التفسير : قد جرت عادته سبحانه في هذا الكتاب الكريم أنه يخلط الأنواع الثلاثة ، أعني : علم التوحيد وعلم الأحكام ، وعلم القصص بعضها ببعض . والغرض من ذكر القصص إما تقرير دلائل التوحيد ، وإما المبالغة في إلزام الأحكام والتكاليف ، وفي هذا النسق أيضاً رحمة شاملة ولطف كامل ؛ فإن طبع الإنسان جبل على الملال ، فكلما انتقل من أسلوب إلى أسلوب انشرح صدره وتجدد نشاطه وتكامل ذوقه ولذته ويصير أقرب إلى فهم معناه والعمل بمقتضاه . وإذ قد تقدَّم من علم الأحكام والقصص ما اقتضى المقام إيراده ذكر الآن ما يتعلق بعلم التوحيد .
فقال { الله لا إله إلا هو الحي القيوم } عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ما قرئت هذه الآية في دار إلا هجرتها الشياطين ثلاثين يوماً ، ولا يدخلها ساحر ولا ساحرة أربعين ليلة " . وعن عليّ رضي الله عنه : " سمعت نبيكم وهو على أعواد المنبر يقول من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره ، وجار جاره والأبيات حوله " وتذاكر الصحابة أفضل ما في القرآن فقال لهم علي رضي الله عنه : أين أنتم من آية الكرسي ؟ . ثم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " يا علي سيد البشر آدم عليه السلام ، وسيد العرب أنت ، وسيد العالمين محمد صلى الله عليه وسلم ولا فخر ، وسيد الكلام القرآن ، وسيد القرآن البقرة ، وسيد البقرة آية الكرسي " . وعن عليّ رضي الله عنه أنه قال : لما كان يوم بدر قاتلتُ ثم جئتُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنظر ماذا يصنع ، فجئت فإذا هو ساجد يقول : " يا حي يا قيوم " لا يزيد على ذلك . ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو صلى الله عليه وسلم يقول ذلك . فلا أزال أذهب وارجع وأنظر إليه وكان لا يزيد على ذلك إلى أن فتح الله له .
واعلم أن الذكر والعلم يتبعان المذكور والمعلوم ، وأشرف المذكورات والمعلومات هو الله تعالى بل هو متعالٍ عن أن يقال هو أشرف من غيره لأن ذلك يقتضي نوع مشاكلة أو مجانسة وهو مقدس عن مجانسة ما سواه ؛ ولما كانت الآية مشتملة من نعوت جلاله وأوصاف كبريائه على الأصول والمهمات ، فلا جرم وصلت في الشرف إلى أقصى الغايات ونهاية التصورات . ولنشتغل بالتفسير .
أما لفظ " الله " فقد مرَّ تفسيره في أول الكتاب . وأما قوله { لا إله إلاَّ هو } فقد سبق تفسيره في قوله { وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو } وأما { الحي القيوم } فقد سلف أيضا معناهما في شرح الأسماء ، لا أنا نزيد ههنا فنقول : عن ابن عباس : إن أعظم أسماء الله " الحي القيوم " . ويؤكده ما روينا من قصة بدر ولو كان ذكر أشرف منه لذكره وقتئذٍ في السجود . وأما الدليل العقلي فإن " الحي " قيل هو الذي يصلح أن يعلم ويقدر ، أو هو الدراك الفعال ، فأورد عليه أن هذا لا يقتضي المدح لمشاركة أخس الحيوانات إياه في ذلك . ونحن نقول إن " الحي " في اللغة ليس عبارة عمن يوجد فيه هذه الصفة من هذه الحيثية فقط ، بل كل شيء ، يكون كاملاً في جنسه فإنه يسمَّى حيًّا . ومن ههنا يصحُّ أن يقال : أحيا الموات ، وأحيا الله الأرض . فإن كمال حال الأرض أن تكون معمورة ، وكمال حال الأشجار أن تكون مورقة نضيرة . ولما كان كمال حال الجسم أن يكون بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، فلا جرم سميت تلك الصفة حياة . فالمفهوم من " الحي " هو الكامل في جنسه ، والكامل في الوجود هو الذي يجب وجوده بذاته ، فلا حيّ بالحقيقة إلاّ واجب الوجود لذاته . وأما " القيوم " فيطلق لمجموع اعتبارين : أحدهما ، أنه لا يفتقر في قوامه إلى غيره . والثاني أنَّ غيره يفتقر في قوامه إليه ، وبهذا الثاني يزيد على مفهوم " الحي " . ومن هذين الأصلين يتشعَّب جميع مسائل التوحيد والمعرفة فمنها أن واجب الوجود واحد في ذاته وبجميع جهات الوحدة ، إذ لو فرض فيه تركّب بوجه من الوجوه افتقر في تحققه إلى وجود ذينك الجزأين فيقدح في كونه قيوماً ؛ ومنها أنه لا شريك له وإلا اشتركا في الوجوب وتباينا بالتعيُّن فيكون كلّ منهما مركّباً من جزأين فلا يكون قيوماً ولا حيَّا ، فإن كلّ مركّب مفتقِرٌ وكل مفتقِرٍ ممكنٌ ؛ ومنها أن لا يكون متّحيزاً لأن كلَّ متّحيزٍ منقسمٌ ، قد ثبت أنه واحد ، ومنها أنه ليس في جهة يُشار إليها ، وإلا كان متحيزاً ؛ ومنها أنه ليس بجسم ولا جوهر ولا عرض ولا يصح عليه الحركة والسكون والانتقال والحالية والمحلية وغير ذلك ؛ ومنها أنه عالم بجميع المعلومات فإنه لا معنى للعلم إلا حضور حقيقة المعلوم للعالم ، وإذا كان حيًّا قيوماً كانت حقيقته حاضرة عند ذاته وذاته مقوم لغيره ، والعلم بالعلة يوجبُ العلم بالمعلول فيكون عالماً بما سواه .
ومنها أنه قادر على كل المقدورات ، وإلا لم يكن قيوماً بمعنى كونه مقوماً لغيره ويعلم منه استناد كل الممكنات إليه بواسطة أو غير واسطة ، ويلزم منه القول بالقضاء والقدر . " والحي " أصله حيي كحذر وطمع ، فأدغمت الياء في الياء عند اجتماعهما ، وكلا الياءين أصل ، وقال ابن الأنباري : أصله " حيو " بدليل الحيوان ، فلما اجتمعت الواو والياء ثم كان السابق ساكناً ، جعلنا ياء مشددة ، وزيف بكونه عديم النظير فإنه لم يوجد ما عينه ياء ولامه واو . " والقيوم " مبالغة قائم ، وأصله " قيووم " على " فيعول " ، فجعلت الياء الساكنة والواو الأولى ياء مشددة . ولو كان " قوّوما " على " فعول " لقيل " قووم " ، وعن عمر أنه قرأ " الحي القيام " . وقرئ " القيم " ثم لما بين أنه " حي قيوم " أكد ذلك بقوله { لا تأخذه سنة ولا نوم } ولهذا فقد العاطف بينهما وكذا فيما يعقبهما والسنة ما يتقدم النوم من الفتور الذي يسمَّى النعاس ، أي : لا يأخذه نعاس ، فضلاً أن يأخذه نوم أو نقول : نفى الأخص أولاً ، ثم نفى الأعم ليفيد المبالغة من حيث لزوم نفي النوم أولاً ضمناً ثم ثانياً صريحاً . ولو اقتصر على نفي الأخص لم يلزم منه نفي الأعم ، والمعنى أنه لا يفتر عن تدبير الخلق لأن القيم بأمر الطفل لو غفل عنه ساعة اختل أمر الطفل ، وهو كما يقال لمن ضيع وأهمل : إنك لوسنان نائم . ومما يدل على أن السهو والغفلة والنوم على الله محال هو أن هذه الأشياء إما أن تكون عبارات عن عدم العلم ، أو عن أضداد العلم . وعلى التقديرين فجواز طريانها يوجب جواز زوال علم الله تعالى ، فلا يكون العلم مقتضى ذاته فيفتقر إلى فاعل : فواجب الوجود لذاته لا يكون واجباً بجميع صفاته ، فلا يكون حيًّا ولا قيوماً وهذا خلف . روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام سأل الملائكة : هل ينام ربنا ؟ فأوحى الله إليهم أن يوقظوه ثلاثاً ولا يتركوه ينام ، ثم أعطاه قارورتين مملوءتين ماء في كل يدٍ واحدة ، وأمره بالاحتفاظ . فكان يتحرز بجهده إلى أن نام في آخر الأمر فضرب إحداهما على الأخرى فانكسرتا .
وكان ذلك مثلا في بيان أنه لو كان ينام لم يقدر على حفظ السماوات والأرضين . وهذه الرواية ، إن صحت ، وجب أن ينسب هذا السؤال إلى جهال قوم موسى كطلب الرؤية ، وإلا فكيف يجوز على نبيّ الله تجويز النوم على " الحي القيوم " والتجويز شك ، والشك في مثله كفر . ثم لما بيَّن كونه " قيوماً " وأكده بما أكد ، رتّب عليه حكماً وهو قوله { له ما في السماوات وما في الأرض } لأن كل ما سواه فإنما تقوّمت ماهيته وتحصّل وجوده به ، فيكون ملكاً له ، ويلزم منه أن يكون حكمه جارياً في الكل ، ولا يكون لغيره في شيء من الأشياء حكم إلا بإذنه وأمره ، وهو المراد بقوله : { من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه } ومعنى الاستفهام ههنا الإنكار ، أي : لا يشفع ، وفيه ردّ على المشركين القائلين للأصنام :{ هؤلاء شفعاؤنا عند الله }[ يونس : 18 ] ويلزم من كون غيره غير متصرف في ملكه بوجهٍ من الوجوه إلا بأمره كونه عالماً بالكل وكون غيره غير عالم بالكل إلا بإعلامه . فأشار إلى الأول بقوله { يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم } ، وإلى الثاني بقوله { ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء } والمعنى : يعلم ما كان قبلهم وما يَكون بعدهم والضمير لما في السماوات والأرض ، لأن فيهم العقلاء فغلبوا ، أو لما دل عليه قول { مَنْ ذا } من الملائكة والأنبياء والصالحين والشهداء . عن مجاهد وعطاء والسدي أي : يعلم ما كان قبلهم من أمور الدنيا وما كان بعدهم من أمور الآخرة ؛ وعن الضحاك والكلبي : { ما بين أيديهم } : الآخرة لأنهم يقدمون عليها ، { وما خلفهم } الدنيا لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم . وعن ابن عباس : { يعلم ما بين أيديهم } من السماء إلى الأرض ، { وما خلفهم } يريد ما في السماوات وقيل : ما فعلوا من خير وشر وما يفعلونه بعد ذلك . والغرض أنه سبحانه عالم بأحوال الشافع والمشفوع له فيما يتعلق باستحقاق الثواب والعقاب ، لأنه عالم بجميع المعلومات لا يخفى عليه خافية ، والشفعاء لا يعلمون من أنفسهم أن لهم من الطاعة ما يستحقون به هذه المنزلة العظيمة عند الله ولا يعلمون أن الله تعالى أذن لهم في تلك الشفاعة أم لا ، فإنهم لا يحيطون بشيء من علمه ، أي من معلوماته ، إلا بما علم كقوله :
{ لا علم لنا إلا ما علمتنا }[ البقرة : 32 ] ويحتمل أن يراد : ولا يعلمون الغيب إلا بإعلامه كقوله :{ عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسول }[ الجن : 26 ] وإذا كان الشفعاء وهم الملائكة والأنبياء لا يعلمون شيئاً إلا بتعليم الله فغيرهم بعدم العلم أولى .
ثم إنه لما بين كماله ملكه وحكمه في السماوات وفي الأرضين ذكر أن ملكه فيما عدا السماوات والأرضين أعظم وأجلّ ، وأنّ ذلك مما ينقطع دون الإيماء إلى أدنى درجة من درجاتها أوهام المتوهمين ، فقال { وسع كرسيه السماوات والأرض } يقال وسع فلان الشيء إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به .
قال صلى الله عليه وسلم : " لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا إتباعي " أي : لم يحتمل غير ذلك . وأما " الكرسي " فأصله من التركب والتلبد ، ومنه الكرس بالكسر للأبوال والأبعار يتلبد بعضها على بعض ، والكراسة لتراكب بعض أوراقها على بعض ، والكرسي لما يجلس عليه لتركب خشباته ، وللمفسرين في معناه ههنا أقوال : فعن الحسن أنه جسم عظيم يسع السماوات والأرض وهو نفس العرش لأن السرير قد يوصف بأنه عرش وبأنه كرسي لأن كل واحد منهما يصح التمكن عليه . وقيل إنه دون العرش وفوق السماء السابعة وقد وردت الأخبار الصحيحة بهذا . وعن السدي أنه تحت الأرض . وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : الكرسي موضع القدمين وينبغي أن تحمل هذه الرواية إن صحت على ما لا يفضي إلى التشبيه ككونه موضع قدم الروح الأعظم أو ملك آخر عظيم القدر عند الله تعالى . وههنا أسرار لا أحبُّ إظهارها لو شاء الله أن يطلع عليها عبداً من عبيده فهو أعلم بمحارم أسراره . وقيل : المراد من الكرسي أن السلطان والقدرة والملك له لأن الإلهية لا تحصل إلا بهذه الصفات ، والعرب تسمِّي أصل كل شيء الكرسي ، أو لأنه تسمية للشيء باسم مكانه ؛ فإن الملك مكانه الكرسي . وقيل : المراد به العلم لأن موضع العالم هو الكرسي وأيضا العلم هو الأمر المعتمد عليه . ومنه يقال للعلماء : كراسي الأرض كما يقال لهم أوتاد الأرض . وقيل : المقصود من الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه ولا كرسي ثم ولا قعود ولا قاعد . واختاره جمع من المحققين كالقفال والزمخشري وتقريره : أنه يخاطب الخلق في تعريف ذاته وصفاته بما اعتادوا في ملوكهم ؛ فمن ذلك أنه جعل الكعبة بيتاً له يطوف الناس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم ، وأمر الناس بزيارته كما يزور الناس بيوت ملوكهم . وذكر في الحجر الأسود أنه يمين الله في أرضه ، ثم جعله مقبل الناس كما تقبَّل أيدي الملوك . وكذلك ما ذكر في القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشهداء ووضع الموازين . وعلى هذا القياس أثبت لنفسه عرشاً فقال : { الرحمن على العرش استوى } [ طه : 5 ] ووصف عرشه فقال :
{ وكان عرشه على الماء }[ هود : 71 ] ثم قال{ وترى الملائكة حافين من حول العرش }[ الزمر : 75 ] ثم قال{ ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذٍ ثمانية }[ الحاقة : 17 ] ثم أثبت لنفسه كرسياً . ولما توافقنا أن المراد من الألفاظ الموهمة للتشبيه في الكعبة والطواف والحجر هو تعريف عظمة الله وكبريائه فكذا الألفاظ الواردة في العرش والكرسي { ولا يؤده } لا يثقله ولا يشق عليه ؛ { حفظهما } حفظ السماوات والأرض وفيه أن نفاذ حكمه وأمره في الكل على نعت واحد وصورة واحدة ، علوية كانت الأجسام أو سفلية كبيرة أو صغيرة .
ثم بيَّن أنه مع كونه مقوِّماً للممكنات مقيماً للأرضين والسماوات متعال عن المتحيزات ومقدس عن الزمنيات فقال : { وهو العلي العظيم } والمراد منهما علو الرتبة وعظمة الشرف لا الحيز والجهة . وكيف لا وهو مقيم للمكان ومديم للزمان .