قوله تعالى : { اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ [ الْحَيُّ ] } : مبتدأٌ وخبرٌ . و " الحيّ " فيه سبعةُ أوجه ، أحدُها : أن يكونَ خبراً ثانياً للجلالة . الثاني : أن يكونَ خبراً لمبتدأ محذوف أي : هو الحيُّ . الثالث : أن يكونَ بدلاً من قوله : " لا إله إلا الله هو " فيكونَ في المعنى خبراً للجلالةِ ، وهذا في المعنى كالأولِ ، إلا أنه هنا لم يُخْبَرْ عن الجلالةِ إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلافِ الأول . الرابع : أن يكونَ بدلاً من " هو " وحدَه ، وهذا يبقى من بابِ إقامةِ الظاهرُ مُقامَ المضمرِ ، لأنَّ جملةَ النفي خبرٌ عن الجلالةِ ، وإذا جعلتَه بدلاً حَلَّ محَلَّ الأولِ فيصيرُ التقدير : الله لا إله إلا اللهُ . الخامس : أن يكون مبتدأً وخبرُه { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } . السادس : أنه بدلٌ من " الله " السابع : أنه صفة لله ، وهو أجودُها ، لأنه قرئ بنصبِهما " الحيَّ القيومَ " على القطع ، والقطعُ إنما هو في باب النعتِ ، لا يقال في هذا الوجهِ الفصلُ بين الصفة والموصوفِ بالخبرِ ، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [ تقول : زيدٌ قائمٌ العاقلُ ] .
و " الحيُّ " فيه قولان ، أحدهما : أن أصله حَيْيٌ بياءين من حَيي يَحْيَا فهو حيٌّ ، وهذا واضح ، وإليه ذهب أبو البقاء . والثاني : أن أصلَه حَيْوٌ فلامه واو ، فَقُلِبت الواوُ ياءً لانكسارِ ما قبلها متطرفةً ، وهذا لا حاجةَ إليه وكأنَّ الذي أَحْوجَ هذا القائلَ إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كونَ العينِ واللامِ من وادٍ واحد هو قليلٌ في كلامِهم بالنسبةِ إلى عَدَمِ ذلك فيه ، ولذلك كتبوا " الحياة " بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصلِ ، ويؤيده " الحيوان " لظهورِ الواو فيه . ولناصِر القول الأول أن يقول : قلبت الياءُ الثانيةُ واواً تخفيفاً ، لأنه لمّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثُقْل المِثْلان .
وفي وزنه أيضاً قولان ، أحدُهما : أنه فَعْل ، والثاني : أنه فَيْعِل فَخُفِّف ، كما قالوا مَيْت وهَيْن ، والأصل : هَيّن ومَيّت .
والقَيُّوم : فَيْعُول من قام بالأمر يَقُوم به إذا دَبَّره ، قال أمية :
لم تُخْلَقِ السماءُ والنجومُ *** والشمسُ معها قَمَر يَعُومُ
قَدَّره مهيمنٌ قَيُّومُ *** والحشرُ والجنةُ والنعيمُ
وأصلُه قَيْوُوم ، فاجتمعت الياءُ والواوُ وسَبَقَت إحداهما بالسكون فَقُلِبت الواوُ ياءً وأُدغمت فيها الياءُ فصارَ قَيُّوماً .
وقرأ ابن مسعود والأعمش : " القَيَّام " ، وقرأ علقمة : " القَيِّم " وهذا كما يقولون : دَيُّور وديار ودَيِّر . ولا يجوز أن يكونَ وزنُه فَعُّولاً ك " سَفُّود " إذ لو كان كذلك لكان لفظُه قَوُّوما ، لأن العينَ المضاعَفَةَ أبداً من جنس الأصلية كسُبُّوح وقُدُّوس وضَرَّاب وقَتَّال ، فالزائدُ من جنسِ العَيْنِ ، فلمَّا جاء بالياء دونَ الواوِ علمنا أن أصله فَيْعُول لا فَعُّول ؛ وعدَّ بعضُهم فَيْعُولاً من صيغ المبالغة كضَرُوب وضَرَّاب .
قوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ } في هذه الجملةِ خمسةُ أوجه ، أحدُها : أنها في محلِّ رفعٍ خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحدِ أوجهِ رفعٍ الحيّ . الثاني : أنها خبرٌ عن الله تعالى عند مَنْ يُجيز تعدُّد الخبرِ . الثالث : أنها في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الضمير المستكنِّ في " القَيُّوم " كأنه قيل : يقوم بأمر الخلق غيرَ غافلٍ ، قاله أبو البقاء . الرابع : أنها استئنافٌ إخبارٍ ، أخبر تعالى عن ذاتِه القديمة بذلك . الخامس : أنها تأكيدٌ للقَيُّوم لأن مَنْ جاز عليه ذلك استحالَ أن يكونَ قَيُّوماً ، قاله الزمخشري ، فعلى قولِه إنها تأكيدٌ يجوز أن يكونَ محلُّها النصبَ على الحالِ المؤكدة ، ويجوز أن تكونَ استئنافاً وفيها معنى التأكيدِ فتصيرُ الأوْجُه أربعةً .
والسِّنَةُ : النُّعاس ، وهو ما يتقدَّم النومَ من الفتور ، قال عديّ بن الرقاع :
وَسْنانُ أَقْصَدَه النُّعاسُ فَرَنَّقَتْ *** في عينِه سِنَةٌ وليس بنائمِ
وهي مصدرُ وَسَن يَسِنُ مثلَ : وَعَد يَعِد ، وقد تقدَّم علةُ الحذفِ عند قوله
{ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ } [ البقرة : 247 ] . وقال ابن زيد : " الوَسْنان : الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل ، حتى إنه ربما جرَّد السيف على أهله " وهذا القولُ ليس بشيءٍ لأنه لا يُفْهَمُ من لغةِ العرب ذلك . وقال المفضَّل : " السِّنَةُ : ثِقَلٌ في الرأسِ ، والنعاسُ في العينين ، والنومُ في القلب " .
وكررت " لا " في قوله : " ولا نومٌ " تأكيداً ، وفائدتها انتفاءُ كلِّ واحدٍ منهما ، ولو لم تُذْكَرْ لاحتُمِلَ نفيُهما بقيدِ الاجتماعِ ، ولا يَلْزَمُ منه نفيُ كلِ واحدٍ منهما على حِدَته ، ولذلك تقول : " ما قامَ زيدٌ وعمروٌ بل أحدُهما " ، ولو قلت : " ما قامَ زيدٌ ولا عمرو بل أحدُهما " لم يَصِحَّ ، والمعنى : لا يَغْفَلُ عن شيءٍ دقيقٍ ولا جليلٍ ، فعبَّر بذلك عن الغفلةِ ، لأنه سببها ، فَأَطْلَقَ اسمَ السببِ على مُسَبَّبه .
قوله : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ } هي كالتي قبلها إلاَّ في كونِها تأكيداً و " ما " للشمولِ . واللامُ في " له " للمِلْك ، وكرَّر " ما " تأكيداً ، وذَكَر هنا المظروفَ دون الظرفِ لأنَّ المقصودَ نفيُ الإلهية عن غيرِ الله تعالى ، وأنه لا ينبغي أَنْ يُعْبد إلا هو ، لأنَّ ما عُبِد من دونِه في السماء كالشمس والقمر والنجوم أو في الأرض كالأصنامِ وبعضِ بني آدم ، فكلُّهم مِلْكُه تعالى تحتَ قهرِه ، واستغنى عن ذِكْر أنَّ السماواتِ والأرضَ مِلْكٌ له بذكرِه/ قبل ذلك أنه خالقُ السماوات والأرض .
قوله : { مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ } كقوله : { مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ } [ البقرة : 245 ] و " مَنْ " وإن كان لفظُها استفهاماً فمعناه النفيُ ، ولذلك دَخَلتْ " إلا " في قولِه " إلاّ بإذنه " .
و " عنده " فيه وجهان ، أحدُهما : أنه متعلِّقٌ بيَشْفَع .
والثاني : أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ لكونِه [ حالاً ] من الضمير في " يَشْفع " أي يَشْفَعُ مستقراً عنده ، وقوي هذا الوجهُ بأنه إذا لم يَشْفَعُ عنده مَنْ هو عنده وقريبٌ منه فشفاعةُ غيرِه أبعدُ . وضَعَّفَ بعضُهم الحالِيَّة بأنَّ المعنى : يَشْفَع إليه .
و " إلاَّ بإذنه " متعلقٌ بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ من فاعلِ " يَشْفَع " فهو استثناءٌ مفرَّغ ، والباءُ للمصاحبةِ ، والمعنى : لا أحدَ يشفعُ عندَه إلاَّ مأذوناً له منه ، ويجوزُ أن يكونَ مفعولاً به أي : بإذنه يَشْفعون كما تقول : " ضَرَب بسيفه " أي هو آلةٌ للضربِ ، والباءُ للتعديةِ .
و " يَعْلَمُ " هذه الجملةُ يجوز أن تكونَ خبراً لأحدِ المبتدأين المتقدمين أو استئنافاً أو حالاً . والضميرُ في " أيديهم " و " خلفهم " يعودُ على " ما " في قوله : { لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } إنه غَلَّبَ مَنْ يعقِلُ على غيرِه . وقيل : يعودُ على العُقَلاء ممَّن تضمَّنه لفظُ " ما " دونَ غيرِهم . وقيل : يعودُ على ما دَلَّ عليه " مَنْ ذا " من الملائكةِ والأنبياء . وقيل : من الملائكة خاصةً .
قوله : { بِشَيْءٍ } متعلِّقٌ بيحيطون . والعلمُ هنا بمعنى المَعْلوم لأنَّ عِلْمَه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاتِه المقدَّسة لا يتبعَّضُ ، ومِنْ وقوعِ العلم موقعَ المعلوم قولُهم : " اللهم اغفر لنا عِلْمَك فينا " وحديثُ موسى والخَضِر عليهما السلام " ما نَقَص عِلْمي وعلمُك من عِلمه إلاَّ كما نَقَص هذا العصفورُ من هذا البحر " ولكونِ العلمِ بمعنى المعلومَ صَحَّ دخولُ التبعيضِ ، والاستثناءُ عليه . و " مِنْ علمه " يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بيحيطون ، وأَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لشيء ، فيكونَ في محلَّ جر . و " بما شاءَ " متعلِّقٌ بيُحيطون أيضاً ، ولا يَضُرُّ تعلُّقُ هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنىً بعاملٍ واحدٍ ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأوَّلَيْن بإعادةِ العاملِ بطريقِ الاستثناءِ ، كقولك : " ما مررت بأحدٍ إلا بزيدٍ " ومفعولُ " شاء " محذوفٌ تقديرُه : إلا بما شاء أن يُحيطوا به ، وإنما قَدَّرتُه كذلك لدلالةِ قوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ } .
قوله : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ } الجمهورُ على " وَسِعَ " بفتح الواوِ وكسرِ السينِ وفتحِ العينِ فعلاً ماضياً .
و " كرسيُّه " بالرفع على أنه فاعلُه ، وقُرىء " وَسْعَ " سَكَّن عينَ الفعلِ تخفيفاً نحو : عَلْمَ في عَلِمَ . وقرىء أيضاً : " وَسْعُ كرسيِّه " بفتح الواو وسكونِ السين ورفعِ العين على الابتداء ، " كرسيِّه " خفضٌ بالإِضافة ، " السماواتُ " رفعاً على أنه خبرٌ للمبتدأ .
والكُرْسِيُّ الياءُ فيه لغير النسب واشتقاقُه من الكِرْس وهو الجمع ، ومنه الكُرَّاسة للصحائف الجامعةِ للعلمِ ، ومنه قولُ العجاج :
يا صاحِ هل تَعْرِفُ رسماً مُكْرَساً *** قال نَعَمْ أعرِفُه وأَبْلَسا
وجمعه كَرَاسيّ كبُخْتيّ وبَخَاتيّ ، وفيه لغتان : المشهورةُ ضمُّ كافِه ، والثانيةُ كسرُها ، وكأنه كسرُ إتباع ، وقد يُعَبَّر به عن المَلِك لجلوسه عليه تسميةُ للحالِّ باسم المَحَلِّ ، ومنه :
قد عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلى القُدْسِ *** أنَّ أبا العباسِ أَوْلِى نَفْسِ
في مَعْدِنِ المَلِكِ القديمِ الكُرْسي
وعن العلمِ تسميةً للصفةِ باسمِ مكانِ صاحبِها ، ومنه قيل للعلماء : " الكَراسيّ " قال :
يَحُفُّ بهم بيضُ الوجوه وعُصْبَةٌ *** كراسِيُّ بالأحداثِ حين تَنُوبُ
وَصَفَهم بأنهم عالمونَ بحوادثِ الأمورِ ونوازِلِها ويُعَبَّرُ به عن السِّرِّ قال :
مالي بأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكاتِمُهُ *** ولا بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللَّهُ - مَخْلُوقِ
وقيل :الكُرْسيُّ لكل شيء أصلُه .
قوله : { وَلاَ يَؤُودُهُ } يقال : آدَه كذا أي : أَثْقله ولَحِقه منه مَشَقَّةٌ ، قال :
ألا ما لسَلْمَى اليومَ بَتَّ جَدِيدُها *** وَضَنَّتْ وما كانُ النَّوالُ يَؤُودُها
أي : يُثْقِلها ، ومنه المَوْءُوْدَة للبنت تُدْفَنُ حيةً ، لأنهم يثقلونها بالتراب . وقُرىء " يَوْدُه " بحذفِ الهمزة ، كما تُحذف همزة " أناس " ، وقرىء " يَوُوده " بإبدال الهمزة واواً .
و " حِفْظ " مصدرٌ مضافٌ لمفعولِهِ ، أي لا يَؤُوْده أَنْ يحفظَهما .
و " العليّ " أصلُه : عَلِيْوٌ فأُدْغم نحو : مَيِّت ، لأنه من علا يعلو ، قال :
فَلَمَّا عَلَوْنَا واستَوَيْنَا عليهِمُ *** تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لنسرٍ وكاسِرِ
و العظيمُ " تقدَّم معناها ، وقيل : هو هنا بمعنى المُعَظَّم كما قالوا : " عتيق " بمعنى مُعَتَّق قال :
فكأنَّ الخمرَ العتيقَ من الإِسْ *** فَنْطِ ممزوجةً بماءٍ زُلالِ
قيل : وأُنْكِرَ ذلك لانتفاء هذا الوصفِ قبل الخَلْقِ وبعد فنائِهم ، إذ لا مُعَظَّم له حينئذٍ ، وهذا فاسدٌ لأنه مستحقٌ هذا الوصفَ . وقيل في الجواب عنه : إنه صفة فعلٍ كالخَلْق والرِّزْق ، والأولُ أصحُّ .
قال الزمخشري : " فإنْ قلت : كيف تَرَتَّبَتِ الجملُ في آيةِ الكرسي غير حرفِ عطفٍ ؟ قلت : ما منها جملةٌ إلا وهي واردةٌ على سبيل البيانِ لما تَرَتَّبَتْ عليه ، والبيانُ مُتَّحِدٌ بالمُبَيَّن ، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب : " بين العصا ولِحائها " فالأُولى بيانٌ لقيامِهِ بتدبيرِ الخَلْق وكونِهِ مهيمناً عليه غيرَ ساهِ عنه ، والثانيةُ لكونِهِ مالكاً لما يدبِّره ، والثالثة لكبرياء شأنه ، والرابعة لإِحاطته بأحوال الخلق وعِلْمِه بالمرتضى منهم ، المستوجِب للشفاعةِ وغير المُرْتَضَى ، والخامسةُ لسَعَةِ علمه وتعلُّقِهِ بالمعلوماتِ كلِّها أو لجلالِهِ وعِظَم قدرتِهِ " انتهى . يعني غالبَ الجملِ وإلاَّ فبعضُ الجملِ فيها معطوفة وهي قولُهُ : " ولا يُحيطُونَ " وقولُهُ " ولا يَؤُودُه " وقولُه : { وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ } .