الآية 255 وقوله تعالى : { الله لا إله إلا هو } ؛ قيل : هو اسم المعبود ؛ وكذلك تسمى العرب كل معبود إليها ، ومعناه ، والله أعلم ، أن الذي يستحق العبادة ، ويحق أن يعبد هو الله الذي { لا إله إلا هو } لا الذي تعبدونه أنتم من الأوثان والأصنام التي لا تنفعهم عبادتكم إياها ، ولا يضركم ترككم العبادة لها . ويحتمل أن يكون على الإضمار : أن قل { الله } الذي { لا إله إلا هو } لأنهم كانوا يقرون بالخالق ، ويقرون بالإله كقوله جل وعلا : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض وسخر الشمس والقمر وليقولن الله } [ العنكبوت : 61 ] [ وكقوله : { ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله } ]{[3187]} [ لقمان : 25 والزمر : 38 ] وكقوله : { قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون } { سيقولون لله قل أفلا تذكرون } { قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم } { سيقولون لله قل أفلا تتقون } { قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون } { سيقولون لله قل فأنى تسحرون } [ المؤمنون : 84- 89 ] فإذا كانوا يقرون به ، فأخبرهم أن الذي تقرون به ، [ وتسمونه ، هو { الله } الذي { لا إله إلا هو الحي القيوم } ]{[3188]} ويحتمل أن يكون لقوم من أهل الإسلام عرفوا الله تعالى ، وآمنوا به ، ولم يعرفوا نعته وصفته أنه { الحي القيوم } إلى آخره .
وقوله : { الحي القيوم } قيل : هو { الحي } بذاته لا بحياة هي [ حياة غيره ]{[3189]} ، كالخلق ، وهم أحياء بحياة هي [ حياة ]{[3190]} غيرهم ، حلت فيهم ، لا بد من الموت ، والله عز وجلا ، تعالى عن أن يحل فيه الموت لأنه حي بذاته ، وجميع الخلائق أحياء لا بذاتهم ، تعالى الله ، عز وجلا عما يقول [ فيه ]{[3191]} الملحدون .
والأصل أن كل من وصف في الشاهد بالحياة وصف /46-ب/ بذلك للعظمة له والجلال والرفعة ، ويقال : فلان حي ، وكذلك الأرض سماها الله تعالى حية إذا اهتزت{[3192]} ، وأنبتت لرفعتها على أعين الخلق . فعلى ذلك الله سبحانه وتعالى حي للعظمة ، وكذلك ، الأرض سماها الله تعالى حية للعظمة والرفعة ولكثرة ما تكون تذكر في المواطن كلها كما سمى الشهداء أحياء{[3193]} لأنهم مذكورون في الملأ من الخلق ، ويحتمل أنه يمسى حيا لما لا يغفل عن شيء ، ولا يسهو ، ولا يذهب عنه شيء ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء{[3194]} ، وبالله العصمة . وقوله : { القيوم } [ القائم على مصالح أعمال الخلق وأرزاقهم ، وقيل : { القيوم } ]{[3195]} ، هو القيام على كل شيء يحفظه ، ويتعاهده كما يقال : فلان قائم على أمر فلان ؛ يعنون أنهي تحفظ أموره حتى لا يذهب عنه شيء . وقيل : { هي الحي القيوم } أي لا يغفل عن أحوال الخلق .
وقوله : { لا تأخذه سنة ولا نوم } ؛ [ قيل : السنة النعاس ، و ]{[3196]} وقيل : السنة بين النوم واليقظة ، وسمي وسنان ، وقيل : السنة هي ريح تجيء قبل الرأس ، فتغشى العينين ، فهو وسنان بين النائم واليقظان . ويحتمل قوله : { لا تأخذه سنة ولا نوم } على نفي الغفلة والسهو عنه ؛ إذ لو أخذه صار مغلوبا مقهورا ، فيزول عنه وصفه : حي ، قيوم كقوله : { لا يعزب عنه مثقال ذرة } [ سبأ : 3 ] على نفي الغفلة ، ويحتمل أنه نفي عن نفسه ذلك لأن الخلق إنما ينامون ، ويتغشون طلبا للراحة والمنفعة إما لدفع حزن أو وحشة ، فأخبر أنه ليس بالذي يحتاج إلى راحة وإلى دفع حزن أو وحشة ، وقيل : لا يفتر ، ولا ينام .
قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : النوم والسنة حالان تدلان على غفلة من حلا به ، وعلى حاجته إلى ما فيه راحته وعلى عجزه ؛ إذ هما يغلبان ، ويقهران ، فوصف الرب نفسه بالعو عن الذي دلا عليه من الوجوه .
وقوله : { له ما في السموات وما في الأرض } وهو العالي على ذلك القاهر له ، له تأخذه سنة ولا وحشة ولا معنى يدب على العجز والحاجة ، ولا قوة إلا بالله .
وقوله : { له ما في السموات وما في الأرض } أخبر أن{[3197]} ما في السموات والأرض عبيدة وإمائه ، ليس كما قالوا : فلان{[3198]} ابن الله ، والملائكة{[3199]} بنات الله ، بل كلهم عبيده وإماؤه ، والناس لا يتخذون ولدا من عبيدهم وإمائهم ، فالله أحق ألا يتخذ ، وقد ذكرنا في ما تقدم{[3200]} .
وقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } أيلا لا أحد يجترئ على الشفاعة { إلا بإذنه } .
ثم اختلف في الشافعة : قالت المعتزلة : لا تكون الشفاعة إلا لأهل الخيرات خاصة الذين لا ذنب لهم ، [ أو كان لهم ]{[3201]} ذنب ، فتابوا عنه ؛ ذهبوا في ذلك إلى ما ذكر الله تعالى في قوله : { الذين يحملون العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم } [ غافر : 7 ] ؛ أخبر أنهم يستغفرون للذين آمنوا ، وتابوا ، واتبعوا .
فإذا كان الاستغفار في الدنيا إنما يكون للذين آمنوا ، وتابوا ، واتبعوا ، فعلى ذلك الشفاعة إنما تكون في الآخرة لهؤلاء .
وأما عندنا فإن الشافعة تكون لأهل الذنوب لأن من لا ذنب له [ لا يحتاج ]{[3202]} إلى الشفاعة ، وقوله : { للذين تابوا واتبعوا سبيلك } تكون [ لهم ]{[3203]} ذنوب في أحوال التوبة ، فإنما يغفر لهم الذنوب التي كانت لهم ، فقد ظهر الاستغفار لأهل الذنوب . فعلى ذلك الشافعة . فإن قيل : أرأيت رجلا قال لعبده : إن عملت عملا تستوجب به الشافعة [ فأنت حر ، فأي عمل يعمله ليستوجب به الشفاعة حتى يعتق عبده : الطاعة أم{[3204]} المعصية ؟ قيل : الطاعة ، فعلى ذلك الشافعة لا تكون إلا لأهل الطاعة والخير لا لأهل المعصية ، وقيل : إن الشفاعة ]{[3205]} التي يستوجبها أهل الذنوب إنما يستوجبون الطاعات التي كانت لهم حالة الشفاعة كقوله : { خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم } [ التوبة : 102 ] فالشفاعة بخيره .
وقوله : لا شفاعة في الشاهد لأحد في الآخر لأن الشفاعة هي{[3206]} أن يذكر عن مناقب أحد وخيراته ليس سواها{[3207]} ، كذا في الآخرة . والجواب لهم من وجهين :
أحدهما : أنه إنما يذكر في الدنيا خيرات المشفع له لجهالة هذا بأحواله ، فيذكر خيراته ليعرفه بها ، فيشفع فيه ، والله تعالى عارف لا يتعرف .
والثاني : أن ذكر خيراته لحاجة تقع له في مثلها ، لا تكون له في الآخرة خاصة ، والله تعالى عن الحاجة عما بالعباد . لذلك اختلفا ، والله أعلم .
فإن قال لنا قائل : إن جميع ما ذكر في هذه الآية ، من أولها إلى أخرها ، كلها دعوى ، عم الدليل على تلك{[3208]} الدعوى ؟ [ فالجواب له في وجهين :
أحدهما : ]{[3209]} يحتمل أن يكون دليله ما تقدم ذكره من قوله تعالى : { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار } الآية [ البقرة : 164 ] .
والثاني : من نكر الصانع ، فيتكلم أولا معه في حدث وحاجته إلى محدث ، فإذا ثبت حدث العالم ، فحينئذ يتكلم في إثبات الصانع ووحدانيته ، وبالله التوفيق ، وفي قوله : { وإلاهكم إلاه واحد } [ البقرة : 123 و . . . ] ليس من حيث العدد لأن كل ذي عدد يحتمل الزيادة والنقصان ، ويحتمل الطول والعرض ، و[ يحتمل ]{[3210]} القصر والكسر ، ولكن يقال : ذلك { واحد } من حيث العظمة والجلال والرفعة كما يقال : فلان واحد زمانه وواحد قومه ؛ يعنون [ به ]{[3211]} رفعته وجلالته في قومه وسلطانه عليهم جائز القول ، فهم لا يعنون من جهة العدد لأن مثله كثير فيهم من حيث العدد ، والله أعلم .
وقوله : { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } هذا على المعتزلة لأنهم لا يصفون بالعلم ، وقد أخبر أن له العلم . ثم احتمل علمه علم الغيب ، وقال آخرون : علم الأشياء كلها ؛ لا يعلمون إلا ما يعلمهم الله من ذلك كقول الملائكة : { لا علم لنا إلا ما علمتنا } [ البقرة : 32 ] . ومن قال [ علمه ]{[3212]} علم الغيب فهو الذي قال : { عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا } { إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا } [ الجن : 26 و 27 ] .
وقوله : { وسع كرسيه السموات والأرض } قال بعضهم { وسع كرسيه } وسع علمه ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه وقال آخرون : { كرسيه } قدرته ، وهو وصف بالقدرة والعظمة ، وقيل : { وسع كرسيه } والكرسي هو أصل الشيء ؛ يقال كرسي كذا ، والمراد منه أنه المعتمد والمفزع للخلق ، وذلك بالعظمة والقوة ، ويقال : { وسع كرسيه } وهو خلق من خلقه ، وقيل : إن الكرسي هو الكرسي ، لكنه خلقه ليكرم به من يشاء من خلقه . فعلى ذلك لا يفهم من قوله : { وسع كرسيه } وغيره من الآيات ما يفهم من الخلق بقوله تعالى : { ليس كمثله شيء } [ الشورى : 11 ] .
وقوله : { ولا يؤوده حفظهما } : قيل : { ولا يؤوده حفظهما } لا يشق عليه ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه أيضا : إنه قال : لا يثقل عليه ، وقيل : { ولا يؤوده } لا يجهده ، وقيل : لا يعالج بحفظ شيء مثال الخلق .
وقوله : { وهو العلي العظيم } : { العلي } عن كل موهوم يحتاج إلى عرش أو كرسي ، { العظيم } عن أن يحاط به . وقال ابن عباس رضي الله عنه : { وسع كرسيه } قال : علمه ، [ ألا ترى ]{[3213]} إلى قوله : { ولا يؤوده حفظهما } كل شيء في علمه ، ولا يؤوده حفظ شيء ؟ والله أعلم .
قال الشيخ ، رحمه الله تعالى : { العلي } عن جميع أحوال الخلق وشبههم ، و{ العظيم }{[3214]} القاهر والغالب .