قوله عز وجل : { الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم } .
فصل : في فضل هذه الآية الكريمة :
عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لكل شيء سنام وإن سنام القرآن البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن آية الكرسي " أخرجه الترمذي . قوله : إن لكل شيء سناماً . سنام كل شيء أعلاء تشبيهاً بسنام البعير والمراد منه تعظيم هذه السورة والسيد الفاضل في قومه والشريف والكريم وأصله من ساد يسود وقوله هي سيدة أي القرآن أي أفضله . ( م ) عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم ؟ قلت : { الله لا إله إلاّ هو الحي القيوم } فضرب في صدري وقال : ليهنك العلم يا أبا المنذر " عن واثلة بن الأسقع : " أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } " أخرجه أبو داود . وقال العلماء : إنما تميزت آية الكرسي بكونها أعظم آية في القرآن لما جمعت من أصول الأسماء والصفات من الإلهية والوحدانية والحياة والعلم والقومية والملك والقدرة والإرادة ، فهذه أصول الأسماء والصفات ، وذلك لأن الله تعالى أعظم مذكور فما كان ذكراً له من توحيد وتعظيم كان أعظم الأذكار وفي هذا الحديث حجة لمن يقول بجواز تفضيل بعض القرآن على بعض وتفضيله على سائر كتب الله المنزلة ، ومنع من جواز تفضيل بعض القرآن على بعض جماعة منهم أبو الحسن الأشعري وأبو بكر الباقلاني قالا لأن تفضيل بعضه على بعض يقتضي نقص المفضول ، وليس في كلام الله عز وجل نقص وتأول هؤلاء ما ورد من إطلاق لفظ أعظم وأفضل على بعض الآيات أو السور بمعنى عظيم وفاضل ، ومن أجاز تفضيل بعض القرآن على بعض من العلماء والمتكلمين قالوا : هذا التفضيل راجع إلى عظم أجر القارئ أو جزيل ثوابه وقول : إن هذه الآية أو هذه السورة أعظم أو أفضل بمعنى أن الثواب المتعلق بها أكثر وهذا هو المختار وهو معنى الحديث والله أعلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من قرأ حين يصبح آية الكرسي وآيتين من أول حم تنزيل الكتاب من الله العزيز العليم حفظ يومه ذلك حتى يمسي ومن قرأها حين يمسي حفظ ليلته تلك حتى يصبح " أخرجه الترمذي وقال حديث غريب . وأما التفسير فقوله عز وجل : { الله لا إله إلا هو } نفي الإلهية عن كل ما سواه وأثبت الإلهية له سبحانه وتعالى فهو كقولك لا كريم إلاّ زيد فإنه أبلغ من قولك زيد كريم الحي يعني الباقي على الأبد الدائم بلا زوال ، والحي في صفة الله تعالى وهو الذي لم يزل موجوداً وبالحياة موصوفاً لم تحدث له الحياة بعد موت ولا يعتريه الموت بعد حياة ، وسائر الأحياء سواء يعتريهم الموت والعدم فكل شيء هالك إلاّ وجهه سبحانه وتعالى . القيوم قال مجاهد : القيوم القائم على كل شيء وتأويله أنه تعالى قائم بتدبير خلقه في إيجادهم وأرزاقهم وجميع ما يحتاجون إليه وقيل وهو القائم الدائم بلا زوال الموجود الذي يمتنع عليه التغير وقيل هو القائم على كل نفس بما كسبت والقيوم فيعول من القيام وهو نعت للقائم على الشيء { لا تأخذه سنة ولا نوم } السنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمى نعاساً وهو النوم الخفيف والوسنان بين النائم واليقظان والنوم هو الثقل المزيل للعقل والقوة . وقيل : السنة في الرأس والنعاس في العين والنوم في القلب فالسنة هي أول النوم والنوم هو غشية ثقيلة تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء والمعنى لا تأخذه سنة فضلاً عن أن يأخذه نوم لأن النوم والسهو والغفلة محال على الله تعالى لأن هذه الأشياء عبارة عن عدم العلم وذلك نقص وآفة والله تعالى منزه عن النقص والآفات ، وأن ذلك تغير والله تعالى منزه عن التغير ، ( م ) عن أبي موسى الأشعري قال : " قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيباً بخمس كلمات فقال إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل عمل الليل حجابه النور " . وفي رواية : " النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " .
شرح ما يتعلق بلفظ هذا الحديث منقول من شرح مسلم للشيخ محيي الدين النووي قوله صلى الله صلى عليه وسلم : " إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام " فمعناه الإخبار أنه سبحانه وتعالى لا ينام وأنه مستحيل في حقه لأن النوم انغمار وغلبة على العقل يسقط به الإحساس والله تعالى منزه عن ذلك وقوله : " يخفض القسط ويرفعه " أراد بالقسط الميزان الذي يقع به العدل ومعناه أن الله تعالى يخفض الميزان ويرفعه بما يوزن فيه من أعمال العباد المرتفعة إليه وقيل أراد بالقسط الرزق الذي هو قسط كل مخلوق ومعنى يخفض يقبض ويضيق على من يشاء ويرفعه أي يوسعه على من يشاء وقوله : " يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار " يعني أن الحفظة من الملائكة يصعدون بأعمال العباد في الليل بعد انقضائه في أول النهار ، ويصعدون بأعمال النهار بعد انقضائه في أول الليل قوله : " حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه " سبحات بضم السين المهملة والباء الموحدة تحت وبضم التاء في آخره جمع سبحة ، ومعنى سبحات وجهه نوره وجلاله وبهاؤه والحجاب أصله في اللغة المنع وحقيقة الحجاب إنما تكون للأجسام المحدودة والله تعالى منزه عن الجسم والحد ، فالمراد به هنا الشيء المانع من الرؤية ، وسمي ذلك الشيء المانع نوراً أو ناراً لأنهما يمنعان من الإدراك في العادة ، والمراد بالوجه الذات ، والمراد بما انتهى إليه بصره من خلقه جميع المخلوقات لأن بصره سبحانه وتعالى محيط بجميع الكائنات ولفظة من في قوله من خلقه لبيان الجنس لا للتبعيض ومعنى الحديث لو زال المانع وهو الحجاب المسمى نوراً أو ناراً وتجلى لخلقه لأحرق جلال ذاته جميع مخلوقاته هذا آخر كلام للشيخ على هذا الحديث والله أعلم . وروى الطبري بسنده عن ابن عباس في قوله : { لا تأخذه سنة ولا نوم } إن موسى عليه السلام سأل الملائكة هل ينام الله تعالى ؟ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثاً فلا يتركوه ينام ففعلوا ثم أعطوه قارورتين فأمسكهما ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما فجعل ينعس وينتبه وهما في يده في كل يد واحدة حتى نعس نعسة فضرب إحداهما بالأخرى فكسرهما قال معمر إنما هو مثل ضربة الله تعالى له يقول فكذلك السموات والأرض ، ورواه عن أبي هريرة مرفوعاً قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى على المنبر قال : " وقع في نفس موسى هل ينام الله " وذكر نحو حديث ابن عباس قال بعض العلماء : إن صح هذا الحديث فيحمل على أن هذا السؤال كان من جهال قوم موسى كطلب الرؤية من موسى لأن الأنبياء عليهم السلام هم أعلم بالله من غيرهم فلا يجوز أن ينسب لموسى مثل هذا السؤال والله تعالى أعلم .
قوله تعالى : { له ما في السموات وما في الأرض } يعني أن الله تعالى مالك جميع ذلك بغير شريك ولا منازع وهو خالقهم وهم عبيده وفي ملكه . فإن قلت لم قال له ما في السموات ولم يقل من في السموات ؟ قلت : لما كان المراد إضافة كل ما سواه إليه من الخلق والملك وكان الغالب فيهم من لا يعقل أجرى الغالب مجرى الكل فعبر عنه بلفظ ما { من ذا الذي يشفع عنده إلاّ بإذنه } أي بأمره وهذا استفهام إنكاري والمعنى لا يشفع عنده أحد إلاّ بأمره وإرادته ، وذاك لأن المشركين زعموا أن الأصنام تشفع لهم فأخبر أنه لا شفاعة لأحد عنده إلاّ ما استثناه بقوله { إلاّ بإذنه } يريد بذلك شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم وشفاعة بعض الأنبياء والملائكة وشفاعة المؤمنين بعضهم لبعض { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } يعني ما بين أيديهم من الدنيا وما خلفهم من الآخرة وقيل بعكسه لأنهم يقدمون على الآخرة ويخلفون الدنيا وراء ظهورهم وقيل يعلم ما كان قبلهم وما كان بعدهم وقيل يعلم ما قدموه بين أيديهم من خير أو شر وما خلفهم مما هم فاعلوه والمقصود من هذا أنه سبحانه وتعالى عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أحوال جميع خلقه { ولا يحيطون بشيء من علمه } يقال : أحاط بالشيء إذا علمه وهو أن يعلم وجوده وجنسه وقدره وحقيقته ، فإذا علمه ووقف عليه وجمعه في قلبه فقد أحاط به والمراد بالعلم المعلوم والمعنى أن أحداً لا يحيط بمعلومات الله تعالى : { إلاّ بما شاء } يعني أن يطلعهم عليه وهم من الأنبياء والرسل ليكون ما يطلعهم عليه من علم غيبه دليلاً على نبوتهم كما قال تعالى : { فلا يظهر على غيبه أحداً إلاّ من ارتضى من رسول } { وسع كرسيه السموات والأرض } يقال فلان وسع الشيء سعة إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به وأصل الكرسي في اللغة من تركب الشيء بعضه على بعض ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض والكرسي في العرف اسم لما يقعد عليه سمي به لتركب خشباته بعضها على بعض . واختلفوا في المراد بالكرسي هنا على أربعة أقوال : أحدها أن الكرسي هو العرش نفسه قال الحسن لأن العرش والكرسي اسم للسرير الذي يصح التمكن عليه . القول الثاني أن الكرسي غير العرش وهو أمامه وهو فوق السموات السبع ودون العرش قال السدي إن السموات والأرض في جوف الكرسي كحلقة ملقاة في فلاة والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاة وعن ابن عباس أن السموات السبع في الكرسي كدراهم سبعة ألقيت في ترس وقيل إن كل قائمة من قوائم الكرسي طولها مثل السموات والأرض وهو بين يدي العرش ويحمل الكرسي أربعة أملاك لكل ملك أربعة وجوه وأقدامهم على الصخرة التي تحت الأرض السابعة السفلى : ملك على صورة أبي البشر آدم وهو يسأل الرزق والمطر لبني آدم من السنة إلى السنة ، وملك على صورة النسر وهو يسأل الرزق للطير من السنة إلى السنة ، وملك على صورة الثور وهو يسأل الرزق للأنعام من السنة إلى السنة وملك على صورة السبع وهو يسأل الرزق للوحوش من السنة إلى السنة . وفي بعض الأخبار أن بين حملة العرش وحملة الكرسي سبعين حجاباً من ظلمة وسبعين حجاباً من نور غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام لولا ذلك لاحترقت حملة الكرسي من نور حملة العرش . القول الثالث : إن الكرسي هو الإسم الأعظم لأن العلم يعتمد عليه . كما أن الكرسي يعتمد عليه قال ابن عباس كرسيه علمه . القول الرابع : المراد بالكرسي الملك والسلطان والقدرة لأن الكرسي موضع الملك والسلطان فلا يبعد أن يكنى عن الملك بالكرسي على سبيل المجاز { ولا يؤوده } أي لا يثقله ولا يجهده ولا يشق عليه { حفظهما } أي حفظ السموات والأرض { وهو العلي } أي الرفيع فوق خلقه الذي ليس فوقه شيء فيما يجب له أن يوصف به من معاني الجلال والكمال فهو العلي بالإطلاق المتعالي عن الأشباه والأنداد والأضداد وقيل العلي بالملك والسلطنة والقهر فلا أعلى منه أحد وقيل معنى العلو في صفة الله تعالى منقول إلى اقتداره وقهره واستحقاق صفات المدح جميعها على كل وجه وقيل معناه أنه يعلو أن يحيط به وصف الواصفين { العظيم } يعني أنه ذو العظمة والكبرياء الذي لا شيء أعظم منه . وقال ابن عباس : العظيم الذي قد كمل في عظمته وقيل العظيم هو ذو العظمة والجلال والكمال وهو في صفة الله تعالى ينصرف إلى عظم الشأن وجلالة القدر دون العظم الذي هو من نعوت الأجسام .