الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم و ما خلفهم ولا يحيطون بشئ من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض و لا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم 255
( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) أي لا معبود بحق إلا هو ، وهذه الجملة خبر المبتدأ ، والحي الباقي ، وقيل الذي لا يزول ولا يحول ، وقيل المصرف للأمور والمقدر للأشياء .
قال الطبري : عن قوم أنه يقال حي كما وصف نفسه ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه ، وهو خبر ثان أو مبتدأ خبره محذوف . والقيوم القائم على كل نفس بما كسبت ، وقيل القائم بذاته المقيم لغيره ، وقيل القائم بتدبير الخلق وحفظه ، وقيل هو الذي لا ينام ، وقيل الذي لا بديل له .
وقرأ جماعة القيام بالألف . وروى ذلك عن عمر . ولا خلاف بين أهل اللغة أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء وأثبت علة .
وهذه الآية أفضل آية في القرآن . ومعنى الفضل أن الثواب على قراءتها أكثر منه على غيرها من الآيات ؟ ، هذا هو التحقيق في تفضيل القرآن بعضه على بعض ، وإنما كانت أفضل لأنها جمعت من أحكام الألوهية وصفات الإله الثبوتية والسلبية ما لم تجمعه آية أخرى .
( لا تأخذه سنة ولا نوم ) هذا كالتعليل لقوله القيوم ، السِّنة النعاس في قول الجمهور ، والنعاس ما يتقدم النوم من الفتور وانطباق العينين فإذا صار في القلب صار نوما ، وفرق المفضل بين السِّنة والنعاس والنوم فقال السِّنة من الرأس ، والنعاس في العينين ، والنوم في القلب انتهى .
والذي ينبغي التعويل عليه في الفرق بين السِّنة والنوم أن السِّنة لا يفقد معها العقل بخلاف النوم ، فإنه استرخاء أعضاء الدماغ من رطوبات الأبخرة حتى يفقد معه العقل . بل وجميع الإدراكات بسائر المشاعر .
والمراد أنه لا يعتريه شيء منهما ، وقدّم السِّنة على النوم لكونها تتقدمه في الوجود فهو على حد لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .
قال الرازي في تفسيره : إن السنة ما يتقدم النوم ، فإذا كانت عبارة عن مقدمة النوم ، فإذا قيل لا تأخذه سنة دل على أنه لا يأخذه نوم بطريق الأولى ، فكان ذكر النوم تكرارا ، قلنا تقدير الآية لا تأخذه سنة فضلا عن أن يأخذه نوم والله أعلم بمراده انتهى .
وأقول إن هذه الألوية التي ذكرها غير مسلمة فإن النوم قد يرد ابتداء من دون ما ذكر من النعاس ، وإذا ورد على القلب والعين دفعة واحدة فإنه يقال له نوم ، ولا يقال له سنة ، فلا يستلزم نفي السِّنة نفي النوم . وقد ورد عن العرب نفيهما جميعا .
وأيضا فإن الإنسان يقدر على أن يدفع عن نفسه السِّنة ولا يقدر على أن يدفع عن نفسه النوم فقد يأخذه النوم ولا تأخذه السِّنة ، فلو وقع الاقتصار في النظم القرآني على نفي السِّنة لم يفد ذلك نفي النوم ، وهكذا لو وقع الاقتصار على نفي النوم لم يفد نفي السِّنة فكم من ذي سِّنة غير نائم .
وكرر حرف النفي للتنصيص على شمول النفي لكل واحد منهما فالسِّنة النوم الخفيف ، والنوم الثقيل المزيل للعقل والقوة ، والوسنان بين النائم واليقظان .
والجملة نفي للتشبيه بينه تعالى وبين خلقه والله منزه عن النقص والآفات ، وإن ذلك تغير وهو مقدس عن التغير .
وعن أبي موسى الأشعري قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطيبا بخمس كلمات فقال : " إن الله عز وجل لا ينام ولا ينبغي له أن ينام " الحديث رواه مسلم .
( له ما في السماوات وما في الأرض ) يعني أنه تعالى مالك جميع ذلك بغير شريك ولا منازع وهو خالقهم ، وهم عبيده وخلقه ، وهم في ملكه ، وأجرى الغالب مجرى الكل فعبر عنه بلفظ " ما " دون " من " وفيه رد على المشركين العابدين لبعض الكواكب التي في السماء ، والأصنام التي في الأرض يعني فلا تصلح أن تعبد لأنها مملوكة مخلوقة له ، واللام إما للقهر وإما للملك وإما للإيجاد .
( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) في هذا الاستفهام من الإنكار على من يزعم أن أحدا من عباده يقدر على أن ينفع أحدا منهم بشفاعة أو غيرها والتقريع والتوبيخ له ما لا مزيد عليه . وفيه من الدفع في صدور عباد القبور والصك في وجوههم والفت في أعضادهم ما لا يقادر قدره ولا يبلغ مداه .
والذي يستفاد منه فوق ما يستفاد من قوله تعالى ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) وقوله تعالى ( وكم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ) وقوله تعالى ( لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ) بدرجات كثيرة .
وقد بينت الأحاديث الصحيحة الثابتة في دواوين الإسلام صفة الشفاعة ولمن هي ومن يقوم بها بالإذن{[255]} .
( يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) الضميران لما في السماوات والأرض بتغليب العقلاء على غيرهم ، وما بين أيديهم وما خلفهم عبارة عن المتقدم عليهم والمتأخر عنهم ، أو عن الدنيا والآخرة وما فيهما ، وقال مجاهد : ما مضى من الدنيا وما خلفهم من الآخرة . وعن ابن عباس : ما قدموا من أعمالهم وما أضاعوا من أعمالهم .
والمقصود أنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيء من أحوال جميع خلقه . حتى يعلم دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء ، على الصخرة الصماء ، تحت الأرض الغبراء ، وحركة الذرة في جو السماء ، والطير في الهواء ، والسمك في الماء .
وفيه رد على من ينفي عنه سبحانه علم الجزئيات كالفلاسفة وهي أي صفة العلم له سبحانه إمام أئمة الصفات فلا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء .
( ولا يحيطون بشيء من علمه ) قد تقدم معنى الإحاطة ، والعلم هنا بمعنى المعلوم أي لا يحيطون بشيء من معلوماته ( إلا بما شاء ) أن يطلعهم عليه بأخبار الأنبياء والرسل ليكون دليلا على نبوتهم ؛ وليس ذلك إليهم بل إليه .
( وسع كرسيه ) ويقال فلان يسع الشيء سعة إذا احتمله وأمكنه القيام به ، وأصل الكرسي في اللغة مأخوذ من تركب الشيء بعضه على بعض ، ومنه الكراسة لتركب بعض أوراقها على بعض ، وفي العرف ما يجلس عليه ، والكرسي هنا الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته كما سيأتي بيان ذلك .
وقد نفى وجوده جماعة من المعتزلة . وأخطأوا في ذلك خطأ بينا وغلطوا غلطا فاحشا .
و قال بعض السلف : إن الكرسي هنا عبارة عن العلم قالوا : ومنه قيل للعلماء كراسي ، ومنه الكراسة التي يجمع فيها العلم ، ورجح هذا القول ابن جرير الطبري ، وفي القاموس الكرسي بالضم والكسر السرير والعلم . والجمع كراسي ، وقيل كرسيه قدرته التي يمسك بها السماوات والأرض كما يقال اجعل لهذا الحائط كرسيا أي ما يعمده ، وقيل إن الكرسي هو العرش وقيل هو تصوير لعظمته ولا حقيقة له .
وقال التفتازاني : إنه من باب إطلاق المركب الحسي المتوهم على المعنى العقلي المحقق ، وقال البيضاوي : لا كرسي في الحقيقة ولا قاعد وهو تمثيل مجرد ، وقيل هو عبارة عن الملك والسلطان مأخوذ من كرسي العالم والملك .
والحق القول الأول ولا وجه للعدول عن المعنى الحقيقي إلا مجرد خيالات تسببت عن جهالات وضلالات جاءت عن الفلاسفة أقمأهم الله تعالى .
والمراد بكونه وسع ( السماوات والأرض ) أنها صارت فيه وانه وسعها ولم يضق عنها لكونه بسيطا واسعا ، وأخرج الدارقطني في الصفات والخطيب في تاريخه عن ابن عباس قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن قول الله وسع كرسيه قال : " كرسيه موضع قدمه والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل " وأخرجه الحاكم وصححه . {[256]}
وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ في العظمة وابن مردويه والبيهقي عن أبي ذر الغفاري أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكرسي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده ما السماوات السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة في أرض فلاة وان فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة{[257]} .
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعا أنه موضع القدمين وفي سنده الحكم بن ظهير الفزاري الكوفي وهو متروك .
و قد ورد عن جماعة من السلف من الصحابة وغيرهم في وصف الكرسي آثار لا حاجة في بسطها .
( ولا يؤوده حفظهما ) معناه لا يثقله ولا يجهده ولا يشق عليه حفظ السموات والأرض ، يقال آدنى بمعنى أثقلني وتحملت منه مشقة ، وقال الزجاج : يحتمل أن يكون الضمير في قوله يؤوده لله سبحانه ، ويجوز أن يكون للكرسي لأنه من أمر الله .
( وهو العلي العظيم ) العلي يراد به علو القدر والمنزلة أي الرفيع فوق خلقه ليس فوقه شيء وقيل العلي بالملك والسلطنة والقهر فلا أعلى منه أحد ، وقيل علا من أحيط به وصف الواصفين ذو العظمة والجلال الذي كمل في عظمته .
وحكى الطبري عن بعضهم أنهم قالوا : هو العلي عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه ، قال ابن عطية : وهذا قول جهلة مجسمين وكان الواجب أن لا يحكى انتهى .
والخلاف في إثبات الجهة معروف في السلف والخلف ، والنزاع فيه كائن بينهم والادلة من الكتاب والسنة طافحة بها ، ولكن الناشئ على مذهب يرى غيره خارجا عن الشرع ، ولا ينظر في أدلته ولا يلتفت اليها الكتاب والسنة هما المعيار الذي يعرف به الحق من الباطل ، ويتبين به الصحيح من الفاسد ، ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض .
ولا شك أن هذا اللفظ يطلق على القاهر الغالب أيضا كما في قوله ( إن فرعون علا في الأرض ) والعظيم بمعنى عظم شأنه وخطره .
قال في الكشاف : إن الجملة الأولى بيان لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمنا عليه غير ساه عنه والثانية بيان لكونه مالكا لما يدبره ، والجملة الثالثة بيان لكبرياء شأنه والجملة الرابعة بيان لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم المستوجب للشفاعة وغير المرتضى ، والجملة الخامسة بيان لسعة علمه وتعلقه بالمعلومات كلها أو لجلاله وعظم قدره انتهى .
وبالجملة فهذه الآية قد اشتملت على أمهات المسائل الإلهية فإنها دالة على أنه تعالى موجود واحد في الالوهية متصف بالحياة الأزلية الأبدية ، واجب الوجود لذاته موجد لغيره ، إذ القيوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره منزه عن التحيز والحلول ، مبرأ عن التغير والفتور ، لا يناسب الأشباح ولا يعتريه ما يعتري النفوس والأرواح ، مالك الملك والملكوت ومبدع الأصول والفروع ، وذو البطش الشديد الذي لا يشفع أحد عنده كائنا من كان إلا من أذن له الرحمن ، عالم بالاشياء كلها جليها وخفيها كليها وجزئيها ، واسع الملك والقدرة لكل ما يصح أن يملك ويقدر عليه ، لا يشق عليه شاق ولا يشغله شأن عن شأن ، متعال عن الخلق ، مباين عن العالم مستو على العرش ، عليّ الذات سميّ الصفات كبير الشأن جليل القدر رفيع الذكر مطاع الأمر جلي البرهان عليّ عما يدركه القياس والظن والوهم عظيم لا يحيط به عالم الخلائق والفهم .
ولذلك قد ورد في فضل هذه الآية أحاديث فاخرج أحمد ومسلم واللفظ له عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم سأله : أي آية من كتاب الله أعظم قال : آية الكرسي قال : " ليهنك العلم أبا المنذر " .
وأخرج البخاري في تاريخه والطبراني وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جاءهم في صفة المهاجرين فسأله إنسان أي آية في القرآن أعظم فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ) الآية .
وأخرج سعيد بن منصور والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا وخرج منه ، آية الكرسي " قال الحاكم صحيح الاسناد ولم يخرجاه .
وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول في هاتين الآيتين ( الله لا إله إلا هو الحي القيوم ، والم ، الله لا إله إلا هو ) " إن فيهما اسم الله الأعظم " .
وقد وردت أحاديث في فضلها غير هذه وورد أيضا في فضل قراءتها دبر الصلوات وفي غير ذلك ، وورد أيضا مع مشاركة غيرها لها أحاديث في فضلها ، وورد عن السلف في ذلك شئ كثير{[258]} .