غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَيُّ ٱلۡقَيُّومُۚ لَا تَأۡخُذُهُۥ سِنَةٞ وَلَا نَوۡمٞۚ لَّهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِۗ مَن ذَا ٱلَّذِي يَشۡفَعُ عِندَهُۥٓ إِلَّا بِإِذۡنِهِۦۚ يَعۡلَمُ مَا بَيۡنَ أَيۡدِيهِمۡ وَمَا خَلۡفَهُمۡۖ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيۡءٖ مِّنۡ عِلۡمِهِۦٓ إِلَّا بِمَا شَآءَۚ وَسِعَ كُرۡسِيُّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَۖ وَلَا يَـُٔودُهُۥ حِفۡظُهُمَاۚ وَهُوَ ٱلۡعَلِيُّ ٱلۡعَظِيمُ} (255)

255

التفسير : قد جرت عادته سبحانه في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة ، أعني : علم التوحيد وعلم الأحكام ، وعلم القصص بعضها ببعض . والغرض من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف ، وفي هذا النسق أيضاً رحمة شاملة ولطف كامل ؛ فإن طبع الإنسان جبل على الملال ، فكلما انتقل من أسلوب إلى أسلوب انشرح صدره وتجدد نشاطه وتكامل ذوقه ولذته ويصير أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه . وإذ قد تقدَّم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد .

فقال { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة " . وعن عليّ رضي الله عنه : " سمعت نبيكم وهو على أعواد المنبر يقول من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره والأبيات حوله " وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي رضي الله عنه : أين أنتم من آية الكرسي ؟ . ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا علي سيد البشر آدم عليه السلام ، وسيد العرب أنت ، وسيد العالمين محمد صلى الله عليه وسلم ولا فخر ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي " . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : لما كان يوم بدر قاتلتُ ثم جئتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ماذا يصنع ، فجئت فإذا هو ساجد يقول : " يا حي يا قيوم " لا يزيد على ذلك . ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو صلى الله عليه وسلم يقول ذلك . فلا أزال أذهب وارجع وأنظر إليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له .

واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم ، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعالٍ عن أن يقال هو أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مشاكلة أو مجانسة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ؛ ولما كانت الآية مشتملة من نعوت جلاله وأوصاف كبريائه على الأصول والمهمات ، فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات ونهاية التصورات . ولنشتغل بالتفسير .

أما لفظ " الله " فقد مرَّ تفسيره في أول الكتاب . وأما قوله { لا إله إلاَّ هو } فقد سبق تفسيره في قوله { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } وأما { الحي القيوم } فقد سلف أيضا معناهما في شرح الأسماء ، لا أنا نزيد ههنا فنقول : عن ابن عباس : إن أعظم أسماء الله " الحي القيوم " . ويؤكده ما روينا من قصة بدر ولو كان ذكر أشرف منه لذكره وقتئذٍ في السجود . وأما الدليل العقلي فإن " الحي " قيل هو الذي يصلح أن يعلم ويقدر ، أو هو الدراك الفعال ، فأورد عليه أن هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخس الحيوانات إياه في ذلك . ونحن نقول إن " الحي " في اللغة ليس عبارة عمن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط ، بل كل شيء ، يكون كاملاً في جنسه فإنه يسمَّى حيًّا . ومن ههنا يصحُّ أن يقال : أحيا الموات ، وأحيا الله الأرض . فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة ، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة نضيرة . ولما كان كمال حال الجسم أن يكون بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، فلا جرم سميت تلك الصفة حياة . فالمفهوم من " الحي " هو الكامل في جنسه ، والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته ، فلا حيّ بالحقيقة إلاّ واجب الوجود لذاته . وأما " القيوم " فيطلق لمجموع اعتبارين : أحدهما ، أنه لا يفتقر في قوامه إلى غيره . والثاني أنَّ غيره يفتقر في قوامه إليه ، وبهذا الثاني يزيد على مفهوم " الحي " . ومن هذين الأصلين يتشعَّب جميع مسائل التوحيد والمعرفة فمنها أن واجب الوجود واحد في ذاته وبجميع جهات الوحدة ، إذ لو فرض فيه تركّب بوجه من الوجوه افتقر في تحققه إلى وجود ذينك الجزأين فيقدح في كونه قيوماً ؛ ومنها أنه لا شريك له وإلا اشتركا في الوجوب وتباينا بالتعيُّن فيكون كلّ منهما مركّباً من جزأين فلا يكون قيوماً ولا حيَّا ، فإن كلّ مركّب مفتقِرٌ وكل مفتقِرٍ ممكنٌ ؛ ومنها أن لا يكون متّحيزاً لأن كلَّ متّحيزٍ منقسمٌ ، قد ثبت أنه واحد ، ومنها أنه ليس في جهة يُشار إليها ، وإلا كان متحيزاً ؛ ومنها أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يصح عليه الحركة والسكون والانتقال والحالية والمحلية وغير ذلك ؛ ومنها أنه عالم بجميع المعلومات فإنه لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، وإذا كان حيًّا قيوماً كانت حقيقته حاضرة عند ذاته وذاته مقوم لغيره ، والعلم بالعلة يوجبُ العلم بالمعلول فيكون عالماً بما سواه .

ومنها أنه قادر على كل المقدورات ، وإلا لم يكن قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره ويعلم منه استناد كل الممكنات إليه بواسطة أو غير واسطة ، ويلزم منه القول بالقضاء والقدر . " والحي " أصله حيي كحذر وطمع ، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما ، وكلا الياءين أصل ، وقال ابن الأنباري : أصله " حيو " بدليل الحيوان ، فلما اجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكناً ، جعلنا ياء مشددة ، وزيف بكونه عديم النظير فإنه لم يوجد ما عينه ياء ولامه واو . " والقيوم " مبالغة قائم ، وأصله " قيووم " على " فيعول " ، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة . ولو كان " قوّوما " على " فعول " لقيل " قووم " ، وعن عمر أنه قرأ " الحي القيام " . وقرئ " القيم " ثم لما بين أنه " حي قيوم " أكد ذلك بقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } ولهذا فقد العاطف بينهما وكذا فيما يعقبهما والسنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمَّى النعاس ، أي : لا يأخذه نعاس ، فضلاً أن يأخذه نوم أو نقول : نفى الأخص أولاً ، ثم نفى الأعم ليفيد المبالغة من حيث لزوم نفي النوم أولاً ضمناً ثم ثانياً صريحاً . ولو اقتصر على نفي الأخص لم يلزم منه نفي الأعم ، والمعنى أنه لا يفتر عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة اختل أمر الطفل ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لوسنان نائم . ومما يدل على أن السهو والغفلة والنوم على الله محال هو أن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم ، أو عن أضداد العلم . وعلى التقديرين فجواز طريانها يوجب جواز زوال علم الله تعالى ، فلا يكون العلم مقتضى ذاته فيفتقر إلى فاعل : فواجب الوجود لذاته لا يكون واجباً بجميع صفاته ، فلا يكون حيًّا ولا قيوماً وهذا خلف . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل الملائكة : هل ينام ربنا ؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام ، ثم أعطاه قارورتين مملوءتين ماء في كل يدٍ واحدة ، وأمره بالاحتفاظ . فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا .

وكان ذلك مثلا في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السماوات والأرضين . وهذه الرواية ، إن صحت ، وجب أن ينسب هذا السؤال إلى جهال قوم موسى كطلب الرؤية ، وإلا فكيف يجوز على نبيّ الله تجويز النوم على " الحي القيوم " والتجويز شك ، والشك في مثله كفر . ثم لما بيَّن كونه " قيوماً " وأكده بما أكد ، رتّب عليه حكماً وهو قوله { له ما في السماوات وما في الأرض } لأن كل ما سواه فإنما تقوّمت ماهيته وتحصّل وجوده به ، فيكون ملكاً له ، ويلزم منه أن يكون حكمه جارياً في الكل ، ولا يكون لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ومعنى الاستفهام ههنا الإنكار ، أي : لا يشفع ، وفيه ردّ على المشركين القائلين للأصنام :{ هؤلاء شفعاؤنا عند الله }[ يونس : 18 ] ويلزم من كون غيره غير متصرف في ملكه بوجهٍ من الوجوه إلا بأمره كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل إلا بإعلامه . فأشار إلى الأول بقوله { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ، وإلى الثاني بقوله { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } والمعنى : يعلم ما كان قبلهم وما يَكون بعدهم والضمير لما في السماوات والأرض ، لأن فيهم العقلاء فغلبوا ، أو لما دل عليه قول { مَنْ ذا } من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء . عن مجاهد وعطاء والسدي أي : يعلم ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما كان بعدهم من أمور الآخرة ؛ وعن الضحاك والكلبي : { ما بين أيديهم } : الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، { وما خلفهم } الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم . وعن ابن عباس : { يعلم ما بين أيديهم } من السماء إلى الأرض ، { وما خلفهم } يريد ما في السماوات وقيل : ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك . والغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب ، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية ، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ولا يعلمون أن الله تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا ، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلوماته ، إلا بما علم كقوله :

{ لا علم لنا إلا ما علمتنا }[ البقرة : 32 ] ويحتمل أن يراد : ولا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله :{ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول }[ الجن : 26 ] وإذا كان الشفعاء وهم الملائكة والأنبياء لا يعلمون شيئاً إلا بتعليم الله فغيرهم بعدم العلم أولى .

ثم إنه لما بين كماله ملكه وحكمه في السماوات وفي الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السماوات والأرضين أعظم وأجلّ ، وأنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين ، فقال { وسع كرسيه السماوات والأرض } يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به .

قال صلى الله عليه وسلم : " لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا إتباعي " أي : لم يحتمل غير ذلك . وأما " الكرسي " فأصله من التركب والتلبد ، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض ، والكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض ، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته ، وللمفسرين في معناه ههنا أقوال : فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السماوات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه . وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا . وعن السدي أنه تحت الأرض . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى التشبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى . وههنا أسرار لا أحبُّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبداً من عبيده فهو أعلم بمحارم أسراره . وقيل : المراد من الكرسي أن السلطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات ، والعرب تسمِّي أصل كل شيء الكرسي ، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه ؛ فإن الملك مكانه الكرسي . وقيل : المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه . ومنه يقال للعلماء : كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض . وقيل : المقصود من الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد . واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره : أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم ؛ فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم . وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ، ثم جعله مقبل الناس كما تقبَّل أيدي الملوك . وكذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين . وعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] ووصف عرشه فقال :

{ وكان عرشه على الماء }[ هود : 71 ] ثم قال{ وترى الملائكة حافين من حول العرش }[ الزمر : 75 ] ثم قال{ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية }[ الحاقة : 17 ] ثم أثبت لنفسه كرسياً . ولما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهمة للتشبيه في الكعبة والطواف والحجر هو تعريف عظمة الله وكبريائه فكذا الألفاظ الواردة في العرش والكرسي { ولا يؤده } لا يثقله ولا يشق عليه ؛ { حفظهما } حفظ السماوات والأرض وفيه أن نفاذ حكمه وأمره في الكل على نعت واحد وصورة واحدة ، علوية كانت الأجسام أو سفلية كبيرة أو صغيرة .

ثم بيَّن أنه مع كونه مقوِّماً للممكنات مقيماً للأرضين والسماوات متعال عن المتحيزات ومقدس عن الزمنيات فقال : { وهو العلي العظيم } والمراد منهما علو الرتبة وعظمة الشرف لا الحيز والجهة . وكيف لا وهو مقيم للمكان ومديم للزمان .

/خ257