قوله تعالى : { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور محمد بن سمعان ، أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الزياتي ، أنا حميد بن زنجويه ، أنا ابن أبي شيبة ، أنا عبد الأعلى ، عن الجريري عن أبي السلسبيل عن عبد الله ابن رباح الأنصاري عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا المنذر أي آية من كتاب الله أعظم ؟ قلت : الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، قال : فضرب في صدري ثم قال : ليهنك العلم يا أبا المنذر ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده إن لهذه الآية لساناً وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش " .
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن يوسف أنا محمد بن إسماعيل قال عثمان بن الهيثم أبو عمرو : أخبرنا عوف عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إني محتاج ولي عيال ولي حاجة شديدة قال : فخليت سبيله فأصبحت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله قال : أما إنه قد كذبك وسيعود ، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته ، فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإني محتاج ولي عيال ولا أعود ، فرحمته فخليت سبيله فأصبحت فقال : لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا هريرة ما فعل أسيرك قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدة وعيالاً فرحمته وخليت سبيله قال : أما إنه كذبك وسيعود ، فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات إنك تزعم لا تعود ، ثم تعود قال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها قلت : ما هي ؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله قال : ما هي ؟ قلت : قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) وقال : لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، وكانوا أحرص الناس على الخير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : أما إنه قد صدقك وهو كذوب ، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة ؟ قلت : لا قال ذاك الشيطان " .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني ، أخبرنا أبو جعفر الزياتي ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا يحيى ، أخبرنا أبو معاوية ، عن عبد الرحمن بن أبي بكر هو المليكي عن زرارة بن مصعب عن أبي سلمة ابن عبد الرحمن عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من قرأ حين يصبح آية الكرسي ، وآيتين من أول : حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم ، حفظ في يومه ذلك حتى يمسي ، ومن قرأهما حين يمسي حفظ في ليلته تلك حتى يصبح " .
قوله عز وجل : " الله " رفع بالابتداء ، وخبره في " لا إله إلا هو الحي " الباقي الدائم على الأبد ، وهو من له الحياة ، والحياة صفة الله تعالى " القيوم " قرأ عمر وابن مسعود " القيام " وقرأ علقمة " القيم " وكلها لغات بمعنى واحد ، قال مجاهد : القيوم القائم على كل شيء ، قال الكلبي : القائم على كل نفس بما كسبت وقيل هو القائم بالأمور . وقال أبو عبيدة : الذي لا يزول .
قوله تعالى : { لا تأخذه سنة ولا نوم } . السنة : النعاس وهو النوم الخفيف ، والوسنان بين النائم واليقظان ، يقال منه وسن يسن وسناً وسنة ، والنوم : هو الثقيل المزيل للقوة والعقل ، قال المفضل الضبي : السنة في الرأس والنوم في القلب ، فالسنة أول النوم وهو النعاس ، وقيل : السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فهو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء ، نفى الله تعالى عن نفسه النوم لأنه آفة وهو منزه عن الآفات ولأنه تغير ولا يجوز عليه التغير .
أخبرنا أحمد بن إبراهيم الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي ، أخبرنا عبد الله بن حامد ، أخبرنا محمد بن جعفر ، أخبرنا علي بن حرب ، أخبرنا أبو معاوية أخبرنا الأعمش ، عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن أبي موسى قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات فقال : إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، ولكنه يخفض القسط ، ويرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل ، حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ، ورواه المسعودي عن عمرو بن مرة وقال : حجابه النار .
قوله تعالى : { له ما في السماوات وما في الأرض } . ملكاً وخلقاً .
قوله تعالى : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } . بأمره .
قوله تعالى : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } . قال مجاهد وعطاء والسدي : ما بين أيديهم من أمر الدنيا ، وما خلفهم من أمر الآخرة ، وقال الكلبي : ما بين أيديهم يعني الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، وما خلفهم من الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم ، وقال ابن جريج : { ما بين أيديهم } ما مضى أمامهم { وما خلفهم } ما يكون بعدهم ، وقال مقاتل : ( ما بين أيديهم ) ، ما كان قبل خلق الملائكة { وما خلفهم } أي ما كان بعد خلقهم ، وقيل : { ما بين أيديهم } أي ما قدموه من خير أو وشر وما خلفهم ما هم فاعلوه .
قوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه } . أي من علم الله .
قوله تعالى : { إلا بما شاء } . أي يطلعهم عليه ، يعني لا يحيطون بشيء من علم الغيب إلا بما شاء مما أخبر به الرسل كما قال الله تعالى : ( فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول ) .
قوله تعالى : { وسع كرسيه السماوات والأرض } . أي ملأ وأحاط بهما ، واختلفوا في الكرسي فقال الحسن : هو العرش نفسه ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : الكرسي موضوع أمام العرش ومعنى قوله : { وسع كرسيه السماوات والأرض } أي سعته مثل سعة السماوات والأرض ، وفي الأخبار أن السماوات والأرض في جنب الكرسي كحلقة في فلاة ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة .
ويروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن السماوات السبع ، والأرضين السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس ، وقال علي ومقاتل : كل قائمة من الكرسي طولها مثل السماوات السبع والأرضين السبع ، وهو بين يدي العرش ، ويحمل الكرسي أربعة أملاك ، لكل ملك أربعة وجوه ، وأقدامهم في الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى مسيرة خمسمائة عام ، ملك على صورة سيد البشر آدم عليه السلام ، وهو يسأل للآدميين الرزق والمطر من السنة إلى السنة ، وملك على صورة سيد الأنعام ، وهو الثور ، وهو يسأل للإنعام الرزق من السنة إلى السنة وعلى وجهه غضاضة منذ عبد العجل ، وملك على صورة سيد السباع وهو الأسد يسأل للسباع الرزق من السنة إلى السنة ، وملك على صورة سيد الطير ، وهو النسر يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة " .
وفي بعض الأخبار : أن ما بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة ، وسبعين حجاباً من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام ، لولا ذلك لاحترق حملة الكرسي من نور حملة العرش . ذ
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أراد بالكرسي علمه ، وهو قول مجاهد ، ومنه قيل لصحيفة العلم كراسة ، وقيل : كرسيه ملكه وسلطانه ، والعرب تسمى الملك القديم كرسياً .
قوله تعالى : { ولا يؤوده } . أي لا يثقله ولا يشق عليه يقال : آدني الشي أي أثقلني .
قوله تعالى : { حفظهما } . أي حفظ السماوات والأرض .
قوله تعالى : { وهو العلي } . الرفيع فوق خلقه والمتعالي عن الأشباه والأنداد ، وقيل العلي بالملك والسلطنة .
ثم قال تعالى : { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }
هذه الآية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها ، وذلك لما اشتملت عليه من الأمور العظيمة والصفات الكريمة ، فلهذا كثرت الأحاديث في الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للإنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند نومه وأدبار الصلوات المكتوبات ، فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن { لا إله إلا هو } أي : لا معبود بحق سواه ، فهو الإله الحق الذي تتعين أن تكون جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى ، لكماله وكمال صفاته وعظيم نعمه ، ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه ، ممتثلا أوامره مجتنبا نواهيه ، وكل ما سوى الله تعالى باطل ، فعبادة ما سواه باطلة ، لكون ما سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه ، فلم يستحق شيئا من أنواع العبادة ، وقوله : { الحي القيوم } هذان الاسمان الكريمان يدلان على سائر الأسماء الحسنى دلالة مطابقة وتضمنا ولزوما ، فالحي من له الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات ، كالسمع والبصر والعلم والقدرة ، ونحو ذلك ، والقيوم : هو الذي قام بنفسه وقام بغيره ، وذلك مستلزم لجميع الأفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من الاستواء والنزول والكلام والقول والخلق والرزق والإماتة والإحياء ، وسائر أنواع التدبير ، كل ذلك داخل في قيومية الباري ، ولهذا قال بعض المحققين : إنهما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، ومن تمام حياته وقيوميته أن { لا تأخذه سنة ولا نوم } والسنة النعاس { له ما في السماوات وما في الأرض } أي : هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض فلهذا قال : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } أي : لا أحد يشفع عنده بدون إذنه ، فالشفاعة كلها لله تعالى ، ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه ، لا يبتدئ الشافع قبل الإذن ، ثم قال { يعلم ما بين أيديهم } أي : ما مضى من جميع الأمور { وما خلفهم } أي : ما يستقبل منها ، فعلمه تعالى محيط بتفاصيل الأمور ، متقدمها ومتأخرها ، بالظواهر والبواطن ، بالغيب والشهادة ، والعباد ليس لهم من الأمر شيء ولا من العلم مثقال ذرة إلا ما علمهم تعالى ، ولهذا قال : { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض } وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه ، إذا كان هذه حالة الكرسي أنه يسع السماوات والأرض على عظمتهما وعظمة من فيهما ، والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى ، بل هنا ما هو أعظم منه وهو العرش ، وما لا يعلمه إلا هو ، وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الأفكار وتكل الأبصار ، وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال ، فكيف بعظمة خالقها ومبدعها ، والذي أودع فيها من الحكم والأسرار ما أودع ، والذي قد أمسك السماوات والأرض أن تزولا من غير تعب ولا نصب ، فلهذا قال : { ولا يؤوده } أي : يثقله { حفظهما وهو العلي } بذاته فوق عرشه ، العلي بقهره لجميع المخلوقات ، العلي بقدره لكمال صفاته { العظيم } الذي تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة ، وتصغر في جانب جلاله أنوف الملوك القاهرة ، فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة والقهر والغلبة لكل شيء ، فقد اشتملت هذه الآية على توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات ، وعلى إحاطة ملكه وإحاطة علمه وسعة سلطانه وجلاله ومجده ، وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع مخلوقاته ، فهذه الآية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته ، متضمنة لجميع الأسماء الحسنى والصفات العلا .
وبمناسبة الاختلاف بعد الرسل والاقتتال ، والكفر بعد مجيء البينات والإيمان . . بهذه المناسبة تجيء آية تتضمن قواعد التصور الإيماني ، وتذكر من صفات الله سبحانه ما يقرر معنى الوحدانية في أدق مجالاته ، وأوضح سماته . وهي آية جليلة الشأن ، عميقة الدلالة ، واسعة المجال :
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم . لا تأخذه سنة ولا نوم . له ما في السماوات وما في الأرض . من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء . وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما . وهو العلي العظيم ) . .
وكل صفة من هذه الصفات تتضمن قاعدة من قواعد التصور الإسلامي الكلية . ومع أن القرآن المكي في عمومه كان يدور على بناء هذا التصور ، فإننا نلتقي في القرآن المدني كذلك في مناسبات شتى بهذا الموضوع الأصيل إلهام . الذي يقوم على أساسه المنهج الإسلامي كله ، ولا يستقيم هذا المنهج في الحس إلا أن يستقيم ذلك الأساس ، ويتضح ، ويتحول إلى حقائق مسلمة في النفس ، ترتكن إلى الوضوح واليقين .
ولقد تحدثت فيما سبق عند تفسير سورة الفاتحة في أول الجزء الأول من هذه الطبعة من الظلال ، عن الأهمية البالغة لوضوح صفة الله - سبحانه - في الضمير الإنساني . بما أن الركام الذي كان يرين على هذا الضمير من تصورات الجاهلية كان معظمه ناشئا من غموض هذه الحقيقة ، ومن غلبة الخرافة والأسطورة عليها ؛ ومن الغبش التي يغشيها حتى في فلسفة أكبر الفلاسفة . . حتى جاء الإسلام فجلاها هذا الجلاء ، وأنقذ الضمير البشري من ذلك الركام الثقيل ، ومن ذلك الضلال والخبط في الظلماء !
وكل صفة من هذه الصفات التي تضمنتها هذه الآية تمثل قاعدة يقوم عليها التصور الإسلامي الناصع ، كما يقوم عليها المنهج الإسلامي الواضح .
فهذه الوحدانية الحاسمة التي لا مجال فيها لأي انحراف أو لبس مما طرأ على الديانات السابقة - بعد الرسل - كعقيدة التثليث المبتدعة من المجامع الكنسية بعد عيسى - عليه السلام - ولا لأي غبش مما كان يرين على العقائد الوثنية التي تميل إلى التوحيد ، ولكنها تلبسه بالأساطير ، كعقيدة قدماء المصريين - في وقت من الأوقات - بوحدانية الله ، ثم تلبيس هذه الوحدانية بتمثل الإله في قرص الشمس ! ووجود آلهة صغيرة خاضعة له !
هذه الوحدانية الحاسمة الناصعة هي القاعدة التي يقوم عليها التصور الإسلامي ؛ والتي ينبثق منها منهج الإسلام للحياة كلها . فعن هذا التصور ينشأ الاتجاه إلى الله وحده بالعبودية والعبادة . فلا يكون إنسان عبدا إلا لله ، ولا يتجه بالعبادة إلا لله ، ولا يلتزم بطاعة إلا طاعة الله ، وما يأمره الله به من الطاعات . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة : الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ؛ ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله . وعن هذا التصور تنشأ قاعدة استمداد القيم كلها من الله ؛ فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله ، ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله . . وهكذا إلى آخرما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء .
والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى . كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية ، فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى . ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة . فالله - سبحانه - ليس كمثله شيء ، ومن ثم يرتفع كل شبه من الخصائص التي تتميز بها حياة الأشياء ، وتثبت لله صفة الحياة مطلقة من كل خصيصة تحدد معنى الحياة في مفهوم البشر . . وتنتفي بهذا جميع المفهومات الأسطورية التي جالت في خيال البشر !
أما صفة( القيوم ) . . فتعني قيامه - سبحانه - على كل موجود . كما تعني قيام كل موجود به فلا قيام لشيء إلا مرتكنا إلى وجوده وتدبيره . . لا كما كان أكبر فلاسفة الإغريق - أرسطو - يتصور أن الله لا يفكر في شيء من مخلوقاته ، لأنه تعالى أن يفكر في غير ذاته ! ويحسب أن في هذا التصور تنزيها لله وتعظيما ؛ وهو يقطع الصلة بينه وبين هذا الوجود الذي خلقه . . وتركه . . فالتصور الإسلامي تصور إيجابي لا سلبي . يقوم على أساس أن الله - سبحانه - قائم على كل شيء ، وأن كل شيء قائم في وجوده على إرادة الله وتدبيره . . ومن ثم يظل ضمير المسلم وحياته ووجوده ووجود كل شيء من حوله مرتبطا بالله الواحد ؛ الذي يصرف أمره وأمر كل شيء حوله ، وفق حكمة وتدبير ، فيلتزم الإنسان في حياته بالمنهج المرسوم القائم على الحكمة والتدبير ؛ ويستمد منه قيمه وموازينه ، ويراقبه وهو يستخدم هذه القيم والموازين .
وهذا توكيد لقيامه - سبحانه - على كل شيء ، وقيام كل شيء به . ولكنه توكيد في صورة تعبيرية تقرب للإدراك البشري صورة القيام الدائم . في الوقت الذي تعبر فيه هذه الصورة عن الحقيقة الواقعة من مخالفة الله - سبحانه - لكل شيء . . ( ليس كمثله شيء ) . . وهي تتضمن نفي السنة الخفيفة أو النوم المستغرق ، وتنزهه - سبحانه - عنهما إطلاقا . .
وحقيقة القيام على هذا الوجود بكلياته وجزئياته في كل وقت وفي كل حالة . . حقيقة هائلة حين يحاول الإنسان تصورها ، وحين يسبح بخياله المحدود مع ما لا يحصيه عد من الذرات والخلايا والخلائق والأشياء والأحداث في هذا الكون الهائل ؛ ويتصور - بقدر ما يملك - قيام الله - سبحانه - عليها ؛ وتعلقها في قيامها بالله وتدبيره . . إنه أمر . . أمر لا يتصوره الإدراك الإنساني . وما يتصوره منه - وهو يسير - هائل يدير الرؤوس . ويحير العقول ، وتطمئن به القلوب . .
( له ما في السماوات وما في الأرض ) . .
فهي الملكية الشاملة . كما أنها هي الملكية المطلقة . . الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة . وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة . فالله الواحد هو الحي الواحد ، القيوم الواحد ، المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم . كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس . فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله ، لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء . إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء . ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروطالمالك المستخلف في هذه الملكية . وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته ؛ فليس لهم أن يخرجوا عنها ؛ وإلا بطلت ملكيتهم الناشئة عن عهد الاستخلاف ، ووقعت تصرفاتهم باطلة ، ووجب رد هذه التصرفات من المؤمنين بالله في الأرض . . وهكذا نجد أثر التصور الإسلامي في التشريع الإسلامي ، وفي واقع الحياة العملية التي تقوم عليه . وحين يقول الله في القرآن الكريم : ( له ما في السماوات وما في الأرض ) . فإنه لا يقرر مجرد حقيقة تصورية اعتقادية ؛ إنما يضع قاعدة من قواعد الدستور للحياة البشرية ونوع الارتباطات التي تقوم فيها كذلك .
على أن مجرد استقرار هذه الحقيقة في الضمير . . مجرد شعور الإنسان بحقيقة المالك - سبحانه - لما في السماوات وما في الأرض . . مجرد تصور الإنسان لخلو يده هو من ملكية أي شيء مما يقال : إنه يملكه ؛ ورد هذه الملكية لصاحبها الذي له ما في السماوات وما في الأرض . . مجرد إحساسه بأن ما في يده عارية لأمد محدود ، ثم يستردها صاحبها الذي أعارها له في الأجل المرسوم . . مجرد استحضار هذه الحقائق والمشاعر كفيل وحده بأن يطامن من حدة الشره والطمع ، وحدة الشح والحرص ، وحدة التكالب المسعور . وكفيل كذلك بأن يسكب في النفس القناعة والرضى بما يحصل من الرزق ؛ والسماحة والجود بالموجود ؛ وأن يفيض على القلب الطمأنينة والقرار في الوجدان والحرمان سواء ؛ فلا تذهب النفس حسرات على فائت أو ضائع ؛ ولا يتحرق القلب سعارا على المرموق المطلوب !
( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ ) . .
وهذه صفة أخرى من صفات الله ؛ توضح مقام الألوهية ومقام العبودية . . فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية ؛ لا يتعدونه ولا يتجاوزونه ، يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع ؛ الذي لا يقدم بين يدي ربه ؛ ولا يجرؤ على الشفاعة عنده ، إلا بعد أن يؤذن له ، فيخضع للإذن ويشفع في حدوده . . وهم يتفاضلون فيما بينهم ، ويتفاضلون في ميزان الله . ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد . .
إنه الإيحاء بالجلال والرهبة في ظل الألوهية الجليلة العلية . يزيد هذا الإيحاء عمقا صيغة الاستفهام الاستنكارية ؛ التي توحي بأن هذا أمر لا يكون ؛ وأنه مستنكر أن يكون . فمن هو هذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ؟ وفي ظل هذه الحقيقة تبدو سائر التصورات المنحرفة للذين جاءوا من بعد الرسل فخلطوا بين حقيقة الألوهية وحقيقة العبودية ، فزعموا لله - سبحانه - خليطا يمازجه أو يشاركه بالبنوة أو بغيرها من الصور في أي شكل وفي أي تصور ، أو زعموا له - سبحانه - اندادا يشفعون عنده فيستجيب لهم حتما . أو زعموا له - سبحانه - من البشر خلفاء يستمدون سلطانهم من قرابتهم له . . في ظل هذه الحقيقة تبدو تلك التصورات كلها مستنكرة مستبعدة لا تخطر على الذهن ؛ ولا تجول في الخاطر ، ولا تلوح بظلها في خيال !
وهذه هي النصاعة التي يتميز بها التصور الإسلامي ؛ فلا تدع مجالا لتلبيس أو وهم ، أو اهتزاز في الرؤية ! الألوهية الوهية . والعبودية عبودية . ولا مجال لالتقاء طبيعتهما أدنى التقاء . والرب رب ، والعبد عبد . ولا مجال لمشاركة في طبيعتهما ولا التقاء .
فأما صلة العبد بالرب ، ورحمة الرب للعبد ، والقربى والود والمدد . . فالإسلام يقررها ويسكبها في النفس سكبا ؛ ويملأ بها قلب المؤمن ويفيضها عليه فيضا ؛ ويدعه يعيش في ظلالها الندية الحلوة . دون ما حاجة إلى خلط طبيعة الألوهية وطبيعة العبودية . ودون ما حاجة إلى الغبش والركام والزغللة والاضطراب الذي لا تتبين فيه صورة واحدة واضحة ولا ناصعة ولا محددة !
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . .
وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه ، وفي تحديد مقامه هو من إلهه . فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم . وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم . فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ؛ ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب . كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت . وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه . . أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه . .
وشطر الحقيقة الأول . . علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم . . من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة . النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها . يعلم ما تضمر علمه بما تجهر . ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل . ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه . . شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان ؛ كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه .
وشطر الحقيقة الثاني . . أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه . . جدير بأن يتدبره الناس طويلا . وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة .
( ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ) . .
إنه - سبحانه - هو الذي يعلم وحده كل شيء علما مطلقا شاملا كاملا . وهو - سبحانه - يتأذن فيكشف للعباد بقدر عن شيء من علمه ؛ تصديقا لوعده الحق : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ) . . ولكنهم هم ينسون هذه الحقيقة ؛ ويفتنهم ما يأذن الله لهم فيه من علمه . سواء كان هذا الذي أذن لهم فيه علم شيء من نواميس الكون وقوانينه ؛ أو رؤية شيء من غيبه في لحظة عابرة وإلى حد معين . . يفتنهم هذا كما يفتنهم ذاك ؛ فينسون الإإذن الأول الذي منحهم الإحاطة بهذا العلم . فلا يذكرون ولا يشكرون . بل يتبجحون وقد يكفرون .
إن الله سبحانه وهب الإنسان المعرفة مذ أراد إسناد الخلافة في الأرض إليه . ووعده أن يريه آياته في الآفاق وفي الأنفس ووعده الحق . وصدقه وعده فكشف له يوما بعد يوم ، وجيلا بعد جيل ، في خط يكاد يكون صاعدا أبدا ، عن بعض القوى والطاقات والقوانين الكونية التي تلزم له في خلافة الأرض ، ليصل بها إلى أقصى الكمال المقدر له في هذه الرحلة المرسومة .
وبقدر ما أذن الله للإنسان في علم هذا الجانب وكشف له عنه ، بقدر ما زوى عنه أسرارا أخرى لا حاجة له بها في الخلافة . . زوى عنه سر الحياة وما يزال هذا السر خافيا ، وما يزال عصيا ، وما يزال البحث فيه خبطا في التيه بلا دليل ! وزوى عنه سر اللحظة القادمة . فهي غيب لا سبيل إليه . والستر المسدل دونها كثيف لا تجدي محاولة الإنسان في رفعه . . وأحيانا تومض من وراء الستر ومضة لقلب مفرد بإذن من الله خاص ؛ ثم يسدل الستر ويسود السكون ؛ ويقف الإنسان عند حده لا يتعداه !
وزوى عنه أسرارا كثيرة . . زوى عنه كل ما لا يتعلق بالخلافة في الأرض . . والأرض هي تلك الذرة الصغيرة السابحة في الفضاء كالهباءة . .
ومع ذلك يفتن الإنسان بذلك الطرف من العلم ، الذي أحاط به بعد الأذن . يفتن فيحسب نفسه في الأرض إلها ! ويكفر فينكر أن لهذا الكون إلها ! وإن يكن هذا القرن العشرون قد بدأ يرد العلماء حقا إلى التواضعوالتطامن . فقد بدأوا يعلمون أنهم لم يؤتوا من العلم إلا قليلا ! وبقي الجهال المتعالمون الذين يحسبون أنهم قد علموا شيئا كثيرا !
( وسع كرسيه السماوات والأرض ، ولا يؤوده حفظهما ) . .
وقد جاء التعبير في هذه الصورة الحسية في موضع التجريد المطلق ؛ على طريقة القرآن في التعبير التصويري ، لأن الصورة هنا تمنح الحقيقة المراد تمثيلها للقلب قوة وعمقا وثباتا . فالكرسي يستخدم عادة في معنى الملك . فإذا وسع كرسيه السماوات والأرض فقد وسعهما سلطانه . وهذه هي الحقيقة من الناحية الذهنية . ولكن الصورة التي ترتسم في الحس من التعبير بالمحسوس أثبت وأمكن . وكذلك التعبير بقوله : ( ولا يؤوده حفظهما ) فهو كناية عن القدرة الكاملة . ولكنه يجيء في هذه الصورة المحسوسة . صورة انعدام الجهد والكلال . لأن التعبير القرآني يتجه إلى رسم صور للمعاني تجسمها للحس ، فتكون فيه أوقع وأعمق وأحس .
ولا حاجة بنا إلى كل ما ثار من الجدل حول مثل هذه التعبيرات في القرآن ، إذا نحن فقهنا طريقة القرآن التعبيرية ؛ ولم نستعر من تلك الفلسفات الأجنبية الغريبة التي أفسدت علينا كثيرا من بساطة القرآن ووضوحه .
ويحسن أن أضيف هنا أنني لم أعثر على أحاديث صحيحة في شأن الكرسي والعرش تفسر وتحدد المراد مما ورد منها في القرآن . ومن ثم أوثر أن لا أخوض في شأنها بأكثر من هذا البيان .
وهذه خاتمة الصفات في الآية ، تقرر حقيقة ، وتوحي للنفس بهذه الحقيقة . وتفرد الله سبحانه بالعلو ، وتفرده سبحانه بالعظمة . فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر . فلم يقل وهو علي عظيم ، ليثبت الصفة مجرد إثبات . ولكنه قال : ( العلي العظيم ) ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك !
إنه المتفرد بالعلو ، المتفرد بالعظمة . وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون ؛ وإلى العذاب في الآخرة والهوان . وهو يقول ( تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ) . . ويقول عن فرعون في معرض الهلاك : إنه كان عاليا . .
ويعلو الإنسان ما يعلو ، ويعظم الإنسان ما يعظم ، فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم . وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان ، فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه ؛ وترده إلى مخافة الله ومهابته ؛ وإلى الشعور بجلاله وعظمته ؛ وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده . فهي اعتقاد وتصور . وهي كذلك عمل وسلوك . .
{ اللّهُ لاَ إِلهَ إِلاّ هُوَ الْحَيّ الْقَيّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لّهُ مَا فِي السّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَن ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مّنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيّ الْعَظِيمُ }
قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله : «اللّهُ » .
وأما تأويل قوله : { لا إلَهَ إلاّ هُوَ } فإن معناه : النهي عن أن يعبد شيء غير الله الحيّ القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية . يقول : «الله » الذي له عبادة الخلق «الحيّ القيوم » ، لا إله سواه ، لا معبود سواه ، يعني : ولا تعبدوا شيئا سوى الحَيّ القَيّوم الذي لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ، والذي صفته ما وصف في هذه الآية . وهذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به أقوال المختلفين في البينات من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالى ذكره أنه فضل بعضهم على بعض ، واختلفوا فيه ، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض ، وإيمانا به من بعض . فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به ووفقنا للإقرار به .
وأما قوله : { الحَيّ } فإنه يعني : الذي له الحياة الدائمة ، والبقاء الذي لا أوّل له يحدّ ، ولا آخر له يُؤْمَد ، إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا فلحياته أول محدود وآخر مأمود ، ينقطع بانقطاع أمدها وينقضي بانقضاء غايتها .
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثت عن عمار بن الحسن ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { الحَيّ } حيّ لا يموت .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، مثله .
وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : إنما سمى الله نفسه حيا لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها ، فهو حيّ بالتدبير لا بحياة .
وقال آخرون : بل هو حيّ بحياة هي له صفة .
وقال آخرون : بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به ، فقلناه تسليما لأمره .
وأما قوله : { القَيّومُ } فإنه «الفيعول » من القيام ، وأصله «القيووم » : سبق عين الفعل وهي واو ياء ساكنة ، فاندغمتا فصارتا ياء مشددة وكذلك تفعل العرب في كل واو كانت للفعل عينا سبقتها ياء ساكنة . ومعنى قوله : { القَيّومُ } : القائم برزق ما خلق وحفظه ، كما قال أمية :
لَمْ يُخْلَقِ السّماءُ والنّجُومُ *** والشّمْسُ مَعْها قَمَرٌ يقومُ
قَدّرَهُ المُهَيْمِنُ القَيّومُ *** والحَشْرُ والجَنّةُ والجحيمُ
*** إلا لأمرٍ شأنُهُ عَظِيمُ ***
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { القَيّومُ } قال : القائم على كل شيء .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { القَيّومُ } قيم كل شيء ، يكلؤه ويرزقه ويحفظه .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { القَيّومُ } وهو القائم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { الحَيّ الْقَيّومُ } قال : القائم الدائم .
القول في تأويل قوله تعالى : { لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { لاَ تَأخُذُهُ سِنَةٌ } لا يأخذه نعاس فينعس ، ولا نوم فيستثقل نوما . والوسن : خثورة النوم ، ومنه قول عديّ بن الرقاع :
وَسْنانُ أقْصَدَهُ النّعاسَ فَرَنّقَتْ *** في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنائِمِ
ومن الدليل على ما قلنا من أنها خثورة النوم في عين الإنسان ، قول الأعشى ميمون بن قيس :
تُعاطِي الضّجِيعَ إذَا أقْبَلَتْ بُعَيْدَ النّعاسِ وَقَبْلَ الوَسَنْ
باكَرَتْها الأغْرَابُ في سِنَةِ النّوْمِ فَتَجْرِي خِلالَ شَوْكِ السّيالِ
يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها ، يقال منه : وسن فلان فهو يَوْسَنُ وَسَنا وسِنَةً وهو وسنان ، إذا كان كذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله تعالى : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } قال : السنة : النعاس ، والنوم : هو النوم .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } السنة : النعاس .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة والحسن في قوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } قالا : نعسة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عمرو بن عون ، قال : أخبرنا هشيم ، عن جويبر ، عن الضحاك في قوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } قال : السنة : الوسنة ، وهو دون النوم ، والنوم : الاستثقال .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } السنة : النعاس ، والنوم : الاستثقال .
حدثني يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قال : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك ، مثله سواء .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } أما سنة : فهو ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } قال : السنة : الوسنان بين النائم واليقظان .
حدثني عباس بن أبي طالب ، قال : حدثنا منجاب بن الحرث ، قال : حدثنا عليّ بن مسهر ، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } قال : النعاس .
حدثني يونس ، قال أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { لا تأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } قال : الوسنان : الذي يقوم من النوم لا يعقل ، حتى ربما أخذ السيف على أهله .
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله : { لا تَأخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ } لا تحله الاَفات ، ولا تناله العاهات . وذلك أن السنة والنوم معنيان يغمران فهم ذي الفهم ، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه .
فتأويل الكلام إذ كان الأمر على ما وصفنا : الله لا إله إلا هو الحيّ الذي لا يموت ، القيوم على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال ، لا تأخذه سنة ولا نوم ، لا يغيره ما يغير غيره ، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام ، بل هو الدائم على حال ، والقيوم على جميع الأنام ، لو نام كان مغلوبا مقهورا ، لأن النوم غالب النائم قاهره ، ولو وسن لكانت السموات والأرض وما فيهما دكّا ، لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته ، والنوم شاغل المدبر عن التدبير ، والنعاس مانعٌ المقدّر عن التقدير بوسنه . كما :
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، قال : وأخبرني الحكم بن أبان ، عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله : { لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } أن موسى سأل الملائكة : هل ينام الله ؟ فأوحى الله إلى الملائكة ، وأمرهم أن يؤرّقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام . ففعلوا ، ثم أعطوه قارورتين فأمسكوه ، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما . قال : فجعل ينعس وهما في يديه ، في كل يد واحدة . قال : فجعل ينعس وينتبه ، وينعس وينتبه ، حتى نعس نعسة ، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما . قال معمر : إنما هو مثل ضربه الله ، يقول : فكذلك السموات والأرض في يديه .
حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل ، قال : حدثنا هشام بن يوسف ، عن أمية بن شبل ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة ، عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى صلى الله عليه وسلم على المنبر ، قال : «وَقَعَ فِي نَفْسِ مُوسَى هَلْ يَنامُ اللّهُ تَعالى ذِكْرُهُ ؟ فأرْسَلَ اللّهُ إلَيْهِ مَلَكا فَأرّقَهُ ثَلاثا ، ثُمّ أعْطَاهُ قارُورَتَيْنِ ، فِي كُلّ يَدٍ قارُورَةٌ ، وأمَرَهُ أنْ يَحْتَفِظَ بِهما » قال : «فَجَعَلَ يَنامُ وَتَكادُ يَدَاهُ تَلْتَقِيَانِ ، ثُمّ يَسْتَيْقِظُ فَيَحْبِسُ إحْدَاهُمَا عَنِ الأُخْرَى ، ثُمّ نَامَ نَوْمَةً فَاصْطَفَقَتْ يَدَاهُ وَانْكَسَرَتِ القارُورَتَانِ » . قال : ضرب الله مثلاً له ، أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض .
القول في تأويل قوله تعالى : { لَهُ مَا فِي السّمَوَاتِ وَما فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بإذْنِهِ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { لَهُ مَا فِي السّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد ، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود . وإنما يعني بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه ، لأن المملوك إنا هو طوع يد مالكه ، وليس له خدمة غيره إلا بأمره . يقول : فجميع ما في السموات والأرض ملكي وخلقي ، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه ، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه ، ولا يطيع سوى مولاه .
وأما قوله : { مَنْ ذَا الّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إلاّ بِإذْنِهِ } يعني بذلك : من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم إلا أن يخليه ، ويأذن له بالشفاعة لهم . وإنما قال ذلك تعالى ذكره لأن المشركين قالوا : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى ، فقال الله تعالى ذكره لهم : لي ما في السموات وما في الأرض مع السموات والأرض ملكا ، فلا ينبغي العبادة لغيري ، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى ، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا ، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له ، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي .
القول في تأويل قوله تعالى : { يَعْلَمُ ما بَيْنَ أيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلاّ بِمَا شاءَ } .
يعني تعالى ذكره بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما ، لا يخفى عليه شيء منه .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن منصور ، عن الحكم : { وَيَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } الدنيا { وَما خَلْفَهُمْ } الاَخرة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ } ما مضى من الدنيا { وَما خَلْفَهُمْ } من الاَخرة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج قوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ } ما مضى أمامهم من الدنيا { وَما خَلْفَهُمْ } ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أيْدِيهِمْ } قال : ما بين أيديهم فالدنيا { وَما خَلْفَهُمْ } فالاَخرة .
وأما قوله : { وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شاءَ } فإنه يعني تعالى ذكره أنه العالم الذي لا يخفى عليه شيء محيط بذلك كله محص له دون سائر من دونه ، وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه فأراد فعلمه .
وإنما يعني بذلك أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلاً فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم ، يقول : أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها يعلمها ، لا يخفى عليه صغيرها وكبيرها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ } يقول : لا يعلمون بشيء من علمه إلا بما شاء هو أن يعلمهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأَرْضَ } .
اختلف أهل التأويل في معنى الكرسي الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض ، فقال بعضهم : هو علم الله تعالى ذكره . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، عن مطرف ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ } قال : كرسيه : علمه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا مطرّف ، عن جعفر بن أبي المغيرة ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، مثله ، وزاد فيه : ألا ترى إلى قوله : { وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا } ؟
وقال آخرون : الكرسي : موضع القدمين . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ بن مسلم الطوسي ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث ، قال : ثني أبي ، قال : ثني محمد بن جحادة ، عن سلمة بن كهيل ، عن عمارة بن عمير ، عن أبي موسى ، قال : الكرسي : موضع القدمين ، وله أطيط كأطيط الرحل .
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ } فإن السموات والأرض في جوف الكرسي ، والكرسي بين يدي العرش ، وهو موضع قدميه .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك قوله : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ } قال : كرسيه الذي يوضع تحت العرش ، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن سفيان ، عن عمار الدهني ، عن مسلم البطين ، قال : الكرسي : موضع القدمين .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ } قال : لما نزلت : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ } قال أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم : يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض ، فكيف العرش ؟ فأنزل الله تعالى : { وَما قَدَرُوا اللّهَ حَقّ قَدْرِهِ } إلى قوله : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عَمّا يُشْرِكُونَ } .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ والأرْضَ } قال ابن زيد : فحدثني أبي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما السّمَوَاتُ السّبْعُ فِي الكُرْسِيّ إلاّ كَدَرَاهِمَ سَبْعَةٍ أُلْقِيَتْ فِي تُرْسٍ » . قال : وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما الكُرْسِيّ في العَرْشِ إلاّ كَحَلْقَةٍ مِنْ حَدِيدٍ أُلْقِيَتْ بَيْنَ ظَهْرَيْ فَلاةٍ مِنَ الأرْضِ » .
وقال آخرون : الكرسي : هو العرش نفسه . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا أبو زهير ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : كان الحسن يقول : الكرسي : هو العرش .
قال أبو جعفر : ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب ، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ما :
حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : أخبرنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، قال : أتت امرأة النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة ! فعظم الربّ تعالى ذكره ، ثم قال : «إنّ كُرْسِيّهُ وَسِعَ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ ، وَإنّهُ لَيَقْعُدُ عَلَيْهِ فَمَا يَفْضُلُ مِنْهُ مِقْدَارُ أرْبَعِ أصَابِعَ » ثم قال بأصابعه فجمعها : «وَإنّ لَهُ أطيطا كأطِيطِ الرّحْلِ الجَدِيدِ إذَا رُكِبَ مِنْ ثِقَلِه » .
حدثني عبد الله بن أبي زياد ، قال : حدثنا يحيى بن أبي بكر ، عن إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، عن عمر ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .
حدثنا أحمد بن إسحاق ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الله بن خليفة ، قال : جاءت امرأة ، فذكر نحوه .
وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عنه أنه قال : هو علمه ، وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُما } على أن ذلك كذلك ، فأخبر أنه لا يؤوده حِفظ ما علم ، وأحاط به مما في السموات والأرض ، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم : { رَبّنَا وَسِعْتَ كُلّ شَيْءٍ رَحمَةً وَعِلْما } فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء ، فكذلك قوله : { وَسِعَ كُرْسِيّهُ السّمَوَاتِ وَالأرْضَ } . وأصل الكرسي : العلم ، ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب كُرّاسة ، ومنه قول الراجز في صفة قانص :
حتى إذَا ما احْتازَها تَكَرّسا
يعني علم . ومنه يقال للعلماء : الكراسي ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، يعني بذلك أنهم العلماء الذين تصلح بهم الأرض¹ ومنه قول الشاعر :
يَحُفّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌكَرَاسِيّ بالأحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ
يعني بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها .
والعرب تسمي أصل كل شيء : الكِرْس ، يقال منه : فلان كريم الكِرْس : أي كريم الأرض ، قال العجاج :
قَدْ عَلِمَ القُدّوسُ مَوْلَى القُدْسِ
أنّ أبا العَبّاسِ أوْلَى نَفْسِ
بِمَعْدن المُلْكِ الكَرِيمِ الكِرْسِ
يعني بذلك : الكريم الأصل ، ويُروى :
فِي مَعْدِنِ العزّ الكَرِيمِ الكِرْسِ
( القول في تأويل قوله تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيّ العَظِيمُ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { وَلا يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا } ولا يشقّ عليه ولا يثقله ، يقال منه : قد آدَني هذا الأمر فهو يؤودُني أَوْدا وإيادا ، ويقال : ما آدك فهو لي آئدٌ ، يعني بذلك : ما أثقلك فهو لي مُثقِل .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى بن إبراهيم ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } يقول : لا يثقل عليه .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُما } قال : لا يثقل عليه حفظهما .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } لا يثقل عليه لا يجهده حفظهما .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله : { وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يثقل عليه شيء .
حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ، قال : حدثنا يوسف بن خالد السمتي ، قال : حدثنا نافع بن مالك ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يثقل عليه حفظهما .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن أبي زائدة ، وحدثنا يحيى بن أبي طالب ، قال : أخبرنا يزيد ، قالا جميعا : أخبرنا جويبر ، عن الضحاك : { وَلاَ يَؤُوُدُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يثقل عليه .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، عن عبيد ، عن الضحاك ، مثله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعته يعني خلادا يقول : سمعت أبا عبد الرحمن المديني يقول في هذه الآية : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يكثر عليه .
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، عن عيسى بن ميمون ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يَكْرُثُهُ .
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يثقل عليه .
حدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } يقول : لا يثقل عليه حفظهما .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } قال : لا يعزّ عليه حفظهما .
قال أبو جعفر : والهاء والميم والألف في قوله : { حِفْظُهُمَا } من ذكر السموات والأرض¹ فتأويل الكلام : وسع كرسيه السموات والأرض ، ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض .
وأما تأويل قوله : { وَهُوَ العَلِيّ } فإنه يعني : والله العليّ . والعلِيّ : الفعيل من قولك علا يعلو علوّا : إذا ارتفع ، فهو عالٍ وعليّ ، والعليّ : ذو العلوّ والارتفاع على خلقه بقدرته . وكذلك قوله : { العَظِيمُ } ذو العظمة ، الذي كل شيء دونه ، فلا شيء أعظم منه . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : العظيم الذي قد كمل في عظمته .
واختلف أهل البحث في معنى قوله : { وَهُوَ العَلِيّ } فقال بعضهم : يعني بذلك¹ وهو العليّ عن النظير والأشباه . وأنكروا أن يكون معنى ذلك : وهو العليّ المكان ، وقالوا : غير جائز أن يخلو منه مكان ، ولا معنى لوصفه بعلوّ المكان¹ لأن ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان .
وقال آخرون : معنى ذلك : وهو العليّ على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه ، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه ، كما وصف به نفسه أنه على العرش ، فهو عالٍ بذلك عليهم .
وكذلك اختلفوا في معنى قوله : { العَظِيمُ } فقال بعضهم : معنى العظيم في هذا الموضع : المعظم صرف المُفَعّل إلى فعيل ، كما قيل للخمر المعتقة : خمر عتيق ، كما قال الشاعر :
وكأنّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإسْفَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلالِ
وإنما هي معتقة . قالوا : فقوله «العظيم » معناه : المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه . قالوا : وإما يحتمل قول القائل : هو عظيم أحد معنيين : أحدهما : ما وصفنا من أنه معظم¹ والاَخر : أنه عظيم في المساحة والوزن . قالوا : وفي بطول القول بأن يكون معنى ذلك : أنه عظيم في المساحة والوزن صحة القول بما قلنا .
وقال آخرون : بل تأويل قوله : { العَظِيمُ } هو أن له عظمة هي له صفة . وقالوا : لا نصف عظمته بكيفية ، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات ، وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العِظَم المعروف من العباد ، لأن ذلك تشبيه له بخلقه ، وليس كذلك . وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة التي قدمنا ذكرها ، وقالوا : لو كان معنى ذلك أنه مُعَظَّمٌ ، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق ، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق ، لأنه لا معظم له في هذه الأحوال .
وقال آخرون : بل قوله : إنه العظيم وصف منه نفسه بالعظم . وقالوا : كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته .
{ اللَّهُ لآ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ }
هذه سيدة آي القرآن ، ورد ذلك في الحديث( {[2428]} ) وورد أنها تعدل ثلث القرآن( {[2429]} ) ، وورد أن من قرأها أول ليله لم يقربه شيطان( {[2430]} ) ، وكذلك من قرأها أول نهاره . وهذه متضمنة التوحيد والصفات العلى ، و { الله } مبتدأ ، و { لا إله } مبتدأ ثانٍ ، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود ، و { إلا } هو بدل من موضع { لا إله } ، و { الحي } صفة من صفات الله تعالى ذاتية ، وذكر الطبري ، عن قوم أنهم قالوا : الله تعالى حي لا بحياة . وهذا قول المعتزلة وهو قول مرغوب عنه ، وحكي عن قوم أنه حي بحياة هي صفة له ، وحكي عن قوم أنه يقال حي كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه( {[2431]} ) ، و { القيوم } فيعول من القيام أصله قيووم اجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء ، وقيوم بناء مبالغة أي : هو القائم على كل أمر بما يجب له ، وبهذا المعنى فسره مجاهد والربيع والضحاك ، وقرأ ابن مسعود وعلقمة وإبراهيم النخعي والأعمش : «الحي القيوم » بالألف( {[2432]} ) ثم نفى عز وجل أن تأخذه { سنة } أو { نوم } ، وفي لفظ الأخذ غلبة ما ، فلذلك حسنت في هذا الموضع بالنفي ، والسنة بدء النعاس ، وهو فتور يعتري الإنسان وترنيق في عينيه ، وليس يفقد معه كل ذهنه ، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن ، والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا تدركه آفة ولا يلحقه خلل بحال من الأحوال ، فجعلت هذه مثالاً لذلك وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ، وهذا هو مفهوم الخطاب كما قال تعالى : { فلا تقل لهما أف }( {[2433]} ) [ الإسراء : 23 ] ، ومما يفرق بين الوسن والنوم قول عدي بن الرقاع : [ الكامل ]
وَسْنان أَقْصَدُه النُّعاسُ فَرنّقَتْ . . . في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بنائِمِ( {[2434]} )
وبهذا المعنى في السنة فسر الضحاك والسدي ، وقال ابن عباس وغيره : السنة النعاس ، وقال ابن زيد : الوسنان ، الذي يقوم من النوم وهولا يعقل حتى ربما جرد السيف على أهله .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا الذي قال ابن زيد فيه نظر وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب ، وروى أبو هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال : «وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه ؟ فأرسل الله إليه ملكاً فأرقه ثلاثاً لم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما ، قال : فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت فانكسرت القارورتان »
قال : ضرب الله مثلاً أن لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض( {[2435]} ) ، وقوله تعالى : { له ما في السموات وما في الأرض } أي بالملك . فهو مالك الجميع وربه ، وجاءت العبارة ب { ما } وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود ، ثم قرر ووقف تعالى على من يتعاطى أن { يشفع عنده } أو يتعاطى ذلك فيه إلا أن يأذن هو في ذلك لا إله إلا هو( {[2436]} ) وقال الطبري : هذه الآية نزلت لما قال الكفار : ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى ، فقال الله : { له ما في السموات وما في الأرض } الآية تقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة وهنا هم الأنبياء والعلماء وغيرهم ، والإذن هنا راجع إلى الأمر فيما نص عليه ، كمحمد صلى الله عليه وسلم إذا قيل له : واشفع تشفع( {[2437]} ) وإلى العلم والتمكين إن شفع أحد من الأنبياء والعلماء قبل أن يؤمر ، والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار ، وهو بين المنزلتين أو وصل ولكن له أعمال صالحة( {[2438]} ) .
وفي البخاري( {[2439]} ) ، في باب بقية من باب الرؤية ، أن المؤمنين يقولون : ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا ويعملون معنا ، فهذه شفاعة فيمن يقرب أمره ، وكما يشفع الطفل المحبنطىء على باب الجنة الحديث( {[2440]} ) ، وهذا إنما هو في قرابتهم ومعارفهم وأن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الإيمان ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين بالذنوب الذين لم تنلهم شفاعة الأنبياء .
وأما شفاعة محمد في تعجيل الحساب فخاصة له ، وهي الخامسة التي في قوله : «وأعطيت الشفاعة » وهي عامة للناس ، والقصد منها إراحة المؤمنين ، ويتعجل للكفار منها المصير إلى العذاب ، وكذلك إنما يطلبها إلى الأنبياء المؤمنون ، والضميران في قوله : { أيديهم وما خلفهم } عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله : { له ما في السموات وما في الأرض } ، وقال مجاهد { ما بين أيديهم } الدنيا { وما خلفهم } الآخرة ، وهذا صحيح في نفسه عند موت الإنسان ، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان ، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده ، وبنحو قول مجاهد قاله السدي وغيره .
{ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ }
قوله تعالى : { ولا يحيطون بشيء من علمه } معناه : من معلوماته( {[2441]} ) ، وهذا كقول الخضر لموسى عليهما السلام حين نقر العصفور من حرف السفينة : ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات ، لأن علم الله تعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض ، ومعنى الآية ، لا معلوم لأحد إلا ما شاء الله أن يعلمه ، واختلف الناس في الكرسي الذي وصفه الله تعالى بأنه وسع السموات والأرض ، فقال ابن عباس : { كرسيه } علمه ، ورجحه الطبري : وقال : منه الكراسة للصحائف التي تضم العلم ، ومنه قيل للعلماء الكراسيّ ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، وهذه الألفاظ تعطي نقض ما ذهب إليه من أن الكرسي العلم ، قال الطبري : ومنه قول الشاعر :
تحف بهم بيض الوجوه وعصبة . . . كراسيّ بالأحداث حين تنوب( {[2442]} )
يريد بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها ، وقال أبو موسى الأشعري : الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل( {[2443]} ) ، وقال السدي : هو موضع قدميه .
قال القاضي أبو محمد : وعبارة أبي موسى مخلصة( {[2444]} ) لأنه يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين في أسرة الملوك ، وهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه نسبة الكرسي إلى سرير الملك ، والكرسي هو موضع القدمين ، وأما عبارة السدي فقلقة ، وقد مال إليها منذر البلوطي( {[2445]} ) وتأولها بمعنى : ما قدم من المخلوقات( {[2446]} ) على نحو ما تأول في قول النبي عليه السلام فيضع الجبار فيها قدمه( {[2447]} ) . قال أبو محمد وهذا عندي عناء ، لأن التأويل لا يضطر إليه إلا في ألفاظ النبي عليه السلام وفي كتاب الله ، وأما في عبارة مفسر فلا ، وقال الحسن بن أبي الحسن : الكرسي هو العرش نفسه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش ، والعرش أعظم منه( {[2448]} ) ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس »( {[2449]} ) ، وقال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض » ، وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى ، والمستفاد من ذلك عظم قدرته إذ { لا يؤوده } حفظ هذا الأمر العظيم ، و { يؤوده } : معناه يثقله ، يقال آدني( {[2450]} ) الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة ، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم ، وروي عن الزهري وأبي جعفر والأعرج بخلاف عنهم ، تخفيف الهمزة التي على الواو الأولى ، جعلوها بين بين لا تخلص واواً مضمومة ولا همزة محققة ، كما قيل في لؤم لوم ، و { العلي } : يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان ، لأن الله منزه عن التحيز ، وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا : هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه .
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وهذا قول جهلة مجسمين( {[2451]} ) ، وكان الوجه أن لا يحكى وكذا { العظيم } هي صفة بمعنى عظم القدر والخطر ، لا على معنى عظم الأجرام ، وحكى الطبري عن قول : أن { العظيم } معناه المعظم ، كما يقال العتيق بمعنى المعتق وأنشد قول الأعشى :
وكأن الخمر العتيق من الأس . . . فنط ممزوجة بماء زلال( {[2452]} )
وذكر عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا : لو كان بمعنى معظم لوجب أن لا يكون عظيماً قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم ، إذ لا معظم له حينئذ .