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ، حين يئس من خبر ثقيف . حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي ، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى . وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن نصيبين . فاستمعوا له . فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين . قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا . فقص الله خبرهم عليه [ صلى الله عليه وسلم ] قال الله عز وجل : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن )إلى قوله تعالى : ( ويجركم من عذاب أليم ) . . وقال تعالى : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن )إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة .
ويعقب ابن كثير في التفسير على رواية ابن إسحاق بقوله : ( وهذا صحيح . ولكن قوله : إن الجن كان استماعهم تلك الليلة فيه نظر . فإن الجن كان استماعهم في ابتداء الإيحاء ، كما دل عليه حديث ابن عباس - رضي الله عنهما - المذكور ، وخروجه [ صلى الله عليه وسلم ] إلى الطائف كان بعد موت عمه . وذلك قبل الهجرة بسنة أو سنتين كما قرره ابن إسحاق وغيره . والله أعلم ) .
وهناك روايات أخرى كثيرة . ونحن نعتمد من جميع هذه الروايات الرواية الأولى عن ابن عباس - رضي الله عنهما - لأنها هي التي تتفق تماما مع النصوص القرآنية : ( قل : أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ) . . وهي قاطعة في أن الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] إنما علم بالحادث عن طريق الوحي ، وأنه لم ير الجن ولم يشعر بهم . ثم إن هذه الرواية هي الأقوى من ناحية الإسناد والتخريج . وتتفق معها في هذه النقطة رواية ابن إسحاق . كما يقويها ما عرفناه من القرآن من صفة الجن : ( إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم ) . .
وفي هذا غناء في تحقيق الحادث .
( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن ، فلما حضروه قالوا : أنصتوا . فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ) . .
لقد كان إذن تدبيرا من الله أن يصرف هؤلاء النفر من الجن إلى استماع القرآن ، لا مصادفة عابرة . وكان في تقدير الله أن تعرف الجن نبأ الرسالة الأخيرة كما عرفت من قبل رسالة موسى ؛ وأن يؤمن فريق منهم وينجو من النار المعدة لشياطين الجن كما هي معدة لشياطين الإنس .
ويرسم النص مشهد هذا النفر - وهم ما بين ثلاثة وعشرة - وهم يستمعون إلى هذا القرآن ، ويصور لنا ما وقع في حسهم منه ، من الروعة والتأثر والرهبة والخشوع . ( فلما حضروه قالوا : أنصتوا ) . . وتلقي هذه الكلمة ظلال الموقف كله طوال مدة الاستماع .
( فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين ) . .
وهذه كتلك تصور الأثر الذي انطبع في قلوبهم من الإنصات للقرآن . فقد استمعوا صامتين منتبهين حتى النهاية .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مّنَ الْجِنّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمّا حَضَرُوهُ قَالُوَاْ أَنصِتُواْ فَلَمّا قُضِيَ وَلّوْاْ إِلَىَ قَوْمِهِم مّنذِرِينَ } .
يقول تعالى ذكره مقرّعا كفار قريش بكفرهم بما آمنت به الجنّ وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ يا محمد نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ ذكر أنهم صرفوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحادث الذي حدث من رَجْمهم بالشهب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن زياد ، عن سعيد بن جُبير ، قال : كانت الجنّ تستمع ، فلما رُجِموا قالوا : إن هذا الذي حدث في السماء لِشيء حدث في الأرض ، فذهبوا يطلبون حتى رأوا النبيّ صلى الله عليه وسلم خارجا من سوق عكاظ يصلي بأصحابه الفجر ، فذهبوا إلى قومهم .
حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن أيوب ، عن سعيد بن جُبير ، قال : «لما بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم حُرِست السماء ، فقال الشيطان : ما حُرِست إلا لأمر قد حدث في الأرض فبعث سراياه في الأرض ، فوجدوا النبيّ صلى الله عليه وسلم قائما يصلي صلاة الفجر بأصحابه بنَخْلة ، وهو يقرأ ، فاستمعوا حتى إذا فرغ وَلّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . . . إلى قوله مُسْتَقِيمٍ » .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ . . . . إلى آخر الاَية ، قال : لم تكن السماء تحرس في الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يقعدون مقاعد للسمع فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم حرست السماء حرسا شديدا ، ورُجِمت الشياطين ، فأنكروا ذلك ، وقالوا : لا نَدْرِي أَشَرّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرْضِ أمْ أرَادَ بِهِمْ رَبّهُمْ رَشَدا فقال إبليس : لقد حدث في الأرض حدث ، واجتمعت إليه الجنّ ، فقال : تفرّقوا في الأرض ، فأخبروني ما هذا الخبر الذي حدث في السماء ، وكان أوّل بعث ركب من أهل نصيبين ، وهي أشراف الجنّ وساداتهم ، فبعثهم إلى تهامة ، فاندفعوا حتى بلغوا الوادي ، وادي نخلة ، فوجدوا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ، فاستمعوا فلما سمعوه يتلو القرآن ، قالوا : أنصتوا ، ولم يكن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين .
واختلف أهل التأويل في مبلغ عدد النفر الذين قال الله وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ فقال بعضهم : كانوا سبعة نفر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الحميد ، قال : حدثنا النضر بن عربيّ ، عن عكرمة ، عن ابن عباس وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ . . . الاَية ، قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلاً إلى قومهم .
وقال آخرون : بل كانوا تسعة . نفر . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ قال : كانوا تسعة نفر فيهم زَوْبعة .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زرّ بن حبيش ، قال : أنزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو ببطن نخلة ، فَلَمّا حَضَرُوهُ قال : كانوا تسعة أحدهم زَوْبَعَة .
وقوله : فَلَمّا حَضَرُوهُ يقول : فلما حضر هؤلاء النفر من الجنّ الذين صرفهم الله إلى رسوله نبيّ الله صلى الله عليه وسلم .
واختلف أهل العلم في صفة حضورهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال بعضهم : حضروا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يتعرّفون الأمر الذي حدث من قبله ما حدث في السماء ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا يشعر بمكانهم ، كما قد ذكرنا عن ابن عباس قبل . وكما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا هوذة ، قال : حدثنا عوف ، عن الحسن ، في قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ قال : ما شعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاؤوا ، فأوحى الله عزّ وجلّ إليهِ فيهم ، وأخبر عنهم .
وقال آخرون : بل أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أن يقرأ عليهم القرآن ، وأنهم جمعوا له بعد أن تقدّم الله إليه بإنذارهم ، وأمره بقراءة القرآن عليهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ قال : ذكر لنا أنهم صرفُوا إليه من نِيْنَوَى ، قال : فإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، قال : «إني أمرت أن أقرأ القرآن على الجنّ ، فأيكم يتبعني » ؟ فأطرقوا ، ثم استتبعهم فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة فأطرقوا ، فقال رجل : يا رسول الله إنك لذو بدئه ، فاتبعه عبد الله بن مسعود ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم شعبا يقال له شعب الحجون . قال : وخطّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله خطا ليثبته به ، قال : فجعلت تهوي بي وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ، وسمعت لغطا شديدا ، حتى خفت على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تلا القرآن فلما رجع نبيّ الله قلت : يا نبيّ الله ما اللغط الذي سمعت ؟ قال : «اجتمعوا إليّ في قتيل كان بينهم ، فقُضي بينهم بالحقّ » . وذُكر لنا أن ابن مسعود لما قَدِم الكوفة رأى شيوخا شُمطا من الزّط ، فراعوه ، قال : من هؤلاء ؟ قالوا : هؤلاء نفر من الأعاجم ، قال : ما رأيت للذين قرأ عليهم النبيّ صلى الله عليه وسلم الإسلام من الجنّ شبها أدنى من هؤلاء .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ذهب وابن مسعود ليلة دعا الجنّ ، فخطّ النبيّ صلى الله عليه وسلم على ابن مسعود خطا ، ثم قال له : «لا تخرج منه » . ثم ذهب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الجنّ ، فقرأ عليهم القرآن ، ثم رجع إلى ابن مسعود فقال : «هل رأيت شيئا » ؟ قال : سمعت لغَطا شديدا ، قال : إن الجنّ تدارأت في قتيل قُتل بينها ، فقُضِي بينهم بالحقّ ، وسألوه الزاد ، فقال : «كل عظم لكم عرق ، وكلّ روث لكم خُضْرة » . قالوا : يا رسول الله تقذّرها الناس علينا ، فنهى النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يستنجى بأحدهما فلما قدم ابن مسعود الكوفة رأى الزّطّ ، وهم قوم طوال سود ، فأفزعوه ، فقال : أظَهَرُوا ؟ فقيل له : إن هؤلاء قوم من الزّطّ ، فقال ما أشبههم بالنفر الذين صُرِفوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم .
قال : ثنا ابن ثور ، عن معمر . عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن عمرو بن غَيلان الثقفيّ أنه قال لابن مسعود : حُدثت أنك كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة وفد الجنّ ، قال : أجَل ، قال : فكيف كان ؟ فذكر الحديث كله . وذُكِر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم خطّ عليه خطا وقال : «لا تبرح منها » ، فذكر أن مثل العجاجة السوداء غشيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذُعِر ثلاث مرّات ، حتى إذا كان قريبا من الصبح ، أتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : «أنِمْتَ » ؟ قلت : لا والله ، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول : «اجلسوا » ، قال : «لو خرجتَ لم آمن أن يختطفك بعضهم » ، ثم قال : «هل رأيت شيئا ؟ » قال : نعم رأيت رجالاً سودا مستشعري ثياب بيض ، قال : «أولئك جنّ نصيبين ، سألوني المتاع ، والمتاع الزاد ، فمتعتهم بكلّ عظم حائل أو بعرة أو روثة » ، فقلت : يا رسول الله ، وما يغني ذلك عنهم ؟ قال : «إنّهُمْ لَنْ يَجِدُوا عَظْما إلاّ وَجَدُوا عَلَيْهِ لَحْمَهُ يَوْمَ أُكِل ، وَلا رَوْثَةً إلاّ وَجَدُوا فِيها حَبّها يَوْمَ أُكِلَتْ ، فَلا يَسْتَنْقِيَنّ أحَدٌ مِنْكُمْ إذَا خَرَجَ مِنَ الخَلاءِ بعَظْمٍ وَلا بَعْرَةٍ وَلا رَوْثَةٍ » .
حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : أخبرنا أبو زُرْعة وهب بن راشد ، قال : قال يونس ، قال ابن شهاب : أخبرني أبو عثمان بن شبة الخزاعي ، وكان من أهل الشام أن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة : «مَنْ أَحَبّ منْكُمْ أنْ يَحْضُرَ أمْرَ الجنّ اللّيْلَةَ فَلْيَفْعَلْ » . فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة ، خطّ لي برجله خطا ، ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن ، فغشيته أسودة كبيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، حتى بقي منهم رهط ، ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق متبرّزا ، ثم أتاني فقال : «ما فَعَلَ الرّهْطُ » ؟ قلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأخذ عظما أو روثا أو جمجمة فأعطاهم إياه زادا ، ثم نهى أن يستطيب أحد بعظم أو روث .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : حدثنا عمي عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي ، وكان من أهل الشأم ، أن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله سواء ، إلا أنه قال : فأعطاهم روثا أو عظما زادا ، ولم يذكر الجمجمة .
حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ، قال : ثني عمي ، قال : أخبرني يونس ، عن الزهريّ ، عن عبيد الله بن عبد الله ، أن ابن مسعود ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «بِتّ اللّيْلَةَ أقْرأُ عَلى الجِنّ رُبُعا بالحَجُونِ » .
واختلفوا في الموضع الذي تلا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه القرآن ، فقال عبد الله بن مسعود قرأ عليهم بالحَجون ، وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك .
وقال آخرون : قرأ عليهم بنخلة ، وقد ذكرنا بعض من قال ذلك ، ونذكر من لم نذكره .
حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا خلاد ، عن زهير بن معاوية ، عن جابر الجعفي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس أن النفر الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنّ نصيبين أتوه وهو بنخلة .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد وَإذْ صَرَفْنا إلَيْكَ نَفَرا مِنَ الجِنّ قال : لقيهم بنخلة ليلتئذ .
وقوله : فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا يقول تعالى ذكره : فلما حضروا القرآن ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ ، قال بعضهم لبعض : أنصتوا لنستمع القرآن . كما :
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يحيى ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا قالوا : صَهْ .
قال : ثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن عاصم ، عن زِرّ بن حُبَيْش ، مثله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، في قوله : فَلَمّا حَضَرُوهُ قالُوا أنْصِتُوا قد علم القوم أنهم لن يعقلوا حتى ينصتوا .
وقوله : فَلَمّا قُضِيَ يقول : فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من القراءة وتلاوة القرآن . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، فَلَمّا قُضِيَ يقول : فلما فرغ من الصلاة وَلّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ . وقوله : وَلّوْا إلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ يقول : انصرفوا منذرين عذاب الله على الكفر به .
وذُكر عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلهم رسلاً إلى قومهم .
حدثنا بذلك أبو كُرَيب ، قال : حدثنا عبد الحميد الحِمّانيّ ، قال : حدثنا النضر ، عن عكرمة ، عن ابن عباس . وهذا القول خلاف القول الذي رُوي عنه أنه قال : لم يكن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم علم أنهم استمعوا إليه وهو يقرأ القرآن ، لأنه محال أن يرسلهم إلى آخرين إلا بعد علمه بمكانهم ، إلا أن يقال : لم يعلم بمكانهم في حال استماعهم للقرآن ، ثم علم بعد قبل انصرافهم إلى قومهم ، فأرسلهم رسلاً حينئذٍ إلى قومهم ، وليس ذلك في الخبر الذي روي .
وقوله تعالى : { وإذا صرفنا إليك نفراً من الجن } ابتداء قصة الجن ووفادتهم على النبي صلى الله عليه وسلم . و : { صرفنا } معناه : رددناهم عن حال ما ، يحتمل أنها الاستماع في السماء ، ويحتمل أن يكون كفرهم قبل الوفادة وهذا بحسب الاختلاف هنا هل هم الوفد أو المتجسسون ، وروي أن الجن كانت قبل مبعث النبي عليه السلام تسترق السمع من السماء ، فلما بعث محمد عليه السلام حرست بالشهب الراجمة ، فضاقت الجن ذرعاً بذلك ، فاجتمعت وأتى رأي ملئهم على الافتراق في أقطار الأرض وطلب السبب الموجب لهذا الرجم والمنع من استراق السمع ففعلوا ذلك . واختلف الرواة بعد فقالت فرقة : جاءت طائفة من الجن إلى النبي عليه السلام وهو لا يشعر ، فسمعوا القرآن وولوا إلى قومهم منذرين ، ولم يعرف النبي بشيء من ذلك حتى عرفه الله بذلك كله ، وكان سماعهم لقرآنه وهو بنخلة عند سوق عكاظ ، وهو يقرأ في صلاة الفجر{[10329]} .
وقالت فرقة : بل أشعره الله بوفادة الجن عليه واستعد لذلك ، ووفد عليه أهل نصيبين منهم{[10330]} .
قال القاضي أبو محمد : والتحرير في هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه جن دون أن يعرف بهم ، وهم المتفرقون من أجل الرجم ، وهذا هو قوله تعالى : { قل أوحي إلي }{[10331]} [ الجن : 1 ] ثم بعد ذلك وفد عليه وفد ، وهو المذكور صرفه في هذه الآية{[10332]} . قال قتادة : صرفوا إليه من نينوى ، أشعر به قبل وروده{[10333]} . وقال الحسن : لم يشعر .
واختلف في عددهم اختلافاً متباعداً فاختصرته لعدم الصحة في ذلك ، أما أن ابن عباس رضي الله عنه قال : كانوا سبعة نفر من أهل نصيبين وقال زر : كانوا تسعة فيهم زوبعة ، وروي في ذلك أحاديث عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إني خارج إلى وفد الجن ، فمن شاء يتبعني » ، فسكت أصحابه ، فقالها ثانية ، فسكتوا ، فقال عبد الله أنا أتبعك ، قال فخرجت معه حتى جاء شعب الحجون ، فأدار لي دائرة وقال لي : لا تخرج منها ، ثم ذهب عني ، فسمعت لغطاً ودوياً كدوي النسور الكاسرة . ثم في آخر الليل جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن قرأ عليهم القرآن وعلمهم وأعطاهم زاداً في كل عظم وروثة ، فقال : يا عبد الله ، ما رأيت ؟ فأخبرته ، فقال : لقد كنت أخشى أن تخرج فيتخطفك بعضهم ، قلت يا رسول الله ، سمعت لهم لغطاً ، فقال : إنهم تدارأوا في قتيل لهم ، فحكمت بالحق . واضطربت الروايات عن عبد الله بن مسعود ، وروي عنه ما ذكرنا . وذكر عنه أنه رأى رجالاً من الجن وبهم شبه رجال الزطِّ{[10334]} السود الطوال حين رآهم بالكوفة . وروي عنه أنه قال : ما شاهد أحد منا ليلة الجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاختصرت هذه الروايات وتطويلها لعدم صحتها .
وقوله : { نفراً } يقتضي أن المصروفين رجالاً لا أنثى فيهم ، والنفر والرهط : القوم الذين لا أنثى فيهم .
وقوله تعالى : { فلما حضروه قالوا أنصتوا } فيه تأدب مع العلم وتعليم كيف يتعلم وقرأ جمهور الناس : «قُضِي » على بناء الفعل للمفعول . . وقرأ حبيب بن عبد الله بن الزبير وأبو مجلز : «قضى » على بناء الفعل للفاعل ، أي قضى محمد القراءة .
وقال ابن عمر وجابر بن عبد الله : قرأ عليهم سورة [ الرحمن ] فكان إذا قال : { فبأي آلاء ربكما تكذبان } [ الرحمن : 13 ] قالوا : لا بشيء من آلائك نكذب ، ربنا لك الحمد ، ولما ولت هذه الجملة تفرقت على البلاد منذرة للجن . قال قتادة : ما أسرع ما عقل القوم .
قال القاضي أبو محمد : فهنالك وقعت قصة سواد وشصار وخنافر وأشباهها{[10335]} صلى الله على محمد عبده ورسوله .
هذا تأييد للنبيء صلى الله عليه وسلم بأن سخر الله الجن للإيمان به وبالقرآن فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدّقاً عند الثقلين ومعظَّماً في العالَمَيْن وذلك ما لم يحصل لرسول قبله .
والمقصود من نزول القرآن بخبر الجن توبيخ المشركين بأن الجن وهم من عالم آخر عَلِموا القرآن وأيقنوا بأنه من عند الله والمشركون وهم من عالم الإنس ومن جنس الرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث بالقرآن وممن يتكلم بلغة القرآن لم يزالوا في ريب منه وتكذيب وإصرار ، فهذا موعظة للمشركين بطريق المضادة لأحوالهم بعد أن جرت موعظتهم بحال مماثليهم في الكفر من جنسهم . ومناسبة ذكر إيمان الجن ما تقدم من قوله تعالى : { أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن والإنس إنهم كانوا خاسرين } [ الأحقاف : 18 ] .
فالجملة معطوفة على جملة { واذكر أخا عاد } [ الأحقاف : 21 ] عطف القصة على القصة ويتعلق قوله هنا { إذْ صرفنا } بفعل يدل عليه قوله : { واذكر أخا عاد } والتقدير : واذكر إذ صرفنا إليك نفراً من الجن . وأمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا للمشركين وإن كانوا لا يصدقونه لتسجيل بلوغ ذلك إليهم لينتفع به من يهتدي ولتكتب تبعته على الذين لا يهتدون .
وليس في هذه الآية ما يقتضي أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الجن واختلف المفسرون لِهذه الآية في أن الجن حضروا بعلم من النبي صلى الله عليه وسلم أو بدون علمه . ففي « جامع الترمذي » عن ابن عباس قال : « ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ فلما كانوا بنخْلة ، اسم موضع وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر وكان نفر من الجن فيه فلما سمعوا القرآن رجعوا إلى قومهم ، فقالوا : إنا سمعنا قرآناً عجباً » . وفي « الصحيح » عن ابن مسعود « افتقدْنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وهو بمكة فقلنا ما فَعل به اغتيل أو واستطيرَ فبتنا بشرِّ ليلة حتى إذا أصبحنا إذا نحن به من قِبَل حِراء فقال " أتاني دَاعي الجن فأتيتهم فقرأت عليهم القرآن "
وأيًّا مَّا كان فهذا الحادث خارق عادة وهو معجزة للنبيء صلى الله عليه وسلم وقد تقدم قوله تعالى : { يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي } في سورة الأنعام ( 130 ) .
والصرف : البعث . والنفر : عدد من الناس دون العشرين . وإطلاقه على الجن لتنزيلهم منزلة الإنس وبيانه بقوله : { من الجن } .
وجملة { يستمعون القرآن } في موضع الحال من الجن وحيث كانت الحال قيداً لعاملها وهو { صرفنا } كان التقدير : يستمعون منك إذا حضروا لديك فصار ذلك مؤديا مؤدَّى المفعول لأجله .
فالمعنى : صرفناهم إليك ليستمعوا القرآن .
وضمير { حضروه } عائد إلى القرآن ، وتعدية فعل حضروا إلى ضمير القرآن تعدية مجازية لأنهم إنما حضروا قارىء القرآن وهو الرسول صلى الله عليه وسلم و { أنصتوا } أمر بتوجيه الأسماع إلى الكلام اهتماماً به لئلا يفوت منه شيء . وفي حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : « استنصت الناس » ، أي قبل أن يبدأ في خطبته .
وفي الحديث : " إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة أنْصِت والإمام يخطب فقد لغوت " ، أي قالوا كلُّهم : أنصتوا ، كل واحد يقولها للبقية حرصاً على الوعي فنطق بها جميعهم .
و { قُضِي } مِبني للنائب . والضمير للقرآن بتقدير مضاف ، أي قضيت قراءته ، أي انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من القراءة حين حضروا وبانتهائه من القراءة تمّ مراد الله من صرف الجن ليستمعوا القرآن ف ( ولَّوا ) ، أي انصرفوا من مكان الاستماع ورجعوا إلى حيث يكون جنسهم وهو المعبر عنه ب { قومهم } على طريقة المجاز ، نزل منزلة الإنس لأجل هذه الحالة الشبيهة بحالة الناس ، فإطلاق القوم على أمة الجن نظير إطلاق النفر على الفريق من الجن المصروف إلى سماع القرآن .
ومعنى { ولوا إلى قومهم منذرين } رجعوا إلى بني جنسهم بعد أن كانوا في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم يتسمعون القرآن فأبلغوهم ما سمعوا من القرآن مما فيه التخويف من بأس الله تعالى لمن لا يؤمن بالقرآن . والتبشير لمن عمِل بما جاء به القرآن . ولا شك أن الله يسّر لهم حضورهم لقراءة سورة جامعة لما جاء به القرآن كفاتحة الكتاب وسورة الإخلاص .