/ { اللّه لا إله إلا هو الحيّ القيّوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيّه السماوات والأرض ولا يئوده حفظهما وهو العليّ العظيم 255 } .
{ الله لا إله إلا هو الحيّ } أي الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء { القيّوم } الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظه ، وقرئ القيام والقيم .
{ لا تأخذه سنة ولا نوم } تأكيد للقيوم . أي لا يغفل عن تدبير أمر الخلق تعالى وتقدس . والسِّنَة ( كعِدَة ) والوَسَن ( محركة وبهاء ) والوسْنة شدة النوم أو أوله ، أو النعاس ، كذا في ( القاموس ) .
قال المهايميّ : السنة فتور يتقدم النوم . والنوم حال تعرض للحيوان من استرخاء دماغه من رطوبات أبخرة متصاعدة تمنع الحواس الظاهرة عن الإحساس . فهما ينقصان للحياة منافيان للقيومية ، لأنهما من التغيرات المنافية لوجوب الوجود الذي للقيوم . ونفي النوم أوّلا التزاما ثم تصريحا ، ليدل كمال نفيه على ثبوت كمال ما ينافيه . ومن كمال قيوميته اختصاصه بملك العلويات والسفليات المشار إليه بقوله : { له ما في السماوات } من الملائكة والشمس والقمر والكواكب { وما في الأرض } من العوالم المشاهدات . وهذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه . كقوله : { إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا * لقد أحصاهم وعدّهم عدّا } {[1393]} . { من ذا } من الأنبياء والملائكة ، فضلا عما ادعى الكفار شفاعته من الأصنام { الذي يشفع عنده } فضلا عن أن يقاومه أو يناصبه / { إلا بإذنه } أي بتمكينه تحقيقا للعبودية ، كما قال تعالى : { وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى } {[1394]} . وكقوله : { ولا يشفعون إلا لمن ارتضى } {[1395]} . وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عز وجل ، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة . كما في حديث الشفاعة{[1396]} : ( آتي تحت العرش فأخر ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني . ثم قال : ارفع رأسك وقل يسمع واشفع تشفع . قال : فيحدّ لي حدّا فأدخلهم الجنة ) .
قال أبو العباس بن تيمية : نفى الله عما سواه كل ما يتعلق به المشركون . فنفى أن يكون لغيره ملك أو قسط منه أو يكون عونا لله ولم يبق إلا الشفاعة . فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب . فهذه الشفاعة التي يظنها المشركون هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن . وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده . لا يبدأ بالشفاعة أولا . ثم يقال له : ( ارفع رأسك وقُل يسمع وسل تعط واشفع تشفع ) . وقال{[1397]} له أبو هريرة : ( من أسعد الناس بشفاعتك ؟ قال : من قال : / لا إله إلا الله خالصا من قلبه ) . فتلك الشفاعة لأهل الإخلاص بإذن الله . ولا تكون لمن أشرك بالله . وحقيقته أن الله سبحانه هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص فيغفر لهم بواسطة دعاء من أذن له أن يشفع ، ليكرمه وينال المقام المحمود . فالشفاعة التي نفاها القرآن ما كان فيها شرك . ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع . وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص . { يعلم ما بين أيديهم } أي ما أتاهم علمه من أمر أنفسهم وغيرهم . لأن ما بين يدي المرء يحيط به حسُّه . وما علمه أيضا . فكأنه بين يدي قلبه يحيط بع علمه { وما خلفهم } وهو ما لم ينله علمهم . لأن الخلف هو ما لا يناله الحس . فأنبأ أن علمه من وراء علمهم محيط بعلمهم فيما علموا وما لم يعلموا . أفاده الحرّاليّ . فهذه الجملة كقوله تعالى : { عالم الغيب والشهادة } {[1398]} { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } أي لا يعلمون شيئا من معلوماته إلا بما أراد أن يعلمهم به منها على ألسنة الرسل . كما قال تعالى : { فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول } {[1399]} . أي ليكون ما يطلعه عليه من علم غيبه دليلا على نبوته . { وسع كرسيّه السماوات والأرض } روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ( أن المعنيّ بالكرسيّ العلم ) . وذلك لدلالة قوله تعالى : { ولا يؤوده حفظهما } أي لا يؤوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السماوات والأرض . وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم : { ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما } {[1400]} فأخبر أن علمه وسع كل شيء ، فكذلك / قوله { وسع كرسيّه السماوات والأرض } قال ابن جرير : وقول ابن عباس هذا يدل على صحة ظاهر القرآن لما ذكر . ولأن أصل الكرسيّ العلم . ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب : كراسة . ومنه قول الراجز في صفة قانص
يعني علم ، ومنه يقال للعلماء : الكراسيّ . لأنهم المعتمد عليهم . كما يقال : أوتاد الأرض . يعني أنهم الذين تصلح بهم الأرض . ومنه قول الشاعر :
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة *** كراسيّ بالأحداث حين تنوب
يعني بذلك علمه بحوادث الأمور ونوازلها . وروى ابن جرير أيضا عن الحسن أن الكرسيّ في الآية هو العرش . اه . وأيده بعضهم بأن لفظ عرش المملكة وكرسيّها مترادفان . ولذلك قال تعالى على لسان سليمان : { أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } {[1401]} فالعرش والكرسيّ هما شيء واحد وإنما سماه هنا . كرسيًّا ، إعلاما باسم له آخر{[1402]} . { ولا / يؤوده } أي لا يثقله ولا يشق عليه . يقال : آده الأمر أوداً وأُوْوداً ( كقعود ) بلغ منه المجهود والمشقة { حفظهما } أي السماوات والأرض فلا يفتقر إلى شريك ولا ولد . وكيف يشق عليه { وهو العلي } قال ابن جرير . قال بعضهم : يعني بذلك علوّه عن النظير والأشباه . وقال آخرون : معناه العليّ على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه ، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه . وخلقه دونه . كما وصف به نفسه أنه على العرش ، فهو عال بذلك عليهم . { العظيم } أي أعظم كل شيء بالجلال والكبرياء والقهر والقدرة والسلطان .
آية الكرسيّ هذه لها شأن عظيم وفضل كبير . وقد صح الحديث{[1403]} عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أعظم آية في كتاب الله وأنها مشتملة على اسم الله الأعظم ، وقد ساق ما ورد في فضلها الإمام ابن كثير في ( تفسيره ) والجلال السيوطي في ( الدر المنثور ) فانظرهما .
قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم فضلت هذه الآية حتى ورد في فضلها ما ورد . قلت : لما فضلت له سورة الإخلاص من اشتمالها على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى . ولا مذكور أعظم من رب العزة . فما كان ذكرا له كان أفضل من سائر الأذكار .
/ وقد حكى السيوطيّ في ( الإتقان ) عن الأشعريّ والباقلانيّ وابن حبّان المنع من أن يقال في القرآن فاضل وأفضل . قالوا : وما ورد مما يفيد ذلك محمول على الأعظمية في الأجر . لا أن بعض القرآن أفضل من بعض . وقد ردّ ذلك غير واحد ، حتى قال ابن الحصار : العجب ممن يذكر الاختلاف في ذلك مع النصوص الواردة في التفضيل . وقال الغزاليّ في ( جواهر القرآن ) : لعلك أن تقول : قد أشرت إلى تفضيل بعض آيات القرآن على بعض ، والكلام كلام الله ، فكيف يتفاوت بعضها بعضا ، وكيف يكون بعضها أشرف من بعض ؟ فاعلم أن نور البصيرة إن كان لا يرشدك إلى الفرق بين آية الكرسي وآية المداينات ، وبين سورة الإخلاص وسورة تبت ، وترتاع على اعتقاد نفسك الخوارة المستغرقة بالتقليد ، فقلّد صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم فهو الذي أنزل عليه القرآن وقال : ( يس قلب القرآن ) {[1404]} . و( فاتحة الكتاب أفضل سور القرآن ) {[1405]} . / و( آية الكرسيّ سيدة آي القرآن ) {[1406]} . و( قل هو الله أحد تعدل ثلث القرآن ) {[1407]} . والأخبار الواردة في فضائل القرآن وتخصيص بعض السور والآيات بالفضل وكثرة الثواب في تلاوتها لا تحصى . انتهى .