اعلم أنَّ عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أن يذكر علم التَّوحيد ، وعلم الأحكام ، وعلم القصص ، فإنَّ الإنسان إذا بقي في النَّوع الواحد ، كان يوجب بعض الملال فإذا انتقل من نوع إلى نوع آخر ، كان كأنَّه انشرح صدره ، وفرح قلبه ، فكأنه سافر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر ، وانتقل من بستان إلى بستان آخر ، أو من تناول طعام لذيذ إلى تناول طعام آخر ، ولا شكّ أنه يكون ألذَّ ، وأشهى ، فلمَّا تقدَّم من علم الأحكام وعلم القصص ما رآه مصلحة ، ذكر الآن ما يتعلَّق بالتَّوحيد .
قوله تعالى : { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ } : مبتدأٌ وخبرٌ وهو مرفوعٌ محمولٌ على المعنى ، أي : ما إله إلاَّ هو ، ويجوز في غير القرآن لا إله إلاَّ إيَّاه ، نصب على الاستثناء .
وقيل : " اللهُ " مبتدأٌ ، و " لاَ إِلَهَ " مبتدأ ثان ، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود .
و " الْحَيُّ " فيه سبعة أوجه :
أحدها : أن يكون خبراً ثانياً للجلالة .
الثاني : أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف ، أي : هو الحيُّ .
الثالث : بدل من موضع : " لا إِله إِلاَّ الله هو " فيكون في المعنى خبراً للجلالة ، وهذا في المعنى كالأول ، إلا أنَّه هنا لم يخبر عن الجلالة إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلاف الأول .
الرابع : أن يكون بدلاً من " هُوَ " وحده ، وهذا يبقى من باب إقامة الظاهر مقام المضمر ، لأنَّ جملة النَّفي خبرٌ عن الجلالة ، وإذا جعلته بدلاً حلَّ محلَّ الأول ، فيصير التقدير : الله لا إله إلا الله .
الخامس : أن يكون مبتدأٌ وخبره { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } .
السادس : أنه بدلٌ من " اللهِ " .
السابع : أنه صفة لله ، وهو أجودها ، لأنه قرئ{[4203]} بنصب " الحيَّ القَيُّومَ " على القطع ، والقطع إنَّما هو في باب النَّعت ، ولا يقال في هذا الوجه الفصل بين الصِّفة والموصوف بالخبر ، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [ تقول : زيدٌ قائمٌ العاقلُ ] .
أحدهما : أن أصله حييٌ بياءين من حيي يحيا فهو حيٌّ ، وإليه ذهب أبو البقاء{[4204]} .
والثاني : أنَّ أصله حيوٌ فلامه واو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرِّفة ، وهذا لا حاجة إليه ، وكأنَّ الذي أحوج هذا القائل إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كون العين ، واللام من واد واحدٍ هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه ، ولذلك كتبوا " الحَيَاةَ " بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصل ، ويؤيده " الحَيَوَانُ " لظهور الواو فيه . ولناصر القول الأول أن يقول : قلبت الياء الثانية واواً تخفيفاً ؛ لأنَّه لمَّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثقل المثلان .
والثاني : أنَّه فيعل فخُفِّف ، كما قالوا ميْت ، وهيْن ، والأصل : هيّن وميّت .
قال السُّدِّيُّ المراد ب " الحَيّ " الباقي ؛ قال لبيدٌ : [ الطويل ]
فَإِمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً *** فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلاَبٍ وَجَعْفَرِ{[4205]}
وقال قتادة : والحيُّ الذي لا يموتُ{[4206]} والحيُّ اسمٌ من أسمائه الحسنى ، ويقال إنه اسم الله الأعظم .
وقيل إنَّ عيسى ابن مريم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ{[4207]} " .
ويقال : إنَّ آصف بن برخيا ، لمَّا أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - دعا بقوله : " يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ " {[4208]} .
ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم " أيا هيا شراهيا " يعني " يا حي يا قيوم " ، ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يا حي يا قيوم وعن علي - رضي الله عنه - لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو ساجدٌ يقول " يَا حَيُّ يَا قيُّومُ " ، فترددت مرات ، وهو على حاله لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له{[4209]} .
وهذا يدلُّ على عظمة هذا الاسم .
والقيُّوم : فيعولٌ من : قام بالأمر يقوم به ، إذا دبَّره ؛ قال أميَّة : [ الرجز ]
لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ والنُّجُومُ *** وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ
قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ *** وَالحَشْرُ وَالجَنَّةُ والنَّعِيمُ
إلاَّ لأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ{[4210]} *** . . .
وأصله " قَيْوُومٌ " ، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصار قيُّوماً .
وقرأ ابن مسعود{[4211]} والأعمش ويروى عن عمر : " الحَيُّ القَيَّام " ، وقرأ علقمة{[4212]} : " القَيِّم " وهذا كما يقولون : ديُّور ، وديار ، وديِّر . ولا يجوز أن يكون وزنه فعُّولاً ك " سَفُّود " إذ لو كان كذلك ؛ لكان لفظه قوُّوماً ؛ لأنَّ العين المضاعفة أبداً من جنس الأصليَّة كسُبُّوح ، وقُدُّوس ، وضرَّاب ، وقتَّال ، فالزَّائد من جنس العين ، فلمَّا جاء بالياء دون الواو ؛ علمنا أنَّ أصله فيعول ، لا فعُّول ، وعدَّ بعضهم فيعولاً من صيغ المبالغة كضروبٍ ، وضرَّاب .
قال بعضهم : هذه اللَّفظة عبريَّة ؛ لأنَّهم يقولون " حياً قياماً " ، وليس الأمر كذلك ؛ لأنا قد بيَّنا أن له وجهاً صحيحاً في اللُّغة .
اعلم أنَّ تفسير الجلالة قد تقدَّم في أوَّل الكتاب ، والإله ؛ قال بعضهم : هو المعبود{[4213]} ، وهو خطأ من وجهين :
الأول : أنه تبارك وتعالى كان إلهاً في الأزل ، وما كان معبوداً .
الثاني : أنَّه تعالى أثبت معبوداً سواه في قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ } [ الأنبياء :98 ] .
قال ابن الخطيب رحمه الله : وإنما " الإله " هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقاً للعبادة ، وأما " الحيُّ " قال المتكلِّمون : هو كلُّ ذاتٍ يصحُّ أن يعلم ، ويقدر ، واختلفوا في أنَّ هذا المفهوم صفةٌ وجوديَّةٌ أم لا ، فقال بعضهم : إنَّه عبارةٌ عن كون الشَّيء بحيث لا يمتنع أنَّه يعلمُ ويقدرُ ، وعدم الامتناع صفةٌ موجودة ، أم لا ؟
قال المحقِّقون : لما كانت الحياة عبارةٌ عن عدم الامتناع ، وقد ثبت أنَّ الامتناع أمر عدمي ، إذ لو كان وصفاً موجوداً ؛ لكان الموصوف به موجوداً ، فيكون ممتنع الوجود موجوداً ، وهو محالٌ ، وإذا ثبت أنَّ الامتناع عدمٌ وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع ، وثبت أنَّ عدم العدم : وجودٌ ، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة ، وهو المطلوب .
قال ابن الخطيب{[4214]} - رحمه الله تعالى - : ولقائل أن يقول لمّا كان الحيّ أنَّه الذي يصحّ أن يعلم ، ويقدر ، وهذا القدر حاصلٌ لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات .
والذي عندي في هذا الباب : أنَّ الحيَّ عبارةٌ عن الكامل في نفسه ، ولما لم يكن كذلك مقيداً بأنه كاملٌ في هذا دون ذاك دلّ على أنه كاملٌ على الإطلاق .
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّه كان يقول : أعظم أسماء الله تعالى " الحيّ القيوم " .
روي أنَّه -عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يزيد على ذكره في السجود يَومَ بَدْرٍ .
والقيوم ؛ قال مجاهدٌ : القائم على كلِّ شيءٍ{[4215]} وتأويله قائمٌ بتدبير الخلائق في إيجادهم وأرزاقهم .
وقال الكلبيُّ : القائم على كلّ نفس بما كسبت{[4216]} .
وقال الضحاك : القيُّوم الدَّائم الوجود{[4217]} الذي يمتنع عليه التغيير .
وقيل : القيُّوم الذي لا ينام ، وهذا القول بعيد ؛ لأنه يصير قوله تعالى { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } تكراراً .
وقال أبو عبيدة{[4218]} : القيُّوم الذي لا يزول .
قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } في هذه الجملة خمسة أوجه :
أحدها : أنها في محلِّ رفع خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحد أوجه رفع الحيّ .
الثاني : أنَّها خبرٌ عن الله تعالى عند من يجيز تعدُّد الخبر .
الثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضَّمير المستكنِّ في " القَيُّومِ " كأنَّه قيل : يقوم بأمر الخلق غير غافل ، قاله أبو البقاء{[4219]} رحمه الله تعالى .
الرابع : أنها استئناف إخبارٍ ، أخبر - تبارك وتعالى - عن ذاته القديمة بذلك .
الخامس : أنها تأكيد للقيُّوم ؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيُّوماً ، قاله الزَّمخشريُّ ، فعلى قوله إنَّها تأكيدٌ يجوز أن يكون محلُّها النصب على الحال المؤكَّدة ، ويجوز أن تكون استئنافاً ، وفيها معنى التأكيد ، فتصير الأوجه أربعةً .
والسِّنة : النُّعاس ، وهو ما يتقدَّم النَّوم من الفتور ؛ قال عديّ بن الرقاع : [ الكامل ]
وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ *** في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ{[4220]}
وهي مصدر وسن يَسِنُ ؛ مثل : وَعَد ، يَعِد ، وقد تقدَّم علة الحذف عند قوله
{ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ } [ البقرة :247 ] .
فإن قيل : إذا كانت السِّنة عبارةً عن مقدِّمة النَّوم ، فقوله تعالى : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } يدلُّ على أنَّه لا يأخذه نومٌ بطريق الأولى ، فيكون ذكر النَّوم تكراراً .
فالجواب : تقدير الآية : لا تأخذه سنة ، فضلاً عن أن يأخذه نومٌ .
وقال ابن زيد : " الوَسْنَانُ : الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّومِ وهو لا يَعْقِلُ ؛ حَتَّى إنَّه رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ على أهْلِهِ " ، وهذا القول ليس بشيء ، لأنَّه لاَ يفهم من لغة العرب ذلك ، وقال المفضَّل : " السِّنَةُ : ثِقَلٌ في الرَّأْسِ ، والنُّعَاسُ في العَيْنَيْنِ ، والنَّوْمُ في القَلْبِ " .
وكُرّرت " لاَ " في قوله تعالى : " وَلاَ نَوْمٌ " تأكيداً ، وفائدتها انتفاء كلِّ واحدٍ منهما ، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع ، ولا يلزم منه نفيُ كلِّ واحدٍ منهما على حدته ، ولذلك تقول : " مَا قَامَ زيدٌ ، وعمرو ، بل أحدهما " ، [ ولو قلت : " مَا قَامَ زيدٌ وَلاَ عمْرو ، بل أحدهما " ] لم يصحَّ .
والوسنان : بين النَّائم ، واليقظان ، والنَّوم : هو الثَّقيل المزيل للقوَّة والعقل .
وقيل السِّنة : أوَّل النَّوم ، وهو النُّعاس ، والنَّوم : غشيةُ ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء .
قيل : إنَّ النَّوم عبارةٌ عن ريح تخرج من أعصاب الدِّماغ فإذا وصلت العينين ، حصل النُّعاس ، وإذا وصلت إلى القلب ، حصل النوم .
والمعنى : لا يغفل عن شيءٍ دقيقٍ ، ولا جليلٍ ، فعبَّر بذلك عن الغفلة ، لأنه سببها ، فأطلق اسم السَّبب على مسببه .
نفى الله - تعالى - عن نفسه النَّوم ، لأنَّه آفةٌ وهو منزَّهٌ عن الآفات ؛ ولأنَّهُ تغيُّرٌ ، ولا يجوز عليه التَّغيُّر .
عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات ، فقال : " إنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ بَالْقِسْطِ ، ويَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجابُهُ النُّورُ ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ{[4221]} " .
يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكى عن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى ! فأرسل إليه ملكاً فأرَّقه ثلاثاً ، ثمَّ أعطاه قارورتين في كلِّ يدٍ واحدة ، وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرَّز بجهده ألا ينام ، فنام في آخر الأمر ، فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان فضرب الله - تعالى - ذلك مثلاً له في بيان أنَّه لو كان ينام ؛ لم يقدر على حفظ السَّموات والأرض{[4222]} .
واعلم أنَّ مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فإن كلَّ من جوَّز النَّوم على الله - تعالى - أو كان شاكاً في جوازه كفر ، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى - عليه السَّلام - فإن صحَّت هذه الرواية فالواجب نسبة هذا السُّؤال إلى جهال قومه .
قوله : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } هي كالتي قبلها إلاَّ في كونها تأكيداً ، و " ما " للشُّمول ، واللاّم في " لَهُ " للملك ، وكرَّر " مَا " تأكيداً ، وذكرها هنا المظروف دون الظرف ؛ لأنَّ المقصود نفي الإلهيَّة عن غير الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلاّ هو ، لأنَّ ما عبد من دونه في السَّماء كالشَّمس ، والقمر ، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم ، فكلُّهم ملكه تعالى تحت قهره ، واستغنى عن ذكر أنَّ السَّموات ، والأرض ملكٌ له بذكره قبل ذلك أنه خالق السَّموات والأرض .
لما كان المراد من هذه الإضافة الخلق ، والملك ، احتجوا بهذه الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى .
قالوا : لأنَّ قوله تعالى { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } يتناول كل ما في السموات والأرض ، وأفعال العباد من جملة ما في السَّموات والأرض ، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق .
فإن قيل : لم قال { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } ولم يقل من في السموات .
فالجواب : لما كان المراد إضافة كلِّ ما سواه إليه بالمخلوقيّة ، وكان الغالب عليه ما لا يعقل ، أجرى الغالب مجرى الكلِّ ، فعبر عنه بلفظة " مَا " ، وأيضاً فهذه الأشياء إنَّما أسندت إليه من حيث إنَّها مخلوقة ، وهي غير عاقلةٍ ، فعبر عنه بلفظ " مَا " للتنبيه على أنَّ المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة .
قوله : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ } كقوله : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ } [ البقرة :245 ] .
قال القرطبيُّ{[4223]} : " مَنْ " رفع بالابتداء ، و " ذَا " خبره ، و " الَّذِي " نعتٌ ل " ذَا " ، أو بدل ولا يجوز أن تكون " ذا " زائدة كما زيدت مع " مَا " ؛ لأنَّ " ما " مبهمة ، فزيدت " ذا " معها لشبهها بها .
و " مَنْ " ، وإن كان لفظها استفهاماً فمعناه النَّفي ، ولذلك دخلت " إلاَّ " في قوله : " إِلاَّ بِإِذْنِهِ " .
أحدهما : أنَّه متعلِّق بيشفع .
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف لكونه [ حالاً ] من الضَّمير في " يَشْفَعُ " ، أي : يشفع مستقراً عنده ، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريبٌ منه فشفاعة غيره أبعد وضعَّف بعضهم الحاليَّة بأنَّ المعنى : يشفع إليه .
و " إِلاَّ بِإِذْنِهِ " متعلِّقٌ بمحذوف ، لأنَّه حال من فاعل ، " يَشْفَع " فهو استثناءٌ مفرَّغ ، والباء للمصاحبة ، والمعنى : لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له منه ، ويجوز أن يكون مفعولاً به ، أي : بإذنه يشفعون كما تقول : " ضَرَب بِسَيْفِهِ " ، أي : هو آلةٌ للضَّرب ، والباء للتعدية .
و " يَعْلَمُ " هذه الجملة يجوز أن تكون خبراً لأحد المبتدأين المتقدمين ، أو استئنافاً ، أو حالاً . والضَّمير فِي " أيْدِيهم " و " خَلْفَهُم " يعود على " مَا " في قوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } إلا أنَّه غلَّب من يعقل على غيره . وقيل : يعود على العقلاء ممَّن تضمَّنه لفظ " ما " دون غيرهم . وقيل : يعود على ما دلَّ عليه " مَنْ ذَا " من الملائكة والأنبياء . وقيل : من الملائكة خاصّةً .
قال مجاهدٌ وعطاءٌ والسديُّ : " مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ " ما كان قبلهم من أمور الدُّنيا " وَمَا خَلْفَهُم " ما يكون خلفهم من أمور الآخرة بعدهم{[4224]} .
وقال الضَّحَّاك والكلبي : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } يعني الآخرة ؛ لأنَّهم يقدمون عليها . " وَمَا خَلفَهُمْ " يعني الدُّنيا ؛ لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم{[4225]} .
وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاس : " مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم " من السماء إلى الأرض " وَمَا خَلْفَهُم " يريد ما في السَّموات{[4226]} .
وقال ابن جريج : " مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ " : مضيّ آجالهم " وما خَلْفَهُم " : ما يكون بعدهم{[4227]} .
وقال مقاتل : { مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ما كان قبل الملائكة . " وَمَا خَلْفَهُم " أي : ما كان بعد{[4228]} خلقهم .
وقيل : " مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ " ما قدموا من خير وشر " وَمَا خَلْفَهُمْ " ما هم فاعلوه .
والمقصود من هذا الكلام : أنَّه عالم بأحوال الشَّافع ، والمشفوع له ، فيما يتعلَّق باستحقاق الثَّواب والعقاب ؛ لأنَّه عالمٌ بجميع المعلومات{[4229]} لا يخفى عليه شيءٌ والشُّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنَّ لهم من الطَّاعة{[4230]} ما يستحقُّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ، ولا يعلمون أنَّ الله هل{[4231]} أذن لهم في تلك الشَّفاعة ، أم لا .
قوله : " بِشَيْءٍ " متعلِّقٌ ب " يحيطون " . والعلم هنا بمعنى المعلوم ؛ لأنَّ علمه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاته المقدَّسة لا يتبعَّض ، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم : " اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا " وحديث موسى ، والخَضِر - عليهما الصَّلاة والسَّلام - " مَا نَقَص علمي وعلمُك من علمه إلاَّ كَمَا نقص العُصْفُورُ من هذا البَحْر{[4232]} " ولكون العلم بمعنى المعلوم ، صحَّ دخول التَّبعيض ، والاستثناء عليه . و " مِنْ عِلْمِهِ " يجوز أن يتعلَّق ب " يحيطون " ، وأن يتعلَّق بمحذوف لأنه صفة لشيء ، فيكون في محلِّ جر . و " بمَا شَاءَ " متعلِّقٌ ب " يحيطون " أيضاً ، ولا يضرُّ تعلُّق هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأول ، بإعادة العامل بطرق الاستثناء ، كقولك : " مَا مَرَرْتُ بأحدٍ إلاَّ بِزَيْدٍ " ، ومفعول " شَاءَ " محذوفٌ تقديره : إلا بما شَاءَ أن يحيطوا به ، وإنما قدَّرته كذلك لدلالة قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } .
هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة ، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النَّبيين ، والصِّديقين والشهداء والصالحين .
أحدهما : أنَّهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا : { لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا } [ البقرة :32 ] .
الثاني : أنَّهم لا يعلمون الغيب إلاَّ بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى { عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ } [ الجن :26-27 ] .
قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } : الجمهور على " وَسِعَ " بفتح الواو وكسر السِّين وفتح العين فعلاً ماضياً .
و " كُرْسِيُّه " بالرَّفع على أنَّه فاعله ، وقرئ " وَسْعَ " سكَّن عين الفعل تخفيفاً نحو : عَلْمَ في عَلِمَ . وقرئ أيضاً : " وَسْعُ كُرْسِيِّه " بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء ، و " كُرْسِيِّه " خفضٌ بالإضافة " السَّمَوَاتُ " رفعاً على أنه خبر للمبتدأ .
واعلم أنه يقال : وَسِعَ فلاناً الشَّيء يَسعهُ سَعَةً إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به ، ولا يسعك هذا أي : لا تطيقه ولا تحتمله ، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم : " لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي " أي : لا يحتمل غير ذلك .
والكُرْسِيُّ : الياء فيه لغير النَّسب ، واشتقاقه من الكِرْسِ ، وهو الجمع ؛ ومنه الكُرَّاسة للصَّحائف الجامعة للعلم ؛ ومنه قول العجَّاج : [ الرجز ]
يَا صَاحِ ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا ؟ *** قَالَ : نَعَمْ ، أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا{[4233]}
وقيل : أصله من تراكب الشَّيء بعضه على بعض ، ومنه الكرس أبوال الدَّوابِّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض . [ وأكرست الدَّار : إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها ، وتلبَّد بعضها فوق بعض ]{[4234]} ، وتكارس الشَّيء : إذا تركب ومنه الكرَّاسة ، لتركب بعض الأوراق على بعضٍ . و " الكُرْسِيُّ " هو هذا الشَّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعضٍ .
وجمعه كراسيّ كبُخْتِيّ وبَخَاتِيّ ، وفيه لغتان : أشهرهما ضمُّ كافه ، والثانية كسرها ، وقد يعبَّر به عن الملك ؛ لجلوسه عليه ، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ ؛ ومنه : [ الرجز ]
قَدْ عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ *** أَنَّ أَبَا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ
في مَعْدِنِ المَلْكِ القَدِيمِ الكُرْسِي{[4235]} *** . . .
وعن العلم ؛ تسميةً للصفة باسم مكان صاحبها ؛ ومنه قيل للعلماء : " الكَرَاسِيّ " ؛ قال القائل : [ الطويل ]
يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ *** كَرَاسِيُّ بِالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ{[4236]}
وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور ، ونوازلها ؛ ويعبَّر به عن السِّرِّ ، قال : [ البسيط ]
مَا لِي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ *** وَلاَ بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ الله - مَخْلُوقِ{[4237]}
وقيل : الكرسيُّ لكلِّ شيء : أصله .
واختلفوا فيه على أربعة أقوال :
أحدها : أنَّه جسم عظيم يسع السَّموات ، والأرض قال الحسن : هو العرش نفسه{[4238]} .
وقال أبو هريرة : الكرسيُّ : موضوعٌ أمام العرش{[4239]} ومعنى قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ } أي : سعته مثل سعة السَّموات والأرض .
وقال السُّدِّيُّ : إنَّه دون العرش ، وفوق السَّماء السَّابعة{[4240]} ، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسيّ كحلقة في فلاةٍ{[4241]} ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاةٍ .
وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسيُّ : موضع القدمين{[4242]} فمن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع القدمين لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح .
وثانيها : أنَّ " الكرسي " هو السُّلطان ، والقدرة ، والملك .
ثالثها : هو العلم ، لأنَّ العلم هو الأمر المعتمد عليه " والكُرْسِيُّ " هو الشَّيء الذي يعتمد عليه ، وقد تقدَّم هذا .
ورابعها : ما اختاره القفَّال{[4243]} وهو : أنَّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ؛ لأنَّه خاطب الخلق في تعريف ذاته ، وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم ، وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتاً له يطوف النَّاس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر النَّاس بزيارته ، كما يزورون بيوت ملوكهم{[4244]} .
وذكر في الحجر الأسود : " أنَّهُ يمين اللهِ في أَرْضِهِ{[4245]} " وجعله موضوعاً للتقبيل كما يقبل الناس أيضاً أيدي ملوكهم ، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشُّهداء ، ووضع الميزان ، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه العرش في قوله : { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } [ طه :5 ] ووصف العرش بقوله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ }
[ هود :7 ] ثم قال : { وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ } [ الزمر :75 ] ثم قال : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } [ الحاقة :17 ] وقال : { الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ } [ غافر :7 ] ، وكذلك إثبات الكرسيّ .
وقال ابن الخطيب{[4246]} - رحمه الله - : وهذا جوابٌ مبيّن إلاَّ أنَّ المعتمد هو الأوَّل ، وأنَّ ترك الظَّاهر بغير دليل لا يجوز .
قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } يقال : آده كذا ، أي : أثقله ، ولحقه منه مشقَّةٌ ؛ قال القائل : [ الطويل ]
أَلاَ مَا لِسَلْمَى اليَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا *** وَضَنَّتْ وَمَا كَانَ النَّوَالُ يُؤُودُها{[4247]}
أي : يثقلها ، ومنه الموءودة للبنت تدفن حيّة ، لأنَّهم يثقلونها بالتُّراب . وقرئ{[4248]} : " يَوْدُهُ " بحذف الهمزة ، كما تحذف همزة " أُنَاسٍ " ، وقرئ " يَوُودُهُ " بإبدال الهمزة واواً .
و " حِفْظ " : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله ، أي : لا يَئُودُهُ أن يحفظهما .
و " العَلِيُّ " أصله : " عَلْيِوٌ " ، فأُدْغِمَ ؛ نحو : مَيِّتٍ ؛ لأنَّه من علا يعلو ؛ قال القائل في ذلك البيت : [ الطويل ]
فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ *** تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ{[4249]}
والمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن التحيز والعلي والعالي القاهر الغالب للأشياء تقول العرب : علا فلان فلاناً أي غلبه وقهره ؛ قال الشاعر : [ الطويل ]
- فَلَمَّا عَلَوْنَا . . . *** . . . {[4250]}
البيت المتقدِّم ، وقال تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأَرْضِ } [ القصص :4 ] .
قال ابن الخطيب{[4251]} : لو كان علوُّه بالمكان لكان متناهياً ؛ فإنَّ الجزء المفروض فوقه ، أعلى منه ، فلا يكون عليّاً مطلقاً ، وإن كان غير متناه ، وقد دلَّت البراهين اليقينيَّة على استحالة بعدٍ غير متناهٍ .
وأيضاً فلو فرضنا في ذلك نقطاً{[4252]} غير متناهية ، فإن لم يحصل فوق تلك النّقط نقطة{[4253]} ، أخرى ، وكانت تلك النُّقطة طرفاً{[4254]} ، لذلك البعد ، فيكون متناهياً ، وإن لم يوجد في ذلك البعد سفلاً فلا يكون فيها ما هو فوق على الإطلاق ، وذلك ينفي حصول العلوّ المطلق ، ولأنَّ العالم كرة ، فكل علوّ بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض هو سفل بالنسبة للوجه الثاني ، فينقلب العلوُّ سفلاً ، ولأن لو كان علُّوه بالمكان ، لكان حصول العلوّ للمكان بالذَّات ، والله تعالى بالعرض{[4255]} ، وما بالذات أشرف منها بالعرض ، فيكون علوُّ المكان أشرف من علوِّه سبحانه ، وذلك باطلٌ .
و " الْعَظِيمُ " تقدَّم معناه ، وقيل : هو هنا بمعنى المعظَّم ؛ كما قالوا : " عَتِيقٌ " بمعنى : مُعَتَّق ؛ قال القائل : [ الخفيف ]
فَكَأَنَّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإِسْ *** فَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلاَلِ{[4256]}
قيل : وَأُنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف . وقيل في الجواب عنه : إنَّه صفة فعلٍ ، كالخلق ، والرِّزق ، والأوَّل أصحُّ .
قال الزَّمخشريُّ : " فإنْ قلت : كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الجُملُ في آية الكرسيّ من غير حَرْفِ عطفٍ ؟ قلت : ما منها جملةٌ إلاَّ وهي واردةٌ على البيان لما ترتَّبت عليه ، والبيان متَّحدٌ بالمبيَّن ، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب : " بَيْنَ العَصَا وَلِحَائِهَا " فالأولى بيانٌ لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه ، والثانية لكونه مالكاً لما يدبِّره ، والثالثة لكبرياء شأنه ، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم ، المستوجب للشَّفاعة وغير المرتضى ، والخامسة لسعة علمه ، وتعلُّقه بالمعلومات كلِّها ، أو لجلاله وعظم قدرته " انتهى . يعني غالب الجمل وإلاَّ فبعض الجمل فيها معطوفة وهي قوله : " وَلاَ يُحِيطُونَ " ، وقوله : " وَلاَ يَؤُودُهُ " وقوله { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } .
في فضل هذه الآية الكريمة روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما قُرِئَت هذه الآية في دَارٍ إلاَّ اهْتَجَرَهَا الشَّيْطَانُ ثَلاَثِينَ يَوْماً ، ولاَ يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلاَ سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً{[4257]} " .
وعن عليٍّ - رضي الله عنه - قال : سمعت نبيَّكم على أعواد المنبر وهو يقول : " مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ ، لم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّة إِلاَّ المَوْتُ ، ولا يواظب عليها إلاَّ صدّيق ، أو عابدٌ ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه ؛ أمَّنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره ، والأبيات التي حوله{[4258]} " .
وتذاكر الصَّحابة أفضل ما في القرآن ، فقال لهم عليٌّ : أين أنتم من آية الكرسيّ قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يَا عَلِيُّ سَيِّدُ البَشَرِ آدَمُ ، وسَيِّدُ العَرَبِ مُحَمَّدٌ ، وَلاَ فَخْرَ ، وَسَيِّدُ الكَلاَمِ القُرْآنُ ، وسَيِّد القُرْآنِ البَقَرَةُ وسَيِّدُ البَقَرَةِ آيةُ الكُرْسِيّ{[4259]} " وعن أبيّ بن كعبٍ قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يَا أبا المنذر ؛ أيُّ آيةٍ في كِتَابِ اللهِ أعْظَم " ؟ قلت : اللهُ لا إله إلاَّ هو الحيُّ القَيُّومُ ، قال : فضرب صدري ثم قال : " ليَهْنِكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ " ثم قال : " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ لهذه الآية لِسَاناً وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ سَاقِ العَرْشِ{[4260]} " .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زَكَاةِ رمضان فأتاني آت ، فجعل يحثو من الطَّعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : [ إنّي محتاج ، ولي عيالٌ ، ولي حاجة شديدةٌ قال : فخلّيت عنه ، فأصبحت فقال النبي صلى الله عليه وسلم ]{[4261]} " يا أبا هريرة مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ " ؛ قلت يا رسول الله ؛ شَكَا حَاجَةً شديدة ، وعيالاً ؛ فرحمته ، فخلَّيت سبيله . قال : " أَمَا إِنَّهُ قَدُ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ " فعرفت أنه سيعود ، بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فرصدته ، فجاء يحثو من الطَّعام ، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : دعني فإنِّي محتاج ولي عيال ولا أعود فرحمته فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة " قلت : يا رسول الله شكا حاجةً ، وعيالاً فرحمته وخلَّيت سبيله قال : " أمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ ، وسيعود " فعرفت أنه سيعود ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه سيعود فرصدته الثالثة : فجاء يحثو من الطَّعام ؛ فأخذته ، فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم ألاَّ تعود ، ثم تعود قال : دعني أُعلّمك كلمات ، ينفعك الله بها ، قلت : ما هي قال : إذا أَوَيْتَ إلى فراشك ، فاقرأ آية الكرسيّ { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } حتى تختم الآية ، فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطانٌ ، حتّى تصبح ، فخلَّيت سبيله فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : مَا فَعَلْتَ بِأَسِيركَ البَارِحَةَ ؟ قلت : يا رسول الله - عليك الصَّلاة والسَّلام - زَعَمَ أنَّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها ، فخلّيت سبيله قال : ما هي قلت : قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أولها ، حتى تتمّ الآية ، وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان ، حتى تصبح ، وكانوا أحرص شيءٍ على الخير ، فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم : " أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ ، وهو كَذُوبٌ ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِب منذ ثَلاَث لَيَالٍ يا أبا هُرَيْرَةَ ؟ " قلت : لا ، قال : " ذَلِكَ شَيْطَانٌ{[4262]} " .