البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ} (255)

السِّنَةُ والوسن : قيل : النعاس ، وهو الذي يتقدّم النوم من الفتور قال الشاعر :

وسنان أقصدَه النعاس فرنقت***

في عينه سِنَة وليس بنائم

ويبقى مع السنة بعض الذهن ، والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن ، وهذا البيت يظهر منه التفرقة بين السنة والنوم .

وقال ابن زيد : الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل ، حتى ربما جرد السيف على أهله ، وهذا الذي قاله ، ابن زيد ليس بمفهوم من كلام العرب ؛ قال المفضل : السنة ثقل في الرأس ، والنعاس في العين ، والنوم في القلب .

الكرسي : آلة من الخشب أو غيره معلومة ، يقعد عليها ، والياء فيه كالياء في : قمري ، ليست للنسب ، وجمعه كراسي ، وسيأتي تفسيره بالنسبة إلى الله تعالى .

آده الشيء يؤده : أثقله ، وتحمل منه مشقة قال الشاعر :

ألاَ ما لسلمى اليوم بت جديدها***

وضنَّت ، وما كان النوال يؤدها

{ الله لا إله إلاَّ هو الحي القيوم } هذه الآية تسمى آية الكرسي لذكره فيها ، وثبت في ( صحيح مسلم ) من حديث أبيّ أنها أعظم آية ، وفي ( صحيح البخاري ) من حديث أبي هريرة : أن قارئها إذا آوى إلى فراشه لن يزال عليه من الله حافظ ، ولا يقربه شيطان حتى يصبح ، وورد أنها تعدل ثلث القرآن ، وورد أنا ما قرئت في دار إلاَّ اهتجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين يوماً ، وورد أن من قرأها إذا أخذ مضجعه أمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره ، والأبيات حوله ، وورد : أن سيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي ، وفضلت هذا التفضيل لما اشتملت عليه من توحيد الله وتعظيمه ، وذكر صفاته العلا ، ولا مذكور أعظم من الله ، فذكره أفضل من كل ذكر .

قال الزمخشري : وبهذا يعلم : أن أشرف العلوم وأعلاها منزلة عند الله علم العدل والتوحيد ، ولا ينفرنك عنه كثرة أعدائه ف :

إن العرانين تلقاها محسدة***

انتهى كلامه .

وأهل العدل والتوحيد الذين أشار إليهم هم المعتزلة ، سموا أنفسهم بذلك قال بعض شعرائهم من أبيات :

إن أنصر التوحيد والعدل في***

كل مقام باذلاً جهدي

وهذا الزمخشري لغلوه في محبة مذهبه يكاد أن يدخله في كل ما يتكلم به ، وإن لم يكن مكانه .

ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر أنه فضل بعض الأنبياء على بعض ، وأن منهم من كلمه ، وفسر بموسى عليه السلام ، وأنه رفع بعضهم درجات ، وفسر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ونص على عيسى عليه السلام ، وتفضيل المتبوع يفهم منه تفضيل التابع ، وكانت اليهود والنصارى قد أحدثوا بعد نبيهم بدعاً في أديانهم وعقائدهم ، ونسبوا الله تعالى إلى ما لا يجوز عليه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى الناس كافة ، فكان منهم العرب ، وكانوا قد اتخذوا من دون الله آلهة وأشركوا ، فصار جميع الناس المبعوث إليهم صلى الله عليه وسلم على غير استقامة في شرائعهم وعقائدهم ، وذكر تعالى أن الكافرين هم الظالمون ، وهم الواضعون الشيء غير مواضعه ، أتى بهذه الآية العظيمة الدالة على إفراد الله بالوحدانية ، والمتضمنة صفاته العلا من : الحياة ، والاستبداد بالملك ، واستحالة كونه محلاً للحوادث ، وملكه لما في السموات والأرض ، وامتناع الشفاعة عنده إلاَّ باذنه ، وسعة علمه ، وعدم إحاطة أحد بشيء من علمه إلاَّ بارادته ، وباهر ما خلق من الكرسي العظيم الاتساع ، ووصفه بالمبالغة العلو والعظيمة ، إلى سائر ما تضمنته من أسمائه الحسنى وصفاته العلا ، نبههم بها على العقيدة الصحيحة التي هي محض التوحيد ، وعلى طرح ما سواها .

وتقدّم الكلام على لفظة : الله ، وعلى قوله : لا إله إلا هو ، فأغنى عن إعادته .

الحي : وصف وفعله حيي ، قيل : وأصله : حيو ، فقلبت الواو ياء لكسرة ما قبلها ، وأدغمت في الياء ، وقيل : أصله فيعل ، فخفف كميت في ميت ، ولين في لين ، وهو وصف لمن قامت به الحياة ، وهو بالنسبة إلى الله تعالى من صفات الذات حي بحياة لم تزل ولا تزول ، وفسر هنا بالباقي ، قالوا : كما في قول لبيد :

فاما تريني اليوم أصبحت سالماً***

فلست بأحيا من كلاب وجعفر

أي : فلست بأبقى ، وحكى الطبري عن قوم أنه ، يقال : حي كما وصف نفسه ، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه ، وحكي أيضاً عن قوم : أنه حي لا بحياة ، وهو قول المعتزلة ، ولذلك قال الزمخشري .

الحي الباقي الذي لا سبيل للفناء عليه ، وهو على اصطلاح المتكلمين الذي يصح أن يعلم ويقدر .

انتهى كلامه ، وعنى بالمتكلمين متكلمي مذهبه ، والكلام على وصف الله بالحياة مذكور في كتب أصول الدين .

وقرأ الجمهور : القيوم ، على وزن فيعول ، أصله قيووم اجتمعت الياء والواو ، وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياءً وأدغمت فيها الياء وقرأ ابن مسعود ، وابن عمر ، وعلقمة ، والنخعي والأعمش : القيام وقرأ علقمة أيضاً : القيم ، كما تقول : ديور وديّار وقال أمية :

لم تخلقِ السماءُ والنجوم***

والشمس معها قمر يعوم

قدرها المهيمن القيُّوم***

والحشر والجنة والنعيم

إلاَّ لأمر شأنه عظيم***

ومعناه : أنه قائم على كل شيء بما يجب له ، بهذا فسره مجاهد ، والربيع ، والضحاك .

وقال ابن جبير : الدائم الوجود .

وقال ابن عباس : الذي لا يزول ولا يحول ، وقال قتادة : القائم بتدبير خلقه .

وقال الحسن : القائم على كل نفس بما كسبت .

وقيل : العالم بالأمور ، من قولهم : فلان يقوم بهذا الكتاب أي : يعلم ما فيه .

وقيل : هو مأخوذ من الاستقامة وقال أبو روق : الذي لا يبلى .

وقال الزمخشري : الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه .

وهذه الأقوال تقارب بعضها بعضاً .

وقالوا : فيعول ، من صيغ المبالغة ، وجوّزوا رفع الحي على أنه صفة للمبتدأ الذي هو : الله ، أو على أنه خبر بعد خبر ، أو على أنه بدل من : هو ، أو من : الله تعالى ، أو : على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو ، أو : على أنه مبتدأ والخبر : لا تأخذه ، وأجودها الوصف ، ويدل عليه قراءة من قرأ : الحيَّ القيومَ بالنصب ، فقطع على إضمار : أمدح ، فلو لم يكن وصفاً ما جاز فيه القطع ، ولا يقال : في هذا الوجه الفصل بين الصفة والموصوف بالخبر ، لأن ذلك جائز حسن ، تقول : زيد قائم العاقل .

{ لا تأخذه سنة ولا نوم } يقال : وسن سنة ووسناً ، والمعنى : أنه تعالى لا يغفل عن دقيق ولا جليل ، عبر بذلك عن الغفلة لأنه سببها ، فأطلق اسم السبب على المسبب قال ابن جرير : معناه لا تحله الآفات والعاهات المذهلة عن حفظ المخلوقات ، وأقيم هذا المذكور من الآفات مقام الجميع ، وهذا هو مفهوم الخطاب ، كما قال تعالى : { ولا تقبل لهما أف } وقيل : نزه نفسه عن السنة والنوم لما فيها من الراحة ، وهو تعالى لا يجوز عليه التعب والاستراحة .

وقيل : المعنى لا يقهره شيء ولا يغلبه ، وفي المثل : النوم سلطان قال الزمخشري : وهو تأكيد للقيوم ، لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيوماً .

ومنه حديث موسى أنه سأل الملائكة ، وكان ذلك من قومه كطلب الرؤية : أينام ربُّنا ؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا تتركوه ينام .

ثم قال : خذ بيدك قارورتين مملوؤتين ، فأخذهما ، وألقى الله عليه ، النعاس ، فضرب إحداهما عن الأخرى فانكسرتا ، ثم أوحى إليه : قل لهؤلاء إني أمسك السموات والأرض بقدرتي ، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا . انتهى .

هكذا أورد الزمخشري هذا الخبر ، وفيه أنه سأل الملائكة ، وكان ذلك يعني السؤال من قومه ، كطلب الرؤية ، يعني أن طلب الرؤية هو عنده من باب المستحيل ، كما استحال النوم في حقه تعالى ، وهذا من عادته في نصرة مذهبه ، يذكره حيث لا تكون الآية تتعرض لتلك المسألة .

وأورد غيره هذا الخبر عن أبي هريرة ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى عليه السلام على المنبر ، قال وقع في نفس موسى : هل ينام الله ؟ وساق الخبر قريباً من معنى ما ذكره الزمخشري .

قال بعض معاصرينا : هذا حديث وضعه الحشوية ، ومستحيل أن سأل موسى ذلك عن نفسه أو عن قومه ، لأن المؤمن لا يشك في أن الله ينام أو لا ينام ، فكيف الرسل ؟ انتهى كلامه .

وفائدة تكرار : لا ، في قوله : ولا نوم ، انتفاؤهما على كل حال ، إذ لو أسقطت ، لا : لا ، احتمل انتفاؤهما بقيد الاجتماع ، تقول : ما قام زيد وعمرو ، بل أحدهما ، ولا يقال : ما قام زيد ولا عمرو ، بل أحدهما .

وتقدّم قول من جعل هذه الجملة خبراً لقوله : الحي ، على أن يكون : الحي ، مبتدأ ، ويجوز أن يكون خبراً عن الله ، فيكون قد أخبره بعده إخباراً ، على مذهب من يجيز ذلك ، وجوّز أبو البقاء أن تكون الجملة في موضع الحال من الضمير المستكن في القيوم ، أي : قيوم بأمر الخلق غير غافل .

{ له ما في السموات وما في الأرض } يصح أن يكون خبراً بعد خبر ، ويصح أن يكون استئناف خبر ، كما يصح ذلك في الجملة التي قبلها .

و : ما ، للعموم تشمل كل موجود ، و : اللام ، للملك أخبر تعالى أن مظروف السموات والأرض ملك له تعالى ، وكرر : ما ، للتوكيد .

وكان ذكر المظروف هنا دون ذكر الظرف ، لأن المقصود نفي الإلهية عن غير الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أن يعبد غيره ، لأن ما عبد من دون الله من الأجرام النيرة التي في السموات : كالشمس ، والقمر ، والشعرى ؛ والأشخاص الأرضية : كالأصنام ، وبعض بني آدم ، كل منهم ملك لله تعالى ، مربوب مخلوق .

وتقدّم أنه تعالى خالق السموات والأرض ، فلم يذكرهما كونه مالكاً لهما استغناء بما تقدّم .

{ من ذا الذي يشفع عنده إلاَّ بإذنه } كان المشركون يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله ، وكانوا يقولون : إنما نعبدهم ليقرّبونا إلى الله زلفى .

وفي هذه الآية أعظم دليل على ملكوت الله ، وعظم كبريائه ، بحيث لا يمكن أن يقدم أحد على الشفاعة عنده إلاَّ باذن منه تعالى ، كما قال تعالى : { لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن } ودلت الآية على وجود الشفاعة بإذنه تعالى ، والإذن هنا معناه الأمر ، كما ورد : إشفع تشفع ، أو العلم أو التمكين إن شفع أحد بلا أمر .

و : من ، رفع على الابتداء ، وهو استفهام في معنى النفي ، ولذلك دخلت : إلاَّ ، في قوله : إلا بإذنه ، وخبر المبتدأ قالوا : ذا ، ويكون الذي نعتاً لذا ، أو بدلاً منه ، وعلى هذا الذي قالوا يكون : ذا ، اسم إشارة ، وفي ذلك بعد ، لأن : ذا ، إذا كان اسم إشارة وكان خبراً عن : من ، استقلت بهما الجملة ، وأنت ترى احتياجها إلى الموصول بعدها .

والذي يظهر أن : من ، الإستفهامية ركب معها : ذا ، وهو الذي يعبر عنها بعض النحويين أن : ذا ، لغو ، فيكون : من ذا ، كله في موضع رفع بالابتداء ، والموصول بعدهما هو الخبر ، إذ به يتم معنى الجملة الابتدائية ، و : عنده ، معمول : ليشفع ، وقيل : يجوز أن يكون حالاً من الضمير في يشفع ، فيكون التقدير : يشفع مستقراً عنده ، وضعف بأن المعنى على يشفع إليه .

وقيل : الحال أقوى لأنه إذا لم يشفع من هو عنده وقريب منه ، فشفاعة غيره أبعد ، و : بإذنه ، متعلق : بيشفع ، والباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر عنها بالحال ، أي : لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له .

{ يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } الضمير يعود على : ما ، وهم الخلق ، وغلب من يعقل ، وقيل : الضميران في : أيديهم وخلفهم ، عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله : { له ما في السموات وما في الأرض } قاله ابن عطية ، وجوّز ابن عطية أن يعود على ما دل عليه : من ذا ، من الملائكة والأنبياء .

وقيل : على الملائكة ، قاله مقاتل ، و : ما بين أيديهم ، أمر الآخرة ، و : ما خلفهم ، أمر الدنيا .

قاله ابن عباس ، وقتادة ، أو العكس قاله مجاهد ، وابن جريح ، والحكم بن عتبة ، والسدّي وأشياخه .

و : ما بين أيديهم ، هو ما قبل خلقهم ، و : ما خلفهم ، هو ما بعد خلقهم ، أو : ما بين أيديهم ، ما أظهروه ، و : ما خلفهم ، ما كتموه .

قاله الماوردي ، أو : ما بين أيديهم ، من السماء إلى الأرض ، و : ما خلفهم ، ما في السموات .

أو : ما بين أيديهم ، الحاضر من أفعالهم وأحوالهم ، و : ما خلفهم ، ما سيكون .

أو : عكسه ، ذكر هذين القولين تاج القرّاء في تفسيره .

أو : ما بين أيدي الملائكة من أمر الشفاعة ، وما خلفهم من أمر الدنيا أو بالعكس قاله مجاهد .

أو ما فعلوه وما هم فاعلوه ، قاله مقاتل .

والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به ، كما تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، وأنت تعني بذلك جميع جسده ، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات ، فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات ، لا يعزب عنه شيء ، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين .

كما ذهبوا إليه .

{ ولا يحيطون بشيء من علمه } الإحاطة تقتضي الحفوف بالشيء من جميع جهاته ، والاشتمال عليه ، والعلم هنا المعلوم لأن علم الله الذي هو صفة ذاته لا يتبعض ، كما جاء في حديث موسى والخضر : ما نقص علمي وعلمك من علمه إلاَّ كما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، والاستثناء يدل على أن المراد بالعلم المعلومات ، وقالوا : اللهم اغفر علمك فينا ، أي معلومك ، والمعنى : لا يعلمون من الغيب الذي هو معلوم الله شيئاً إلاَّ ما شاء أن يُعلمهم ، قاله الكلبي .

وقال الزجاج : إلا بما أنبأ به الأنبياء تثبيتاً لنبوتّهم .

و : بشيء ، وبما شاء ، متعلقان : بيحيطون ، وصار تعلق حرفي جر من جنس واحد بعامل واحد لأن ذلك على طريق البدل ، نحو قولك : لا أمر بأحد إلاَّ بزيد ، والأولى أن تقدر مفعول شاء أن يحيطوا به ، لدلالة قوله : ولا يحيطون على ذلك .

{ وسع كرسيه السموات والأرض } قرأ الجمهور وسع بكسر السين ، وقرئ شاذا بسكونها ، وقرئ أيضاً شاذا وسع بسكونها وضم العين ، والسموات والأرض بالرفع مبتدأ ، وخبراً ، والكرسي : جسم عظيم يسع السموات والأرض ، فقيل : هو نفس العرش ، قاله الحسن .

وقال غيره : دون العرش وفوق السماء السابعة ، وقيل : تحت الأرض كالعرش فوق السماء ، عن السدّي وقيل : الكرسي موضع قدمي الروح الأعظم ، أو : ملك آخر عظيم القدر .

وقيل : السلطان والقدرة ، والعرب تسمي أصل كل شيء الكرسي ، وسمي الملك بالكرسي لأن الملك في حال حكمه وأمره ونهيه يجلس عليه فسمي باسم مكانه على سبيل المجاز .

قال الشاعر :

قد علم القدّوس مولى القدس***

أن أبا العباس أولى نفس

في معدن الملك القديم الكرسي***

وقيل : الكرسي العلم .

لأن موضع العالم هو الكرسي ، سميت صفة الشيء باسم مكانه على سبيل المجاز ، ومنه يقال للعلماء : كراسي ، لأنهم المعتمد عليهم ، كما يقال : أوتاد الأرض ، ومنه الكراسة ، وقال الشاعر :

تحف بهم بيض الوجوه وعصبة***

كراسي بالأحداث حين تنوب

أي : ترجع ، وقيل : الكرسي السر قال الشاعر :

مالي بأمرك كرسيّ أكاتمه***

ولا بكرسيّ علم الله مخلوق

وقيل : الكرسي : ملك من الملائكة يملأ السموات والأرض ، وقيل : قدرة الله ، وقيل : تدبير الله ، حكاهما الماوردي ، وقال : هو الأصل المعتمد عليه .

قال المغربي : من تكرس الشيء تراكب بعضه على بعض ، وأكرسته أنا ، قال العجاج :

يا صاح هل تعرف رسماً مكرسا***

قال نعم أعرفه وأكرسا

وقال آخر :

نحن الكراسي لا تعد هوازن***

أمثالنا في النائبات ولا الأشد

وقال الزمخشري : وفي قوله : { وسع كرسيه } أربعة أوجه : أحدها : أن كرسيه لم يضق عن السموات والأرض لبسطته وسعته ، وما هو إلاَّ تصوير لعظمته وتخييل فقط ، ولا كرسي ثمة ، ولا قعود ، ولا قاعد ، لقوله : { وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه } من غير تصور قبضه وطيّ ويمين ، وإنما هو تخييل لعظمة شأنه ، وتمثيل حسيّ .

ألا ترى إلى قوله : { وما قدروا الله حق قدره } ؟ انتهى ما ذكره في هذا الوجه .

واختار القفال معناه قال : المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله تعالى وكبريائه وتعزيزه ، خاطب الخلق في تعريف ذاته بما اعتادوه في ملوكهم وعظمائهم .

وقيل : كرسي لؤلؤ ، طول القائمة سبعمائة سنة ، وطول الكرسي حيث لا يعلمه العالمون .

ذكره ابن عساكر في تاريخه ، عن عليّ بن أبي طالب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله .

قال ابن عطية : والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق عظيم بين يدي العرش ، والعرش أعظم منه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما السموات السبع في الكرسي إلاَّ كدراهم سبعة ألقيت في ترس » وقال أبو ذرّ : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما الكرسيّ في العرش إلاَّ كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض » وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله .

انتهى كلامه .

{ ولا يؤوده حفظهما } قرأ الجمهور : يؤوده بالهمز ، وقرئ شاذاً بالحذف ، كما حذفت همزة أناس ، وقرئ أيضاً : يووده ، بواو مضمومة على البدل من الهمزة أي : لا يشقه ، ولا يثقل عليه ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، وغيرهم .

وقال ابان بن تغلب : لا يتعاظمه حفظهما ، وقيل : لا يشغله حفظ السموات عن حفظ الأرضين ، ولا حفظ الأرضين عن حفظ السموات .

والهاء تعود على الله تعالى ، وقيل : تعود على الكرسي ، والظاهر الأول لتكون الضمائر متناسبة لواحد ولا تختلف ، ولبعد نسبة الحفظ إلى الكرسي .

{ وهو العلي العظيم } عليّ في جلاله ، عظيم في سلطانه .

وقال ابن عباس : الذي كمل في عظمته ، وقيل : العظيم المعظّم ، كما يقال : العتيق في المعتق ، قال الأعشى :

وكأنّ الخمر العتيق من الاس***

فنط ممزوجة بماء زلال

وأنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف قبل الخلق وبعد فنائهم ، إذ لا معظم له حينئذ ، فلا يجوز هذا القول .

وقيل : والجواب أنها صفة فعل : كالخلق والرزق ، فلا يلزم ما قالوه .

وقيل : العلي الرفيع فوق خلقه ، المتعالي عن الأشباه والأنداد ، وقيل : العالي من : علا يعلو : ارتفع ، أي : العالي على خلقه بقدرته ، والعظيم ذو العظمة الذي كل شيء دونه ، فلا شيء أعظم منه .

قال الماوردي : وفي الفرق بين العلي والعالي وجهان : أحدهما : ان العالي هو الموجود في محل العلو ، والعلي هو مستحق للعلو .

الثاني : أن العالي هو الذي يجوز أن يشارك ، والعلي هو الذي لا يجوز أن يشارك ، فعلى هذا الوجه يجوز أن يوصف الله بالعليّ لا بالعالي ، وعلى الأول يجوز أن يوصف بهما ، وقيل : العلي : القاهر الغالب للأشياء ، تقول العرب : علا فلان فلاناً غلبه وقهره .

قال الشاعر :

فلما علونا واستوينا عليهم***

تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومنه { إن فرعون علا في الأرض } وقال الزمخشري : العلي الشأن العظيم الملك والقدرة . انتهى .

وقال قوم : العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه .

قال ابن عطية : وهذا قول جهلة مجسمين ، وكان الوجه أن لا يحكى .

وقال أيضاً : العلي يراد به علو القدر والمنزلة ، لا علو المكان ، لأن الله منزه عن التحيز . انتهى .

قال الزمخشري : فان قلت : كيف ترتبت الجمل في آية الكرسي من غير حرف عطف ؟

قلت : ما منها جملة إلاَّ وهي واردة على سبيل البيان لما ترتبت عليه ، والبيان متحد بالمبين ، فلو توسط بينهما عطف لكان كما تقول العرب : بين العصا ومحائها ، فالأولى : بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساه عنه ؛ والثانية : لكونه مالكاً لما يدبره .

والثالثة : لكبرياء شأنه ، والرابعة : لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى .

والخامسة : لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها ، أو : بجلاله وعظيم قدره .

انتهى كلامه .

وتضمنت هذه الآية الكريمة صفات الذات ، منها : الوحدانية ، بقوله : لا إله إلا هو ، والحياة ، الدالة على البقاء بقوله : الحي ، و : القدرة ، بقوله : القيوم ، واستطرد من القيومية لانتفاء ما يؤول إلى العجز ، وهو ما يعرض للقادر غيره تعالى من الغفلة والآفات ، فينتفي عنه وصفه بالقدرة إذ ذاك ، واستطرد من القيومية الدالة على القدرة إلى ملكه وقهره وغلبته لما في السموات والأرض ، إذ الملك آثار القدرة ، إذ للمالك التصرف في المملوك .

و : الإرادة ، بقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } فهذا دال على الاختيار والإرادة ، و : العلم بقوله : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ثم سلب عنهم العلم ، إلاَّ أن أعلمهم هو تعالى ، فلما تكملت صفات الذات العلا ، واندرج معها شيء من صفات الفعل وانتفى عنه تعالى أن يكون محلاً للحوادث ، ختم ذلك بكونه : العلي القدر العظيم الشأن .

/خ257