قوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } . أي : ما ذكر على ذبحه اسم غير الله تعالى .
قوله تعالى : { والمنخنقة } . وهي التي تختنق فتموت ، قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة ، حتى إذا ماتت أكلوها .
قوله تعالى : { والموقوذة } . هي المقتولة بالخشب ، قال قتادة : كانوا يضربونها بالعصا ، فإذا ماتت أكلوها .
قوله تعالى : { والمتردية } . هي التي تتردى من مكان عال ، أو في بئر ، فتموت . قوله تعالى : { والنطيحة } . هي التي تنطحها أخرى فتموت ، وهاء التأنيث تدخل في الفعيل إذا كان بمعنى الفاعل ، فإذا كان بمعنى المفعول استوى فيه المذكر والمؤنث ، نحو عين كحيل ، وكف خضيب ، فإذا حذفت الاسم ، وأفردت الصفة ، أدخلوا الهاء ، فقالوا : كحيلة ، وخضيبة . وهنا أدخل الهاء ، لأنه لم يتقدمها الاسم ، فلو أسقط الهاء لم يدر أنها صفة مؤنث أم مذكر ، ومثله الذبيحة ، والنسيكة ، وأكيلة السبع .
قوله تعالى : { وما أكل السبع } . يريد ما بقي مما أكل السبع ، وكان أهل الجاهلية يأكلونه .
قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } . يعني : إلا ما أدركتم ذكاته من هذه الأشياء ، وأصل التذكية الإتمام ، يقال : ذكيت النار ، إذا أتممت اشتعالها ، والمراد هنا : إتمام فري الأوداج ، وإنهار الدم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : ما أنهر الدم ، وذكر اسم الله عليه ، فكل . غير السن ، والظفر . وأقل الذكاة في الحيوان المقدور عليه قطع المريء ، والحلقوم . وكماله أن يقطع الودجين معهما ، ويجوز بكل محدد يقطع ، من حديد ، أو قصب ، أو زجاج ، أو حجر . إلا السن ، والظفر . فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الذبح بهما ، وإنما يحل ما ذكيته بعدما جرحه السبع ، وأكل شيئا منه إذا أدركته والحياة فيه مستقرة فذبحته ، فأما ما صار بجرح السبع إلى حالة المذبوح فهو في حكم الميتة ، فلا يكون حلالاً وإن ذبحته ، وكذلك المتردية ، والنطيحة ، إذا أدركتها حيةً قبل أن تصير إلى حالة المذبوح ، فذبحتها ، تكون حلالاً . ولو رمى إلى صيد في الهواء فأصابه ، فسقط على الأرض ومات ، كان حلالا لأن الوقوع على الأرض من ضرورته فإن سقط على جبل ، أو شجر ، ثم تردى منه فمات ، فلا يحل ، وهو من المتردية ، إلا أن يكون السهم أصاب مذبحه في الهواء ، فيحل كيفما وقع ، لأن الذبح قد حصل بإصابة السهم المذبح .
قوله تعالى : { وما ذبح على النصب } . قيل : النصب جمع واحده نصاب ، وقيل : هو واحد ، وجمعه أنصاب ، مثل : عنق وأعناق ، وهو الشيء المنصوب ، واختلفوا فيه فقال مجاهد وقتادة : كانت حول البيت ثلاثمائة وستون حجراً منصوبة ، كان أهل الجاهلية يعبدونها ويعظمونها ، ويذبحون لها ، وليست هي بأصنام ، إنما الأصنام هي المصورة المنقوشة ، وقال الآخرون : هي الأصنام المنصوبة ، ومعناه : وما ذبح على اسم النصب ، قال ابن زيد : ( وما ذبح على النصب ) ( وما أهل لغير الله به ) : هما واحد ، قال قطرب : على بمعنى اللام ، أي : وما ذبح لأجل النصب .
قوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } . أي : ويحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، والاستقسام هو طلب القسم والحكم من الأزلام والأزلام هي : القداح التي لا ريش لها ولا نصل ، واحدها زلم ، زلم بفتح الزاي ، وضمها ، كانت أزلامهم سبعة قداح مستوية ، من شوحط ، يكون عند سادن الكعبة ، مكتوب على واحد نعم ، وعلى واحد لا ، وعلى واحد منكم ، وعلى واحد من غيركم ، وعلى واحد ملصق ، وعلى واحد العقل ، وواحد غفل ليس عليه شيء ، فكانوا إذا أرادوا أمراً من سفر ، أو نكاح ، أو ختان أو غيره ، أو تداوروا في نسب ، أو اختلفوا في تحمل عقل ، جاءوا إلى هبل ، وكان أعظم أصنام قريش بمكة ، وجاءوا بمائة درهم فأعطوها صاحب القداح ، حتى يجيل القداح ، ويقولون : يا إلهنا ، إنا أردنا كذا وكذا ، فإن خرج نعم ، فعلوا ، وإن خرج لا ، لم يفعلوا ذلك حولاً ، ثم عادوا إلى القداح ثانيةً ، فإذا أجالوا على نسب فإن خرج منكم ، كان وسطاً منهم ، وإذا خرج من غيركم ، كان حليفاً ، وإن خرج ملصق كان على منزلته لا نسب له ، ولا حلف ، وإذا اختلفوا في عقل فمن خرج عليه قدح العقل حمله ، وإن خرج الغفل أجالوا ثانياً حتى يخرج المكتوب ، فنهى الله عز وجل عن ذلك وحرمه . قوله تعالى : { ذلكم فسق } . قال سعيد بن جبير : الأزلام حصا بيض ، كانوا يضربون بها ، وقال مجاهد : هي كعاب فارس والروم التي يتقامرون بها ، وقال الشعبي وغيره : الأزلام للعرب ، والكعاب للعجم . وقال سفيان بن وكيع : هي الشطرنج . وروينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " العيافة ، والطيرة ، من الجبت " ، والمراد من الطرق : الضرب بالحصى .
أخبرنا أبو سعيد الشريحي ، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي ، أنا ابن فنجويه ، أنا فضل السندي ، أخبرنا الحسن بن داود الخشاب ، أنا سويد بن سعيد ، أنا أبو المختار ، عن عبد الملك بن عمير ، عن رجاء بن حيوة ، عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من تكهن ، أو استقسم ، أو تطير طيرة ترده عن سفره ، لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة ) .
قوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } . يعني : أن ترجعوا إلى دينهم كفارا ، وذلك أن الكفار كانوا يطمعون في عود المسلمين إلى دينهم ، فلما قوي الإسلام أيسوا ، ويئس وأيس بمعنى واحد .
قوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشون اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } . نزلت هذه الآية يوم الجمعة ، يوم عرفة بعد العصر في حجة الوداع ، والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفات على ناقته العضباء ، فكادت عضد الناقة تندق من ثقلها فبركت .
أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي ، أنا محمد بن إسماعيل ، حدثني الحسن بن الصباح . سمع جعفر بن عون ، أنا أبو العميس ، أنا قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين ، آية في كتابكم تقرؤونها ، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : أية آية ؟ قال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً } قال عمر : قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة يوم الجمعة . أشار عمر إلى أن ذلك اليوم كان عيداً لنا . قال ابن عباس : كان في ذلك اليوم خمسة أعياد : جمعة ، وعرفة ، وعيد اليهود ، والنصارى ، والمجوس . ولم تجتمع أعياد أهل الملل في يوم قبله ولا بعده .
وروى هارون بن عنترة عن أبيه قال : لما نزلت هذه الآية بكى عمر رضي الله عنه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ما يبكيك يا عمر ؟ فقال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، قال : صدقت " . وكانت هذه الآية نعي النبي صلى الله عليه وسلم ، وعاش بعدها إحدى وثمانين يوماً ، ومات يوم الإثنين بعدما زاغت الشمس لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول ، سنة إحدى عشرة من الهجرة ، وقيل : توفي يوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول ، وكانت هجرته في الثاني عشر من شهر ربيع الأول . أما تفسير الآية قوله عز وجل : { اليوم أكملت لكم دينكم } يعني : يوم نزول هذه الآية أكملت لكم دينكم ، يعني الفرائض ، والسنن ، والحدود ، والأحكام . والحلال ، والحرام . فلم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام ، ولا شيء من الفرائض والسنن ، والحدود ، والأحكام . هذا معنى قول ابن عباس رضي عنهما . ويروى عنه أن آية الربا نزلت بعدها . وقال سعيد بن جبير وقتادة : { أكملت لكم دينكم } فلم يحج معكم مشرك وقيل : أظهرت دينكم وأمنتكم من العدو ، وقوله عز وجل : { وأتممت عليكم نعمتي } يعني : وأنجزت وعدي في قولي { ولأتم نعمتي عليكم } فكان من تمام نعمته أن دخلوا مكة آمنين ، وعليها ظاهرين ، وحجوا مطمئنين لم يخالطهم أحد من المشركين ، { ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، سمعت عبد الواحد قال : سمعت أبا محمد بن حاتم قال : سمعت أبا بكر النيسابوري ، سمعت أبا بكر محمد بن الحسن بن المسيب المروزي ، سمعت أبا حاتم محمد بن إدريس الحنظلي ، سمعت عبد الملك بن مسلمة ، أنا مروان المصري سمعت إبراهيم بن أبي بكر بن المنكدر رضي الله عنه سمعت عمي محمد بن المنكدر سمعت جابر بن عبد الله يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : قال جبريل ، عليه السلام قال الله تعالى : " هذا دين ارتضيته لنفسي ، ولن يصلحه إلا السخاء ، وحسن الخلق ، فأكرموه بهما ما صحبتموه " .
قوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة } . أي : جهد في مجاعة ، والمخمصة خلو البطن من الغذاء ، يقال : رجل خميص البطن ، إذا كان طاوياً خاوياً .
قوله تعالى : { غير متجانف لإثم } . أي : مائل إلى إثم ، وهو أن يأكل فوق الشبع ، وقال قتادة : غير متعرض لمعصية في مقصده .
قوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } . وفيه إضمار . أي : فأكله فإن الله غفور رحيم . أخبرنا أبو عبد الله محمد بن حسن المزوري ، أنا أبو العباس أحمد بن محمد بن سراج الطحان ، أنا أبو أحمد محمد بن قريش بن سليمان ، أنا أبو الحسن علي بن عبد العزيز المكي ، أنا أبو عبيدة القاسم بن سلام ، أنا محمد بن كثير ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي ، قال رجل : يا رسول الله إنا نكون بالأرض فتصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا الميتة ؟ فقال : ما لم تصطحبوا ، أو تغتبقوا ، أو تخنقوا بها بقلاً ، فشأنكم بها .
{ 3 ْ } { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ْ }
هذا الذي حولنا الله عليه في قوله : { إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ ْ } واعلم أن الله تبارك وتعالى لا يحرّم ما يحرّم إلا صيانة لعباده ، وحماية لهم من الضرر الموجود في المحرمات ، وقد يبين للعباد ذلك وقد لا يبين .
فأخبر أنه حرم { الْمَيْتَة ْ } والمراد بالميتة : ما فُقِدَت حياتُهُ بغير ذكاة شرعية ، فإنها تحرم لضررها ، وهو احتقان الدم في جوفها ولحمها المضر بآكلها . وكثيرا ما تموت بعلة تكون سببا لهلاكها ، فتضر بالآكل .
ويستثنى من ذلك ميتة الجراد والسمك ، فإنه حلال .
{ وَالدَّمَ ْ } أي : المسفوح ، كما قيد في الآية الأخرى . { وَلَحْم الْخِنْزِيرِ ْ } وذلك شامل لجميع أجزائه ، وإنما نص الله عليه من بين سائر الخبائث من السباع ، لأن طائفة من أهل الكتاب من النصارى يزعمون أن الله أحله لهم . أي : فلا تغتروا بهم ، بل هو محرم من جملة الخبائث .
{ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ ْ } أي : ذُكر عليه اسم غير الله تعالى ، من الأصنام والأولياء والكواكب وغير ذلك من المخلوقين . فكما أن ذكر الله تعالى يطيب الذبيحة ، فذكر اسم غيره عليها ، يفيدها خبثا معنويا ، لأنه شرك بالله تعالى .
{ وَالْمُنْخَنِقَةُ ْ } أي : الميتة بخنق ، بيد أو حبل ، أو إدخالها رأسها بشيء ضيق ، فتعجز عن إخراجه حتى تموت .
{ وَالْمَوْقُوذَةُ ْ } أي : الميتة بسبب الضرب بعصا أو حصى أو خشبة ، أو هدم شيء عليها ، بقصد أو بغير قصد .
{ وَالْمُتَرَدِّيَةُ ْ } أي : الساقطة من علو ، كجبل أو جدار أو سطح ونحوه ، فتموت بذلك .
{ وَالنَّطِيحَةُ ْ } وهي التي تنطحها غيرها فتموت .
{ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ ْ } من ذئب أو أسد أو نمر ، أو من الطيور التي تفترس الصيود ، فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع ، فإنها لا تحل .
وقوله : { إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ ْ } راجع لهذه المسائل ، من منخنقة ، وموقوذة ، ومتردية ، ونطيحة ، وأكيلة سبع ، إذا ذكيت وفيها حياة مستقرة لتتحقق الذكاة فيها ، ولهذا قال الفقهاء : { لو أبان السبع أو غيره حشوتها ، أو قطع حلقومها ، كان وجود حياتها كعدمه ، لعدم فائدة الذكاة فيها ْ } [ وبعضهم لم يعتبر فيها إلا وجود الحياة فإذا ذكاها وفيها حياة حلت ولو كانت مبانة الحشوة وهو ظاهر الآية الكريمة ]{[252]}
{ وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ْ } أي : وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام . ومعنى الاستقسام : طلب ما يقسم لكم ويقدر بها ، وهي قداح ثلاثة كانت تستعمل في الجاهلية ، مكتوب على أحدها " افعل " وعلى الثاني " لا تفعل " والثالث غفل لا كتابة فيه .
فإذا هَمَّ أحدهم بسفر أو عرس أو نحوهما ، أجال تلك القداح المتساوية في الجرم ، ثم أخرج واحدا منها ، فإن خرج المكتوب عليه " افعل " مضى في أمره ، وإن ظهر المكتوب عليه " لا تفعل " لم يفعل ولم يمض في شأنه ، وإن ظهر الآخر الذي لا شيء عليه ، أعادها حتى يخرج أحد القدحين فيعمل به . فحرمه{[253]} الله عليهم ، الذي في هذه الصورة وما يشبهه ، وعوضهم عنه بالاستخارة لربهم في جميع أمورهم .
{ ذَلِكُمْ فِسْقٌ ْ } الإشارة لكل ما تقدم من المحرمات ، التي حرمها الله صيانة لعباده ، وأنها فسق ، أي : خروج عن طاعته إلى طاعة الشيطان .
{ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَة غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ }
واليوم المشار إليه يوم عرفة ، إذ أتم الله دينه ، ونصر عبده ورسوله ، وانخذل أهل الشرك انخذالا بليغا ، بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين عن دينهم ، طامعين في ذلك .
فلما رأوا عز الإسلام وانتصاره وظهوره ، يئسوا كل اليأس من المؤمنين ، أن يرجعوا إلى دينهم ، وصاروا يخافون منهم ويخشون ، ولهذا في هذه السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع - لم يحج فيها مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان .
ولهذا قال : { فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ ْ } أي : فلا تخشوا المشركين ، واخشوا الله الذي نصركم عليهم وخذلهم ، ورد كيدهم في نحورهم .
{ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ْ } بتمام النصر ، وتكميل الشرائع الظاهرة والباطنة ، الأصول والفروع ، ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية ، في أحكام الدين أصوله وفروعه .
فكل متكلف يزعم أنه لا بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى علوم غير علم الكتاب والسنة ، من علم الكلام وغيره ، فهو جاهل ، مبطل في دعواه ، قد زعم أن الدين لا يكمل إلا بما قاله ودعا إليه ، وهذا من أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله .
{ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ْ } الظاهرة والباطنة { وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ْ } أي : اخترته واصطفيته لكم دينا ، كما ارتضيتكم له ، فقوموا به شكرا لربكم ، واحمدوا الذي مَنَّ عليكم بأفضل الأديان وأشرفها وأكملها .
{ فَمَنِ اضْطُرَّ ْ } أي : ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات السابقة ، في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ ْ } { فِي مَخْمَصَةٍ ْ } أي : مجاعة { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ ْ } أي : مائل { لِإِثْمٍ ْ } بأن لا يأكل حتى يضطر ، ولا يزيد في الأكل على كفايته { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ْ } حيث أباح له الأكل في هذه الحال ، ورحمه بما يقيم به بنيته من غير نقص يلحقه في دينه .
ثم يأخذ السياق في تفصيل ما استثناه في الآية الأولى من السورة من حل بهيمة الأنعام :
( حرمت عليكم الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع - إلا ما ذكيتم - وما ذبح على النصب ، وأن تستقسموا بالأزلام . . ذلكم فسق . . اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينا . . فمن اضطر في مخمصة - غير متجانف لإثم - فإن الله غفور رحيم ) .
والميتة والدم ولحم الخنزير ، سبق بيان حكمها ، وتعليل هذا الحكم في حدود ما يصل إليه العلم البشري بحكمة التشريع الإلهي ، عند استعراض آية سورة البقرة الخاصة بهذه المحرمات [ ص 156 - ص157 من الجزء الثاني من الظلال ] وسواء وصل العلم البشري إلى حكمة هذا التحريم أم لم يصل ، فقد قرر العلم الإلهي أن هذه المطاعم ليست طيبة ؛ وهذا وحده يكفي . فالله لا يحرم إلا الخبائث . وإلا ما يؤذي الحياة البشرية في جانب من جوانبها . سواء علم الناس بهذا الأذى أو جهلوه . . وهل علم الناس كل ما يؤذي وكل ما يفيد ؟ !
وأما ما أهل لغير الله به ، فهو محرم لمناقضته ابتداء للإيمان . فالإيمان يوحد الله ، ويفرده - سبحانه - بالألوهية ويرتب على هذا التوحيد مقتضياته . وأول هذه المقتضيات أن يكون التوجه إلى الله وحده بكل نية وكل عمل ؛ وأن يهل باسمه - وحده - في كل عمل وكل حركة ؛ وأن تصدر باسمه - وحده - كل حركة وكل عمل . فما يهل لغير الله به ؛ وما يسمى عليه بغير اسم الله [ وكذلك ما لا يذكر اسم الله عليه ولا اسم أحد ] حرام ؛ لأنه ينقض الإيمان من أساسه ؛ ولا يصدر ابتداء عن إيمان . . فهو خبيث من هذه الناحية ؛ يلحق بالخبائث الحسية من الميتة والدم ولحم الخنزير .
وأما المنخنقة [ وهي التي تموت خنقا ] والموقوذة [ وهي التي تضرب بعصا أو خشبة أو حجر فتموت ] والمتردية [ وهي التي تتردى من سطح أو جبل أو تتردى في بئر فتموت ] والنطيحة [ وهي التي تنطحها بهيمة فتموت ] وما أكل السبع [ وهي الفريسة لأي من الوحش ] . . فهي كلها أنواع من الميتة إذا لم تدرك بالذبح وفيها الروح : [ إلا ما ذكيتم ] فحكمها هو حكم الميتة . . إنما فصل هنا لنفي الشبهة في أن يكون لها حكم مستقل . . على أن هناك تفصيلا في الأقوال الفقهية واختلافا في حكم " التذكية " ، ومتى تعتبر البهيمة مذكاة ؛ فبعض الأقوال يخرج من المذكاة ، البهيمة التي يكون ما حل بها من شأنه أن يقتلها سريعا - أو يقتلها حتما - فهذه حتى لو أدركت بالذبح لا تكون مذكاة . بينما بعض الأقوال يعتبرها مذكاة متى أدركت وفيها الروح ، أيا كان نوع الإصابة . . والتفصيل يطلب في كتب الفقة المختصة . .
واما ما ذبح على النصب - وهي أصنام كانت في الكعبة وكان المشركون يذبحون عندها وينضحونها بدماء الذبيحة في الجاهلية ، ومثلها غيرها في أي مكان - فهو محرم بسبب ذبحه على الأصنام - حتى لو ذكر اسم الله عليه ، لما فيه من معنى الشرك بالله .
ويبقى الاستقسام بالأزلام . والأزلام : قداح كانوا يستشيرونها في الإقدام على العمل أو تركه . وهي ثلاثة في قول ، وسبعة في قول . وكانت كذلك تستخدم في الميسر المعروف عند العرب ؛ فتقسم بواسطتها الجزور - أي الناقة التي يتقامرون عليها - إذ يكون لكل من المتقامرين قدح ، ثم تدار ، فإذا خرج قدح أحدهم كان له من الجزور بقدر ما خصص لهذا القدح . . فحرم الله الاستقسام بالأزلام - لأنه نوع من الميسر المحرم - وحرم اللحوم التي تقسم عن هذا الطريق . .
( فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم ) .
فالمضطر من الجوع - وهو المخمصة - الذي يخشى على حياته التلف ، له أن يأكل من هذه المحرمات ؛ ما دام أنه لا يتعمد الإثم ، ولا يقصد مقارفة الحرام . وتختلف آراء الفقهاء في حد هذا الأكل : هل هو مجرد ما يحفظ الحياة . أو هو ما يحقق الكفاية والشبع . أو هو ما يدخر كذلك لأكلات أخرى إذا خيف انقطاع الطعام . . فلا ندخل نحن في هذه التفصيلات . . وحسبنا أن ندرك ما في هذا الدين من يسر ، وهو يعطى للضرورات أحكامها بلا عنت ولا حرج . مع تعليق الأمر كله بالنية المستكنة ؛ والتقوى الموكولة إلى الله . . . فمن أقدم مضطرا ، لا نية له في مقارفة الحرام ولا قصد ، فلا إثم عليه إذن ولا عقاب :
وننتهي من بيان المحرم من المطاعم لنقف وقفة خاصة أمام ما تخلل آية التحريم من قوله تعالى :
اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون . اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . .
وهي آخر ما نزل من القرآن الكريم ، ليعلن كمال الرسالة ، وتمام النعمة ، فيحس عمر - رضي الله عنه - ببصيرته النافذة وبقلبه الواصل - أن أيام الرسول [ ص ] على الأرض معدودة . فقد أدى الأمانة ، وبلغ الرسالة ؛ ولم يعد إلا لقاء الله . فيبكي - رضوان الله عليه - وقد أحس قلبه دنو يوم الفراق .
هذه الكلمات الهائلة ترد ضمن آية موضوعها التحريم والتحليل لبعض الذبائح ؛ وفي سياق السورة التي تضم تلك الأغراض التي أسلفنا بيانها . . ما دلالة هذا ؟ إن بعض دلالته أن شريعة الله كل لا يتجزأ . كل متكامل . سواء فيه ما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ وما يختص بالشعائر والعبادات ؛ وما يختص بالحلال والحرام ؛ ومايختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . وأن هذا في مجموعة هو " الدين " الذي يقول الله عنه في هذه الآية : إنه أكمله . وهو " النعمة " التي يقول الله للذين آمنوا : إنه أتمها عليهم . وأنه لا فرق في هذا الدين بين ما يختص بالتصور والاعتقاد ؛ وما يختص بالشعائر والعبادات ؛ وما يختص بالحلال والحرام ؛ وما يختص بالتنظيمات الاجتماعية والدولية . . فكلها في مجموعها تكون المنهج الرباني الذي ارتضاه الله للذين آمنوا ؛ والخروج عن هذا المنهج في جزئية منه ، كالخروج عليه كله ، خروج على هذا " الدين " وخروج من هذا الدين بالتبعية . .
والأمر في هذا يرجع إلى ما سبق لنا تقريره ؛ من أن رفض شيء من هذا المنهج ، الذي رضيه الله للمؤمنين ، واستبدال غيره به من صنع البشر ؛ معناه الصريح هو رفض ألوهية الله - سبحانه - وإعطاء خصائص الألوهية لبعض البشر ؛ واعتداء على سلطان الله في الأرض ، وادعاء للألوهية بادعاء خصيصتها الكبرى . . الحاكمية . . وهذا معناه الصريح الخروج على هذا الدين ؛ والخروج من هذا الدين بالتبعية . .
( اليوم يئس الذين كفروا من دينكم ) . .
يئسوا أن يبطلوه ، أو ينقصوه ، أو يحرفوه . وقد كتب الله له الكمال ؛ وسجل له البقاء . . ولقد يغلبونعلى المسلمين في موقعة ، أو في فترة ، ولكنهم لا يغلبون على هذا الدين . فهو وحده الدين الذي بقي محفوظا لا يناله الدثور ، ولا يناله التحريف أيضا ، على كثرة ما أراد أعداؤه أن يحرفوه ؛ وعلى شدة ما كادوا له ، وعلى عمق جهالة أهله به في بعض العصور . . غير أن الله لا يخلي الأرض من عصبة مؤمنة ؛ تعرف هذا الدين ؛ وتناضل عنه ، ويبقى فيها كاملا مفهوما محفوظا ؛ حتى تسلمه الى من يليها . وصدق وعد الله في يأس الذين كفروا من هذا الدين !
فما كان للذين كفروا أن ينالوا من هذا الدين في ذاته أبدا . وما كان لهم أن ينالوا من أهله إلا أن ينحرف أهله عنه ؛ فلا يكونوا هم الترجمة الحية له ؛ ولا ينهضوا بتكاليفه ومقتضياته ؛ ولا يحققوا في حياتهم نصوصه وأهدافه . .
وهذا التوجيه من الله للجماعة المسلمة في المدينة ، لا يقتصر على ذلك الجيل ؛ إنما هو خطاب عام للذين آمنوا في كل زمان وفي كل مكان . . نقول : للذين آمنوا . . الذين يرتضون ما رضيه الله لهم من هذا الدين ، بمعناه الكامل الشامل ؛ الذين يتخذون هذا الدين كله منهجا للحياة كلها . . وهؤلاء - وحدهم - هم المؤمنون . .
( اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . .
اليوم . . الذي نزلت فيه هذه الآية في حجة الوداع . . أكمل الله هذا الدين . فما عادت فيه زيادة لمستزيد . وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل . ورضي لهم " الإسلام " دينا ؛ فمن لا يرتضيه منهجا لحياته - إذن - فإنما يرفض ما ارتضاه الله للمؤمنين .
ويقف المؤمن أمام هذه الكلمات الهائلة ؛ فلا يكاد ينتهي من استعراض ما تحمله في ثناياها من حقائق كبيرة ، وتوجيهات عميقة ، ومقتضيات وتكاليف . .
إن المؤمن يقف أولا : أمام إكمال هذا الدين ؛ يستعرض موكب الإيمان ، وموكب الرسالات ، وموكب الرسل ، منذ فجر البشرية ، ومنذ أول رسول - آدم عليه السلام - إلى هذه الرسالة الأخيرة . رسالة النبي الأمي إلى البشر أجمعين . . فماذا يرى ؟ . . يرى هذا الموكب المتطاول المتواصل . موكب الهدى والنور . ويرى معالم الطريق ، على طول الطريق . ولكنه يجد كل رسول - قبل خاتم النبيين - إنما أرسل لقومه . ويرى كل رسالة - قبل الرسالة الأخيرة - إنما جاءت لمرحلة من الزمان . . رسالة خاصة ، لمجموعة خاصة ، في بيئة خاصة . . ومن ثم كانت كل تلك الرسالات محكومة بظروفها هذه ؛ متكيفة بهذه الظروف . . كلها تدعو إلى إله واحد - فهذا هو التوحيد - وكلها تدعو إلى عبودية واحدة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الدين - وكلها تدعو إلى التلقي عن هذا الإله الواحد والطاعة لهذا الإله الواحد - فهذا هو الإسلام - ولكن لكل منها شريعة للحياة الواقعية تناسب حالة الجماعة وحالة البيئة وحالة الزمان والظروف . .
حتى إذا أراد الله أن يختم رسالاته إلى البشر ؛ أرسل إلى الناس كافة ، رسولا خاتم النبيين برسالة " للإنسان " لا لمجموعة من الأناسي في بيئة خاصة ، في زمان خاص ، في ظروف خاصة . . رسالة تخاطب " الإنسان " من وراء الظروف والبيئات والأزمنة ؛ لأنها تخاطب فطرة الإنسان التي لا تتبدل ولا تتحور ولا ينالها التغيير : ( فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ) . . وفصل في هذه الرسالة شريعة تتناول حياة " الإنسان " من جميع أطرافها ، وفي كل جوانب نشاطها ؛ وتضع لها المبادى الكلية والقواعد الأساسيةفيما يتطور فيها ويتحور بتغير الزمان والمكان ؛ وتضع لها الأحكام التفصيلية والقوانين الجزئية فيما لا يتطور ولا يتحور بتغير الزمان والمكان . . وكذلك كانت هذه الشريعة بمبادئها الكلية وبأحكامها التفصيلية محتوية كل ما تحتاج إليه حياة " الإنسان " منذ تلك الرسالة إلى آخر الزمان ؛ من ضوابط وتوجيهات وتشريعات وتنظيمات ، لكي تستمر ، وتنمو ، وتتطور ، وتتجدد ؛ حول هذا المحور وداخل هذا الإطار . . وقال الله - سبحانه - للذين آمنوا :
( اليوم أكملت لكم دينكم . وأتممت عليكم نعمتي . ورضيت لكم الإسلام دينًا ) . .
فأعلن لهم إكمال العقيدة ، وإكمال الشريعة معا . . فهذا هو الدين . . ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين - بمعناه هذا - نقصا يستدعي الإكمال . ولا قصورا يستدعي الإضافة . ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير . . وإلا فما هو بمؤمن ؛ وما هو بمقر بصدق الله ؛ وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين !
إن شريعة ذلك الزمان الذي نزل فيه القرآن ، هي شريعة كل زمان ، لأنها - بشهادة الله - شريعة الدين الذي جاء " للإنسان " في كل زمان وفي كل مكان ؛ لا لجماعة من بني الإنسان ، في جيل من الأجيال ، في مكان من الأمكنة ، كما كانت تجيء الرسل والرسالات .
الأحكام التفصيلية جاءت لتبقى كما هي . والمبادى ء الكلية جاءت لتكون هي الإطار الذي تنمو في داخله الحياة البشرية إلى آخر الزمان ؛ دون أن تخرج عليه ، إلا أن تخرج من إطار الإيمان !
والله الذي خلق " الإنسان " ويعلم من خلق ؛ هو الذي رضي له هذا الدين ؛ المحتوى على هذه الشريعة . فلا يقول : إن شريعة الأمس ليست شريعة اليوم ، إلا رجل يزعم لنفسه أنه أعلم من الله بحاجات الإنسان ؛ وبأطوار الإنسان !
ويقف المؤمن ثانيا : أمام إتمام نعمة الله على المؤمنين ، بإكمال هذا الدين ؛ وهي النعمة التامة الضخمة الهائلة . النعمة التي تمثل مولد " الإنسان " في الحقيقة ، كما تمثل نشأته واكتماله . " فالإنسان " لا وجود له قبل أن يعرف إلهه كما يعرفه هذا الدين له . وقبل أن يعرف الوجود الذي يعيش فيه كما يعرفه له هذا الدين . وقبل أن يعرف نفسه ودوره في هذا الوجود وكرامته على ربه ، كما يعرف ذلك كله من دينه الذي رضيه له ربه . و " الإنسان " لا وجود له قبل أن يتحرر من عبادة العبيد بعبادة الله وحده ؛ وقبل أن ينال المساواة الحقيقية بأن تكون شريعته من صنع الله وبسلطانه لا من صنع أحد ولا بسلطانه .
إن معرفة " الإنسان " بهذه الحقائق الكبرى كما صورها هذا الدين هي بدء مولد " الإنسان " . . إنه بدون هذه المعرفة على هذا المستوى ؛ يمكن أن يكون " حيوانًا أو أن يكون " مشروع إنسان " في طريقه إلى التكوين ! ولكنه لا يكون " الإنسان " في أكمل صورة للإنسان ، إلا بمعرفة هذه الحقائق الكبيرة كما صورها القرآن . . والمسافة بعيدة بعيدة بين هذه الصورة ، وسائر الصور التي اصطنعها البشر في كل زمان !
وإن تحقيق هذه الصورة في الحياة الإنسانية ، لهو الذي يحقق " للإنسان " " إنسانيته " كاملة . . يحققها له وهو يخرجه بالتصور الاعتقادي ، في الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، من دائرة الحس الحيواني الذي لا يدرك إلا المحسوسات ، إلى دائرة " التصور " الإنساني ، الذي يدرك المحسوسات وما وراء المحسوسات .
عالم الشهادة وعالم الغيب . . عالم المادة وعالم ما وراء المادة . . وينقذه من ضيق الحس الحيواني المحدود !
ويحققها له وهو يخرجه بتوحيد الله ، من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده ، والتساوي والتحرر والاستعلاء أمام كل من عداه . فإلى الله وحده يتجه بالعبادة ، ومن الله وحده يتلقى المنهج والشريعة والنظام ، وعلى الله وحده يتوكل ومنه وحده يخاف . . ويحققها له ، بالمنهج الرباني ، حين يرفع اهتماماته ويهذب نوازعه ، ويجمع طاقته للخير والبناء والارتقاء ، والاستعلاء على نوازع الحيوان ، ولذائذ البهيمة وانطلاق الأنعام !
ولا يدرك حقيقة نعمة الله في هذا الدين ، ولا يقدرها قدرها ، من لم يعرف حقيقة الجاهلية ومن لم يذق ويلاتها - والجاهلية في كل زمان وفي كل مكان هي منهج الحياة الذي لم يشرعه الله - فهذا الذي عرف الجاهلية وذاق ويلاتها . . ويلاتها في التصور والاعتقاد ، وويلاتها في واقع الحياة . . هو الذي يحس ويشعر ، ويرى ويعلم ، ويدرك ويتذوق حقيقة نعمة الله في هذا الدين . .
الذي يعرف ويعاني ويلات الضلال والعمى ، وويلات الحيرة والتمزق ، وويلات الضياع والخواء ، في معتقدات الجاهلية وتصوراتها في كل زمان وفي كل مكان . . هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الإيمان ؛
والذي يعرف ويعاني ويلات الطغيان والهوى ، وويلات التخبط والاضطراب ، وويلات التفريط والإفراط في كل أنظمة الحياة الجاهلية ، هو الذي يعرف ويتذوق نعمة الحياة في ظل الإيمان بمنهج الإسلام .
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يعرفون ويدركون ويتذوقون هذه الكلمات . لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم ، في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن . .
كانوا قد ذاقوا الجاهلية . . ذاقوا تصوراتها الاعتقادية . وذاقوا أوضاعها الاجتماعية . وذاقوا أخلاقها الفردية والجماعية . وبلوا من هذا كله ما يدركون معه حقيقة نعمة الله عليهم بهذا الدين ؛ وحقيقة فضل الله عليهم ومنته بالإسلام .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية ؛ وسار بهم في الطريق الصاعد ، إلى القمة السامقة - كما فصلنا ذلك في مستهل سورة النساء - فإذا هم على القمة ينظرون من عل إلى سائر أمم الأرض من حولهم ؛ نظرتهم إلى ماضيهم في جاهليتهم كذلك .
كان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التصورات الاعتقادية حول ربوبية الأصنام ، والملائكة ، والجن ، والكواكب ، والأسلاف ؛ وسائر هذه الأساطير الساذجة والخرافات السخيفة ؛ لينقلهم إلى أفق التوحيد . إلى أفق الإيمان بإله واحد ، قادر قاهر ، رحيم ودود ، سميع بصير ، عليم خبير . عادل كامل . قريب مجيب . لا واسطة بينه وبين أحد ؛ والكل له عباد ، والكل له عبيد . . ومن ثم حررهم من سلطان الكهانة ، ومن سلطان الرياسة ، يوم حررهم من سلطان الوهم والخرافة . .
وكان الإسلام قد التقطهم من سقح الجاهلية في الأوضاع الاجتماعية . من الفوارق الطبقية ؛ ومن العادات الزرية ؛ ومن الاستبداد الذي كان يزاوله كل من تهيأ له قدر من السلطان [ لا كما هو سائد خطأ من أن الحياة العربية كانت تمثل الديمقراطية ! ] .
" فقد كانت القدرة على الظلم قرينة بمعنى العزة والجاه في عرف السيد والمسود من أمراء الجزيرة من أقصاها في الجنوب إلى أقصاها في الشمال . وما كان الشاعر النجاشي إلا قادحا مبالغا في القدح حين استضعف مهجوه ، لأن :
قبيلته لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
" وما كان حجر بن الحارث إلا ملكا عربيا حين سام بني أسد أن يستعبدهم بالعصا ، وتوسل إليه شاعرهم عبيد بن الأبرص حيث يقول :
أنت المملك فيهم وهم العبيد إلى القيامه *** ذلوا لسوطك مثلما ذل الأشيقر ذو الخزامه
" وكان عمر بن هند ملكا عربيا حين عود الناس أن يخاطبهم من وراء ستار ؛ وحين استكثر على سادة القبائل أن تأنف أمهاتهم من خدمته في داره " .
" وكان النعمان بن المنذر ملكا عربيا حين بلغ به العسف أن يتخذ لنفسه يوما للرضى يغدق فيه النعم على كل قادم إليه خبط عشواء ؛ ويوما للغضب يقتل فيه كل طالع عليه من الصباح إلى المساء " .
" وقد قيل عن عزة كليب وائل : إنه سمي بذلك لأنه كان يرمي الكليب حيث يعجبه الصيد ، فلا يجسر أحد على الدنو من مكان يسمع فيه نباحه . وقيل : " لا حر بوادي عوف " لأنه من عزته كان لا يأوي بواديه من يملك حرية في جواره . فكلهم أحرار في حكم العبيد . . " .
وكان الإسلام قد التقطهم من سفح الجاهلية في التقاليد والعادات والأخلاق والصلات الاجتماعية . . كان قد التقطهم من سفح البنت الموءودة ، والمرأة المنكودة ، والخمر والقمار والعلاقات الجنسية الفوضوية ، والتبرج والاختلاط مع احتقار المرأة ومهانتها ، والثارات والغارات والنهب والسلب ، مع تفرق الكلمة وضعف الحيلة أمام أي هجوم خارجي جدي ، كالذي حدث في عام الفيل من هجوم الأحباش على الكعبة ، وتخاذل وخذلان القبائل كلها ، هذه القبائل التي كان بأسها بينها شديدا !
وكان الإسلام قد أنشأ منهم أمة ؛ تطل من القمة السامقة على البشرية كلها في السفح ، في كل جانب من جوانب الحياة . في جيل واحد . عرف السفح وعرف القمة . عرف الجاهلية وعرف الإسلام . ومن ثم كانوا يتذوقون ويدركون معنى قول الله لهم :
( اليوم أكملت لكم دينكم ، وأتممت عليكم نعمتي ، ورضيت لكم الإسلام دينًا . . )
ويقف المؤمن ثالثا : أمام ارتضاء الله الإسلام دينا للذين آمنوا . . يقف أمام رعاية الله - سبحانه - وعنايته بهذه الأمة ، حتى ليختار لها دينها ويرتضيه . . وهو تعبير يشي بحب الله لهذه الأمة ورضاه عنها ، حتى ليختار لها منهج حياتها .
وإن هذه الكلمات الهائلة لتلقي على عاتق هذه الأمة عبئا ثقيلا ، يكافى ء هذه الرعاية الجليلة . . أستغفر الله . . فما يكافى ء هذه الرعاية الجليلة من الملك الجليل شيء تملك هذه الأمة بكل أجيالها أن تقدمه . . وإنما هو جهد الطاقة في شكر النعمة ، ومعرفة المنعم . . وإنما هو إدراك الواجب ثم القيام بما يستطاع منه ، وطلب المغفرة والتجاوز عن التقصير والقصور فيه .
إن ارتضاء الله الإسلام دينا لهذه الأمة ، ليقتضي منها ابتداء أن تدرك قيمة هذا الاختيار . ثم تحرص على الاستقامة على هذا الدين جهد ما في الطاقة من وسع واقتدار . . وإلا فما أنكد وما أحمق من يهمل - بله أن يرفض - ما رضيه الله له ، ليختار لنفسه غير ما اختاره الله ! . . وإنها - إذن - لجريمة نكدة ؛ لا تذهب بغير جزاء ، ولا يترك صاحبها يمضي ناجيا أبدا وقد رفض ما ارتضاه له الله . . ولقد يترك الله الذين لم يتخذوا الإسلام دينا لهم ، يرتكبون ما يرتكبون ويمهلهم إلى حين . . فأما الذين عرفوا هذا الدين ثم تركوه أو رفضوه . . واتخذوا لأنفسهم مناهج في الحياة غير المنهج الذي ارتضاه لهم الله . . فلن يتركهم الله أبدا ولن يمهلهم أبدا ، حتى يذوقوا وبال أمرهم وهم مستحقون !
ولا نملك أن نمضي أكثر من هذا في هذه الوقفات أمام تلك الكلمات الهائلة . فالأمر يطول . فنقنع بهذه اللمحات ، في هذه الظلال ، ويمضي مع سياق السورة إلى مقطع جديد :
{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ إِلاّ مَا ذَكّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنّ اللّهَ غَفُورٌ رّحِيمٌ } . .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : حرّم الله عليكم أيها المؤمنون الميتة ، والميتة : كلّ ما له نَفْس سائلة من دوابّ البرّ وطيره ، مما أباح الله أكلها ، وأهليها ووحشيّها ، فارقتها روحها بغير تذكية . وقد قال بعضهم : الميتة : هو كلّ ما فارقته الحياة من دوابّ البرّ وطيره بغير تذكية مما أحلّ الله أكله . وقد بينا العلة الموجبة صحة القول بما قلنا في ذلك في كتابنا : كتاب «لطيف القول في الأحكام » . وأما الدم ، فإن الدم المسفوح دون ما كان منه غير مسفوح ، لأن الله جلّ ثناؤه قال : قُلْ لا أجِدُ فيما أُوحِيَ إليّ مُحَرّما على طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إلاّ أنْ يَكُونَ مَيْتَةً أوْ دَما مَسْفُوحا أوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ : فأما ما كان قد صار في معنى اللحم كالكبد والطّحال ، وما كان في اللحم غير منسفح ، فإن ذلك غير حرام ، لإجماع الجميع على ذلك .
وأما قوله : ولَحْمُ الخِنْزِيرِ فإنه يعني : وحرّم عليكم لحم الخنزير ، أهليه وبرّيه . فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم ، والمراد منهما الخصوص وأما لحم الخنزير ، فإن ظاهره كباطنه وباطنه كظاهره ، حرام جميعه لم يخصص منه شيء .
وأما قوله ومَا أهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فإنه يعني : وما ذكر عليه غير اسم الله . وأصله من استهلال الصبيّ وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمه ، ومنه إهلال المحرّم بالحجّ إذا لَبّى به ، ومنه قول ابن أحمر :
يُهلّ بالفَرْقَدِ رُكْبانُها ***كمَا يُهِلّ الرّاكِبُ المُعْتَمِرْ
وإنما عنى بقوله : وَما أُهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ : وما ذُبح للاَلهة وللأوثان يسمّى عليه غير اسم الله . وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى فكرهنا إعادته .
القول في تأويل قوله تعالى : وَالمُنْخَنِقَةُ .
اختلفت أهل التأويل في صفة الانخناق الذي عَنَى الله جلّ ثناؤه بقوله وَالمُنْخَنِقَةُ . فقال بعضهم بما :
حدثنا محمد بن الجسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَالمُنْخَنِقَةُ قال : التي تُدخِل رأسَها بين شعبتين من شجرة ، فتختنق فتموت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، في المنخنقة ، قال : التي تختنق فتموت .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : حدثنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَالمُنْخَنِقَةُ التي تموت في خِنَاقها .
وقال آخرون : هي التي تُوْثَق فيقتلها بالخناق وثاقها . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن الحسن ، قال : سمعا أبا معاذ ، يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالمُنْخَنِقَةُ قال : الشاة توثق ، فيقتلها خناقها ، فهي حرام .
وقال آخرون : بل هي البهيمة من النّعمَ ، كان المشركون يخنقونها حتى تموت ، فحرّم الله أكلها . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَالمُنْخَنِقَةُ : التي تُخنق فتموت .
حدثنا بشر قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَالمُنْخَنِقَةُ : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة ، حتى إذا ماتت أكلوها .
وأولى هذه الأقوال بالصواب ، قول من قال : هي التي تختنق ، إما في وِثاقها ، وإما بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه فتختنق حتى تموت .
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره ، لأن المنخنقة : هي الموصوفة بالانخناق دون خنق عيرها لها ، ولو كان معنيا بذلك أنها مفعول بها لقيل : والمخنوقة ، حتى يكون معنى الكلام ما قالوا .
القول في تأويل قوله تعالى : وَالمَوْقُوذَةُ :
يعني جلّ ثناؤه بقوله وَالمَوْقُوذَةُ : والميتة وقيذا ، يقال منه : وَقَذَه يَقِذُهِ وَقْذا : إذا ضربه حتى أشرف على الهلاك ، ومنه قول الفرزدق :
شَغّارَةً تقِذُ الفَصِيلَ برِجْلها ***فَطّارَةً لِقَوَادِمِ الأبْكارِ
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَالمَوْقُوذَةُ قال : الموقوذة التي تضرب بالخشب حتى يقذها فتموت .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَالمَوْقُوذَةُ كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصا ، حتى إذا ماتت أكلوها .
حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا شعبة ، عن قتادة في قوله : وَالمَوْقُوذَةُ قال : كانوا يضربونها حتى يقذوها ، ثم يأكلوها .
حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَالمَوْقُوذَةُ التي توقذَ فتموت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك ، قال : المَوْقُوذَةُ : التي تضرب حتى تموت .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَالمَوْقُوذَةُ قال : هي التي تضرب فتموت .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وَالمَوْقُوذَةُ : كانت الشاة أو غيرها من الأنعام تضرب بالخشب لاَلهتهم حتى يقتلوها فيأكلوها .
حدثنا العباس بن الوليد ، قال : أخبرني عقبة بن علقمة ، ثني إبراهيم بن أبي عبلة ، قال : ثنء نعيم بن سلامة ، عن أبي عبد الله الصنابحي ، قال : ليست الموقوذة إلاّ في مالك ، وليس في الصيد وقيذ .
القول في تأويل قوله تعالى : والمُتَرَدّيَةُ .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : وحرّمت عليكم الميتة تردّيا من جبل ، أو في بئر ، أو غير ذلك . وتردّيها : رميُها بنفسها من مكان عالٍ مشرف إلى سفله .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية بن صالح ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : والمُتَرَدّيَةُ قال : التي تتردّى من الجبل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : والمُتَرَدّيَةُ : كانت تتردّى في البئر فتموت فيأكلونها .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : والمُتَرَدّيَةُ قال : التي تردّت فِي البئر .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : والمُتَرَدّيَةُ قال : هي التي تَرَدّى من الجبل أو في البئر ، فتموت .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : والمُتَرَدّيَةُ : التي تَرَدّى من الجبل فتموت .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ ، يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : والمُتَرَدّيَةُ قال : التي تخرّ في ركيّ أو من رأس جبل فتموت .
القول في تأويل قوله تعالى : وَالنّطِيحَةُ .
يعني بقوله النّطِيحَةُ : الشاة التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح بغير تذكية ، فحرم الله جلّ ثناؤه ذلك على المؤمنين إن لم يدركوا ذكاته قبل موته . وأصل النطيحة : المنطوحة ، صرفت من مفعولة إلى فعيلة .
فإن قال قائل : وكيف أثبتت الهاء هاء التأنيث فيها ، وأنت تعلم أن العرب لا تكاد تثبت الهاء في نظائرها إذا صرفوها صرف النطيحة من مفعول إلى فعيل ، إنما تقول : لحية دهين ، وعين كحيل ، وكفّ خضيب ، ولا يقولون كفّ خضيبة ولا عين كحيلة ؟ قيل : قد اختلفت أهل العربية في ذلك ، فقال بعض نحويي البصرة : أثبتت فيها الهاء ، أعني في النطيحة ، لأنها جعلت كالاسم مثل الطويلة والطريقة فكأن قائل هذا القول وجه النطيحة إلى معنى الناطحة . فتأويل الكلام على مذهبه : وحرمت عليكم الميتة نطاحا ، كأنه عنى : وحرّمت عليكم الناطحة التي تموت من نطاحها . وقال بعض نحويي الكوفة : إنما تحذف العرب الهاء من الفعيلة المصروفة عن المفعول إذا جعلتها صفة لاسم ، قد تقدّمها ، فتقول : رأينا كفا خضيبا وعينا كحيلاً . فأما إذا حذفت الكفّ والعين والاسم الذي يكون فعيل نعتا لها واجتزءوا بفعيل منها ، أثبتوا فيه هاء التأنيث ، ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر ، فتقول : رأينا كحيلة وخضيبة وأكيلة السبع ، قالوا : ولذلك أدخلت الهاء في النطيحة ، لأنها صفة المؤنث ، ولو أسقطت منها لم يُدْر أهي صفة مؤنث أو مذكر . وهذا القول هو أولى القولين في ذلك بالصواب الشائع من أقوال أهل التأويل ، بأن معنى النطيحة : المنطوحة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابي عباس ، قوله : وَالنّطيحَة قال : الشاة تَنْطح الشاة .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أحمد الزّبيري ، عن قيس ، عن أبي إسحاق ، عن أبي ميسرة ، قال : كان يقرأ : «والمنطوحة » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَالنّطِيحَةُ : الشاتان تنتطحان فتموتان .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَالنّطِيحَة : هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت . يقول : هذا حرام ، لأن ناسا من العرب كانوا يأكلونه .
حدثنا بشر ، قال حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : والنّطِيحَةُ كان الكبشان ينتطحان ، فيموت أحدهما ، فيأكلونه .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا روح ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : والنّطِيحَة الكبشان ينتطحان فيقتل أحدهما الاَخر ، فيأكلونه .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : والنّطِيحَةُ قال : الشاة تنطح الشاة فتموت .
القول في تأويل قوله تعالى : وَما أكَلَ السّبُعُ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : وَما أكَلَ السّبُعُ : وحرّم عليكم ما أكل السبع غير المعلّم من الصوائد . وكذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : وَما أكَلَ السّبُعُ يقول : ما أخذ السبع .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو خالد الأحمر ، عن جويبر ، عن الضحاك : وَما أكَلَ السّبُعُ يقول : ما أخذ السبع .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما أكَلَ السّبُعُ قال : كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئا من هذا أو أكل منه ، أكلوا ما بقي .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبو أحمد الزبيري ، عن قيس ، عن عطاء بن السائب ، عن أبي الربيع ، عن ابن عباس أنه قرأ : وأكيلُ السّبُعِ .
القول في تأويل قوله تعالى : إلاّ ما ذَكّيْتُمْ .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : إلاّ ما ذَكّيْتُمْ : إلاّ ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهورا .
ثم اختلفت أهل التأويل فيما استثنى الله بقوله : إلاّ ما ذَكّيْتُمْ فقال بعضهم : استثنى من جميع ما سمى الله تحريمه ، من قوله وَما أُهِلّ لغَيْرِ اللّهِ بِهِ والمُنْخَنِقَةُ وَالمَوقُوذَةُ والمُتَرَدّيَةُ والنّطِيحَةُ وَما أكَلَ السّبُعُ . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : إلاّ ما ذَكّيْتُمْ يقول : ما أدركت ذكاته من هذا كله ، يتحرّك له ذنب أو تطرف له عين ، فاذبح واذكر اسم الله عليه فهو حلال .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن أشعث ، عن الحسن : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدّمُ ولَحْمُ الخِنْزِيرِ وَما أُهلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ والمُنْخَنِقَةُ وَالمَوقُوذَةُ والمُتَرَدّيَةُ والنّطيحَة وَما أكَلَ السّبُعُ إلاّ ما ذَكّيْتُمْ قال الحسن : أيّ هذا أدركت ذكاته فذكه وكُلْ . فقلت : يا أبا سعيد كيف أعرف ؟ قال : إذا طَرَفت بعينها أو ضربت بذَنَبها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : إلاّ ما ذَكّيْتُمْ قال : فكلّ هذا الذي سماه الله عزّ وجلّ ههنا ما خلا لحم الخنزير إذا أدركت منه عينا تطرف أو ذنبا يتحرّك أو قائمة تركُض ، فذكيتَه ، فقد أحلّ الله لك ذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : إلاّ ما ذَكّيْتُمْ من هذا كله ، فإذا وجدتها تطرف عينها ، أو تحرك أذنها من هذا كله ، فهي لك حلال .
حدثنا حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني هشيم وعباد ، قالا : أخبرنا حجاج ، عن حصين ، عن الشعبي ، عن الحارث ، عن عليّ ، قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرّك يدا أو رجلاً فكُلْها .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا معمر ، عن إبراهيم ، قال : إذا أكل السبع من الصيد أو الوقيذة ، أو النطيحة أو المتردية فأدركت ذكاته ، فكُلْ .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا مصعب بن سلام التميمي ، قال : حدثنا جعفر بن محمد ، عن أبيه ، عن عليّ بن أبي طالب ، قال : إذا ركضت برجلها أو طَرَفت بعينها أو حرّكت ذنبها ، فقد أجزأ .
حدثنا ابن المثنى وابن بشار ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : أخبرنا ابن جريج ، قال : أخبرني ابن طاوس ، عن أبيه ، قال : إذا ذبحتَ فمصعتْ بذنبها أو تحرّكت فقدحلت لك . أو قال : فحَسْبه .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن حميد ، عن الحسن ، قال : إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها ، أو تركض برجلها ، أو تمصع بذنبها ، فاذبح وكل .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج ، قال : حدثنا حماد ، عن قتادة ، بمثله .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا سويد ، قال : أخبرنا ابن المبارك ، عن ابن جريج ، عن أبي الزبير ، أنه سمع عبيد بن عمير ، يقول : إذا طرفت بعينها ، أو مصعت بذنبها ، أو تحرّكت ، فقد حلت لك .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سلمان ، قال : سمعت الضحاك يقول : كان أهل الجاهلية يأكلون هذا ، فحرّم الله في الإسلام إلا ما ذكي منه ، فما أدرك فتحرّك منه رجل أو ذنب أو طرف فذكي ، فهو حلال .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ وَالدّمُ وَلحْمُ الخَنْزِيرِ وقوله : وَالمُنْخَنِقَةُ وَالمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدّيَةُ والنّطِيحَةُ . . . الاَية ، وَما أكَلَ السّبُعُ إلاّ ما ذكيّتْمْ هذا كله محرّم ، إلا ما ذكي من هذا .
فتأويل الاَية على قول هؤلاء : حرّمت الموقوذة والمتردية إن ماتت التردّي والوقذ والنطح وفَرْس السبع ، إلا أن تدركوا ذكاتها ، فتدركوها قبل موتها ، فتكون حنيئذٍ حلالاً أكلها .
وقال آخرون : هو استثناء من التحريم ، وليس باستثناء من المحرّمات التي ذكرها الله تعالى في قوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ لأن الميتة لا ذكاة لها ولا للخنزير . قالوا : وإنما معنى الاَية : حرّمت عليكم المتية والدم ، وسائر ما سمينا مع ذلك ، إلا ما ذكيّتم مما أحله الله لكم بالتذكية ، فإنه لكم حلال . وممن قال ذلك جماعة من أهل المدينة . ذكر بعض من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال مالك : وسئل عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاوها ، فقال مالك : لا أرى أن تذكّي ولا يؤكل أيّ شيء يذكّي منها .
حدثني يونس ، عن أشهب ، قال : سئل مالك ، عن السّبُع يعدو على الكبش ، فيدقّ ظهره ، أترى ن يذكّي قبل أن يموت فيؤكل ؟ إن كان بلغ السّحْر ، فلا أرى أن يؤكل ، وإن كان إنما أصاب أطرافه ، فلا أرى بذلك بأسا . قيل له : وثب عليه فدقّ ظهره ؟ قال : لا يعجبني أن يؤكل ، هذا لا يعيش منه . قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيشقّ بطنها ولا يشقّ الأمعاء ؟ قال : إذا شقّ بطنها فلا أرى أن تؤكل .
وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله : إلاّ ما ذَكّيْتُمْ استثناء منقطعا ، فيكون تأويل الاَية : حرّمت عليكم الميتة والدم ، وسائر ما ذكرنا ، ولكن ما ذكّيتم من الحيوانات التي أحللتها لكم بالتذكية حلال .
وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب القول الأوّل ، وهو أن قوله : إلاّ ما ذكيّتم اسثناء من قوله : وَما أهِلّ لغيرِ الله بِهِ والمُنْخَنِقَةُ وَالمَوقُوذَةُ وَالمُترَدّيَةُ والنّطِيحَةُ وَما أكَلَ السّبُعُ لأن كلّ ذلك مستحقّ الصفة التي هو بها قبل حال موته ، فيقال : لما قرّب المشركون لاَلهتهم فسموه لهم : هو ما أهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ بمعنى : سمى قربانا لغير الله . وكذلك المنخنقة : إذا انخنقت ، وإن لم تمت فهي منخنقة ، وكذلك سائر ما حرّمه الله جلّ وعزّ بعد قوله : وَما أُهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ إلا بالتذكية فإنه يوصف بالصفة التي هو بها قبل موته ، فحرّمه الله على عباده إلا بالتذكية المحللة دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفا . فإذ كان ذلك كذلك ، فتأويل الاَية : وحرّم عليكم ما أهل لغير الله به ، والمنخنقة ، وكذا وكذا وكذا ، إلا ما ذكيّتم من ذلك ف«ما » إذ كان ذلك تأويله في موضع نصب بالاستثناء مما قبلها ، وقد يجوز فيه الرفع . وإذ كان الأمر على ما وصفنا ، فكلّ ما أدركت ذكاته من طائر أو بهيمة قبل خروج نفسه ومفارقة روحه جسده ، فحلال أكله إذا كان مما أحله الله لعباده .
فإن قال لنا قائل : فإذ كان ذلك معناه عندك ، فما وجه تكريره ما كرّر بقوله : وما أُهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ وَالمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ وَالمُرَدّيَةُ وسائر ما عدّد تحريمه في هذه الاَية ، وقد افتتح الاَية بقوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ ؟ وقد علمت أن قوله : حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ شامل كل ميتة كان موته حتف أنفه ، من علة به من غير جنابة أحد عليه ، أو كان موته من ضرب ضارب إياه ، أو انخناق منه أو انتطاح أو فرس سبع ؟ وهلاّ كان قوله إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك من أنه معنىّ بالتحريم في كلّ ذلك الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك ، دون أن يكون معنيا به تحريمه إذا تردّى أو انخنق ، أو فَرَسه السبع ، فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا باليسير من الحياة حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ مغنيا من تكرير ما كرّر بقوله وَما أهِلّ لغيرِ اللّهِ بِهِ والمُنْخَنِقَةُ وسائر ما ذكر مع ذلك وتعداده ما عدد ؟ وجه تكراره ذلك وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب التي هو بها موصوف ، وقد تقدم بقوله حُرّمَتْ عَلَيْكُمْ المَيْتَةُ أن الذين خوطبوا بهذه الاَية لا يعدّون الميتة من الحيوان ، إلا ما مات من علة عارضة به ، غير الانخناق والتردّي والانتطاح ، وفرّس السبع ، علة مرض أو أذى كان بها قبل هلاكها ، ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أجل ذبيحته بالمعنى الذي أحلها به . كالذي :
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ في قوله : وَالمُنْخَنِقَةُ والمَوْقُوذَةُ وَالمُتَرَدْيَةُ والنّطِيحَةُ وَما أكَلَ السّبُعُ إلاّ ما ذكّيْتُمُ يقول : هذا حرام ، لأن ناسا من العرب كانوا يأكلونه ولا يَعُدّونه ميتا ، إنما يعدّون الميت الذي يموت من الوجع ، فحرّمه الله عليهم ، إلا ما ذكروا اسم الله عليه وأدركوا ذكاته وفيه الروح .
القول في تأويل قوله تعالى : وَمَا ذُبِحَ على النّصُبِ .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : وَما ذُبِحَ على النّصُبِ : وحرّم عليكم أيضا الذي ذبح على النصب . ف«ما » في قوله وَما ذُبِحَ رفع عطفا على «ما » التي في قوله : وَما أكَلَ السّبُعُ . والنّصُب : الأوثان من الحجارة جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض ، فكان المشركون يقربون لها ، وليست بأصنام . وكان ابن جريج يقول في صفته ما :
حدثنا القاسم : قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : النّصُب : ليست بأصنام ، الصنم يصوّر ويُنقس ، وهذه حجارة تنصب ثلثمائة وستون حجرا ، منهم من يقول : ثلثمائة منها لخزاعة . فكانوا إذا ذبحوا ، نضحوا الدم على ما أقبل من البيت ، وشرّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة ، فقال المسلمون : يا رسول الله ، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم ، فنحن أحقّ أن نعظمه فكان النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك ، فأنزل الله : لَنْ يَنالَ اللّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤها . ومما يحق قول ابن جريج في أن الأنصاب غير الأصنام ما :
حدثنا به ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَما ذُبِحَ على النّصُبِ قال : حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : النّصُبُ قال : حجارة حول الكعبة ، يذبح عليها أهل الجاهلية ، ويبدّلونها إن شاءوا بحجارة أعجب إليهم منها .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أب نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَما ذُبِحَ على النّصُبِ والنصب : حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها ، ويذبحون لها ، فنهى الله عن ذلك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وَما ذَبِحَ على النّصُبِ يعني : أنصاب الجاهلية .
حدثنا المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : وَما ذُبِحَ على النّصُبِ والنصب : أنصاب كانوا يذبحون ويهلون عليها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بزة ، عن مجاهد ، قوله : وَما ذُبِحَ على النّصُبِ قال : كان حول الكعبة حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية ويبدّلونها إذا شاءوا بحجر هو أحبّ إليهم منها .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك بن مزاحم يقول : الأنصاب حجارة كانوا يهلّون لها ، ويذبحون عليها .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا بن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : وَما ذُبِحَ على النّصُبِ قال : ما ذبح على النصب ، وما أهل لغير الله به ، وهو واحد .
القول في تأويل قوله : وأنْ تَسْتَقْسمُوا بالأزْلام .
يعني بقوله : وأنْ تَسْتَقْسِمُو بالأزْلامِ : وأن تطلبوا علم ما قسم لكم أو لم يقسم ، بالأزلام . وهو استفعلت من القسم : قسم الرزق والحاجات . وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرا أو عزوًا أو نحو ذلك ، أجال القِداح ، وهي الأزلام ، وكانت قداحا مكتوبا على بعضها : نهاني ربي ، وعلى بعضها : أمرني ربي ، فإن خرج القِدح الذي هو مكتوب عليه : أمرني ربي ، مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك وإن خرج الذي عليه مكتوب : نهاني ربي ، كفّ عن المضيّ لذلك وأمسك فقيل : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزلامِ لأنهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون أزلامهم أن يقسمن لهم . ومنه قول الشاعر مفتخرا بترك الاستقسام بها :
*** ولَمْ أَقْسِمْ فتَرْبُتَني القُسُومُ ***
وأما الأزلام ، فإن واحدها زَلم ، ويقال زُلَم ، وهي القِداح التي وصفنا أمرها .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع ، قالا : حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزلام قال : القداح ، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر ، جعلوا قداحا للجلوس والخروج ، فإن وقع الخروج خرجوا ، وإن وقع الجلوس جلسوا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : وأنُ تَسْتَقْسِمُوا بالأزلامِ قال : حصى بيض كانوا يضربون بها .
قال أبو جعفر : قال لنا سفيان بن وكيع : هو الشطرنج .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا عباد بن راشد البزار ، عن الحسن في قوله : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ قال : كانوا إذا أرادوا أمرا أو سفرا ، يعمدون إلى قداح ثلاثة على واحد منها مكتوب : أُؤمرني ، وعلى الاَخر : انهني ، ويتركون الاَخر محللاً بينهما ليس عليه شيء . ثم يجيلونها ، فإن خرج الذي عليه «أُؤمرني » ، مضوا لأمرهم ، وإن خرج الذي عليه «انهنى » كفّوا ، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن عيينة ، ن ابن بي نجيح ، عن مجاهد : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ حجارة كانوا يكتبون عليها يسمونها القداح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن آدم . عن زهير ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ قال : كِعاب فارس التي يَقْمُرون بها ، وسهام العرب .
حدثني أحمد بن حازم الغفاري ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا زهير ، عن إبراهيم بن مهاجر ، عن مجاهد : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ قال : سهام العرب وكعاب فارس والروم كانوا يتقامرون بها .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ قال : كان الرجل إذا أراد أن يخرج مسافرا ، كتب في قداح : هذا يأمرني بالمكث ، وهذا يأمرني بالخروج ، وجعل معها منيحا ، شيء لم يكتب فيه شيئا ، ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج ، فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث ، وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج ، وإن خرج الاَخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القِدحين .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجا ، أخذ قِدْحا فقال : هذا يأمر بالخروج ، فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرا ويأخذ قدحا آخر فيقول : هذا يأمر بالمكوث ، فليس يصيب في سفره خيرا والمنيح بينهما . فنهى الله عن ذلك ، وقدّم فيه .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ قال : كانوا يستقسمون بها في الأمور .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد : الأزْلامُ قِداح لهم كان أحدهم إذا أراد شيئا من تلك الأمور كتب في تلك القداح ما أراد ، فيضرب بها ، فأيّ قدح خرج وإن كان أبغض تلك ، ارتكبه وعمل به .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ قال : الأزلام : قِداح كانت في الجاهلية عند الكهنة ، فإذا أراد الرجل أن يسافر أو يتزوّج أو يحدِث أمرا ، أتى الكاهن ، فأعطاه شيئا ، فضرب له بها ، فإن خرج منها شيء يعجبه أمره ففعل ، وإن خرج منها شيء يكرهه نهاه فانتهى ، كما ضرب عبد المطلب على زمزم وعلى عبد الله والإبل .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن عبد الله بن كثير ، قال : سمعنا أن أهل الجاهلية كانوا يضربون بالقداح في الظّعن والإقامة أو الشيء يريدونه ، فيخرج سهم الظعن فيظعنون ، والإقامة فيقيمون . وقال ابن إسحاق في الأزلام ما :
حدثني به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة ، وكانت على بئر في جوف الكعبة ، وكانت تلك البئر هي التي يجمع فيها ما يُهدى للكعبة ، وكانت عند هُبَل سبعة أقداح ، كل قدح منها فيه كتاب : قدح فيه «العقل » إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم ضربوا بالقداح السبعة ( فإن خرج العقل فعل من خرج حَمْلُه ) وقدح فيه : «نَعَم » للأمر إذا أرادوا يُضرب به ، فإن خرج قِدح «نَعَم » عملوا به وقدح فيه لا ، فإذا أرادوا أمرا ضربوا به في القداح ، فإذا خرج ذلك القدح لم يفعلوا ذلك الأمر . وقدح فيه : «منكم » . وقدح فيه : «مُلْصق » . وقدح فيه : «من غيركم » . وقدح فيه : المياه ، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القِدْح ، فحيثما خرج عملوا به . وكانوا إذا أرادوا أن يجتبوا غلاما ، أو أن ينكحوا مَنْكحا ، أو أن يدفنوا ميتا ، و يشكوّا في نسب واحد منهم ، ذهبوا به إلى هُبَل ، وبمائة درهم وبجُزور ، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها ، ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون ، ثم قالوا : يا إلهنا ، هذا فلان ابن فلان ، قد أردنا به كذا وكذا ، فأخرج الحقّ فيه ثم يقولون لصاحب القداح : اضرب ، فيضرب ، فإن ( خرج عليه «منكم » كان وسيطا ، وإن ) خرج عليه : «من غيركم » ، كان حليفا ، وإن خرج : «مُلْصَق » ، كان على منزلته منهم ، لا نسب له ولا حِلف وإن خرج فيه شيء سوى هذا مما يعملون به «نعم » عملوا به وإن خرج : «لا » ، أخرّوه عامَهم ذلك ، حتى يأتوا به مرة أخرى ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القِداح .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : وأنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزْلامِ يعني : القدح ، كانوا يستقسمون بها في الأمور .
القول في تأويل قوله تعالى : ذَلِكُمْ فِسْق .
يعني جلّ ثناؤه بقوله : ذَلِكُمْ : هذه الأمور التي ذكرها ، وذلك أكل الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما ذكر في هذه الاَية مما حرّم أكله . والاستقسام بالأزلام . فِسْقٌ يعني : خروج عن أمر الله وطاعته إلى ما نهى عنه وزجر ، وإلى معصيته . كما :
حدثني المثنى : قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : ذَلِكُمْ فِسْقٌ يعني : من أكل من ذلك كله ، فهو فسق .
القول في تأويل قوله تعالى : اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ .
يعني بقوله جلّ ثناؤه : اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ : الاَن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود أيها المؤمنون من دينكم ، يقول : من دينِكم أن تتركوه ، فترتدّوا عنه راجعين إلى الشرك . كما :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، ن عليّ ، عن ابن عباس : قوله : اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ يعني : أن ترجعوا إلى دينهم أبدا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ قال : أظنّ يئسوا أن ترجعوا عن دينكم .
فإن قال قائل : وأيّ يوم هذا اليوم الذي أخبر الله أن الذين كفروا يئسوا فيه من دين المؤمنين ؟ قيل : ذُكر أن ذلك كان يوم عرفة ، عام حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة الوداع ، وذلك بعد دخول العرب في الإسلام . ذكر من قال ذلك :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال مجاهد : اليَوْمَ يَئسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ اليوم أكملت لكم دينكم هذا حين فعلت . قال ابن جريج : وقال آخرون : ذلك يوم عرفة في يوم جمعة لما نظر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فلم ير إلا موحّدا ولم ير مشركا حمد الله ، فنزل عليه جبريل عليه السلام : اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أن يعودوا كما كانوا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : اليَوْمَ يَئِسَ الّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ قال : هذا يوم عرفة .
القول في تأويل قوله تعالى : فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ .
يعني بذلك : فلا تخشوا أيها المؤمنون هؤلاء الذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار ، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم فيقهروكم ويردّوكم عن دينكم ، واخْشَوْنِ يقول : ولكن خافون إن أنتم خالفتم أمري واجرأتم على معصيتي وتعديتم حدودي ، أن أحلّ بكم عقابي وأنزل بكم عذابي . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ : فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم .
القول في تأويل قوله تعالى : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : يعني جلّ ثناؤه بقوله : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ : اليوم أكملت لكم أيها المؤمنون فرائضي عليكم وحدودي ، وأمري إياكم ونهيي ، وحلالي وحرمي ، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي ، وتبياني ما بينت لكم منه بوحيي على لسان رسولي ، والأدلة التي نصبتها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم ، فأتممت لكم جميع ذلك ، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم . قالوا : وكان ذلك في يوم عرفة ، عام حجّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حجة الوداع . وقالوا : لم ينزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد هذه الاَية شيء من الفرائض ولا تحليل شيء ولا تحريمه ، وإن النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الاَية إلا إحدى وثمانين ليلة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وهو الإسلام ، قال : أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه الله عزّ ذكره فلا ينقصه أبدا ، وقد رضيه الله فلا يسخَطُه أبدا .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ هذا نزل يوم عرفة ، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات ، فقالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة ، فبينما نحن نسير إذ تجلّى له جبريل صلى الله عليه وسلم على الراحلة ، فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن ، فبركت ، فأتيته فسجيّت عليه برداء كان عليّ .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : مكث النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الاَية إحدى وثمانين ليلة ، قوله : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .
حدثنا سفيان ، قال : حدثنا ابن فضيل ، عن هارون بن عنترة ، عن أبيه ، قال : لمّا نزلت : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وذلك يوم الحجّ الأكبر ، بكى عمر ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «ما يُبْكِيكَ » ؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذ كمَل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، فقال : «صَدَقْتَ » .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أحمد بن بشير ، عن هارون بن أبي وكيع ، عن أبيه ، فذكر نحو ذلك .
وقال آخرون : معنى ذلك : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ : حجكم ، فأفردتم بالبلد الحرام تحجونه أنتم أيها المؤمنون دون المشركين لا يخالطكم في حجكم مشرك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا يحيى بن أبي عبة ، عن أبيه ، عن الحكم : اليَوْم أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قال : أكمل لهم دينهم أن حجوا ولم يحجّ معهم مشرك .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : اليَوْمَ أكمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قال : أخلص الله لهم دينهم ، ونفى المشركين عن البيت .
حدثنا أحمد بن حازم ، قال : حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا قيس ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ قال : تمام الحجّ ، ونفي المشركين عن البيت .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله عزّ وجلّ أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به ، أنه أكمل لهم يوم أنزل هذه الاَية على نبيه دينهم ، بإفرادهم بالبلد الحرام ، وإجلائه عنه المشركين ، حتى حجه المسلمون دونهم ، لا يخالطونهم المشركون . فأما الفرائض والأحكام ، فإنه قد اختلف فيها ، هل كانت أكملت ذلك اليوم أم لا ؟ فرُوي عن ابن عباس والسديّ ما ذكرنا عنهما قبل . ورُوِي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ في الكَلالَةِ . ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن قبض ، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعا . فإذ كان ذلك كذلك ، وكان قوله : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ آخرها نزولاً وكان ذلك من الأحكام والفرائض ، كان معلوما أن معنى قوله : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ على خلاف الوجه الذي تأوّله مَن تأوّله ، أعني : كمال العبادات والأحكام والفرائض .
فإن قال قائل : فما جعل قول من قال : قد نزل بعد ذلك فرض أولى من قول من قال : لم ينزل ؟ قيل لأن الذي قال لم ينزل ، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض ، والنفي لا يكون شهادة ، والشهادة قول من قال : نزل ، وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقا .
القول في تأويل قوله تعالى : وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي .
يعني جلّ ثناؤه بذلك : وأتممت نعمتي أيها المؤمنون بإظهاركم على عدوّي وعدوّكم من المشركين ، ونفيي إياهم عن بلادكم ، وقطعي طمعهم من رجوعكم ، وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قال : كان المشركون والمسلمون يحجون جميعا ، فلما نزلت براءة ، فنَنَفي المشركين عن البيت ، وحجّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين ، فكأنّ ذلك من تمام النعمة : وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي . . . الاَية ، ذُكِر لنا أن هذه الاَية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة يوم جمعة ، حين نفي الله المشركين عن المسجد الحرام ، وأخلص للمسلمين حجهم .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا ابن إدريس ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبيّ ، قال : نزلت هذه الاَية بعرفات ، حيث هدم منار الجاهلية ، واضمحلّ الشرك ، ولم يحُجّ معهم في ذلك العام مشرك .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الأعلى ، قال : حدثنا داود ، عن عامر في هذه الاَية : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات ، وقد أطاف به الناس ، وتهدّمت منار الجاهلية ومناسكهم ، واضمحلّ الشرك ، ولم يطُف حول البيت عُرْيان ، فأنزل الله : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .
حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن الشعي ، بنحوه .
القول في تأويل قوله تعالى : وَرَضيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينا .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : ورضيت لكم الاستسلام لأمري والانقياد لطاعتي ، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه دِينا يعني بذلك : طاعة منكم لي .
فإن قال قائل : أَوَ ما كان الله راضيا الإسلام لعباده ، إلا يوم أنزل هذه الاَية ؟ قيل : لم يزل الله راضيا لخلقه الإسلام دينا ، ولكنه جلّ ثناؤه لم يزل يصرّف نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات ومراتبه درجة بعد درجة ومرتبة بعد مرتبة وحالاً بعد حال ، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه ، ثم قال حين أنزل عليهم هذه الاَية : وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينا بالصفة التي هو بها اليوم ، والحال التي أنتم عليها اليوم منه دِينا فالزموه ولا تفارقوه . وكان قتادة يقول في ذلك ما :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قال : ذكر لنا أنه يمثّل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة ، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ، ويعدهم في الخير حتى يجيء الإسلام . فيقول : ربّ أنت السلام وأنا الإسلام ، فيقول : إياك اليوم أقبل ، وبك اليوم أجزي .
وأحسب أن قتادة وجّه معنى الإيمان بهذا الخبر إلى معنى التصديق والإقرار باللسان ، لأن ذلك معنى الإيمان عند العرب ، ووجه معنى الإسلام إلى استسلام القلب وخضوعه لله بالتوحيد ، وانقياد الجسد له بالطاعة فيما أمر ونهى ، فلذلك قيل للإسلام : إياك اليوم أقبل ، وبك اليوم أجزي .
ذكر من قال : نزلت هذه الاَية بعرفة في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه وسلم :
حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع ، قالا : حدثنا عبد الرحمن ، قال : حدثنا سفيان ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قالت اليهود لعمر : إنكم تقرءون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدا . فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين نزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت أنزلت يوم عرفة ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة قال سفيان : وأشكّ ، كان يوم الجمعة أم لا اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نَعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينا .
حدثنا أبو كريب وابن وكيع ، قالا : حدثنا ابن إدريس ، قال : سمعت أبي ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق بن شهاب ، قال : قال يهودّي لعمر : لو علمنا معشر اليهود حين نزلت هذه الاَية : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيْتُ لَكُمُ الإسْلام دِينا لو نعلم ذلك اليوم اتخذنا ذلك اليوم عيدا . فقال عمر : قد علمت اليوم الذي نزلت فيه والساعة ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت نزلت ليلة الجمعة ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات . لفظ الحديث لأبي كريب ، وحديث ابن وكيع نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا جعفر بن عون ، عن أبي العُمَيس ، عن قيس بن مسلم ، عن طارق ، عن عمر ، نحوه .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن حماد بن سلمة ، عن عمار مولى بني هاشم ، قال : قرأ ابن عباس : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وعنده رجل من أهل الكتاب ، فقال : لو علمنا أيّ يوم نزلت هذه الاَية لاتخذناه عيدا ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا قبيصة ، قال : حدثنا حماد بن سلمة ، عن عمار : أن ابن عباس قرأ : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينا فقال يهودي : لو نزلت هذه الاَية علينا لاتخذنا يومها عيدا ، فقال ابن عباس : فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين : يوم عيد ، ويوم جمعة .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا حماد ، عن عمار بن أبي عمار ، عن ابن عباس نحوه .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا رجاء بن أبي سلمة ، قال : أخبرنا عبادة ابن نسيّ ، قال : حدثنا أميرنا إسحاق ، قال أبو جعفر إسحاق هو ابن خَرَشة عن قبيصة قال : قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الاَية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه ، فقال عمر : أيّ آية يا كعب ؟ فقال : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه ، والمكان الذي أنزلت فيه ، يوم جمعة ، ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن عيسى بن حارثة الأنصاريّ ، قال : كنا جلوسا في الديوان ، فقال لنا نصراني : يا أهل الإسلام : لقد نزلت عليكم آية لو نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيدا ما بقي منا اثنان : «اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ » . فلم يجبه أحد منا ، فلقيت محمد ابن كعب القرظيّ ، فسألته عن ذلك ، فقال : ألا رددتم عليه ؟ فقال : قال عمر بن الخطاب : أنزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة ، فلا يزال ذلك اليوم عيدا للمسلمين ما بقي منهم أحد .
حدثنا حميد بن مسعدة ، قال : حدثنا بشر بن المفضل ، قال حدثنا داود ، عن عامر ، قال : أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإسْلامَ دِينا عشية عرفة وهو في الموقف .
حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا عبد الوهاب ، قال : حدثنا داود ، قال : قلت لعامر : إن اليهود تقول : كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه ؟ فقال عامر : أو ما حفظته ؟ قلت له : فأيّ يوم ؟ قال : يوم عرفة ، أنزل الله في يوم عرفة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قال : بلغنا أنها نزلت يوم عرفة ، ووافق يوم الجمعة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن حبيب ، عن ابن أبي نجيح ، عن عكرمة : أن عمر بن الخطاب ، قال : نزلت سورة المائدة يوم عرفة ، ووافق يوم الجمعة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا ابن عيينة ، عن ليث ، عن شهر ابن حوشب ، قال : نزلت سورة المائدة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة على راحلته ، فَتَنَوّخَتْ لأن يُدق ذراعها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن ليث ، عن شهر بن حوشب ، عن أسماء بنت يزيد ، قالت : نزلت سورة المائدة جميعا وأنا آخذة بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء قالت : فكادت من ثقلها أن يدقّ عضُدُ الناقة .
حدثني أبو عامر إسماعيل بن عمرو السّكوني ، قال : حدثنا هشام بن عمار ، قال : حدثنا ابن عياش ، قال : حدثنا عمرو بن قيس السكوني أنه سمعت معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الاَية : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ حتى ختمها ، فقال : نزلت في يوم عرفة ، في يوم جمعة .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الاَية ، أعني قوله : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يوم الاثنين ، وقالوا : أنزلت سورة المائدة بالمدينة . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : أخبرنا محمد بن حرب ، قال : حدثنا ابن لهيعة ، عن خالد بن أبي عمران ، عن حَنَش ، عن ابن عباس : ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين ، وخرج من مكة يوم الاثنين ، ودخل المدينة يوم الاثنين ، وأنزلت سورة المائدة يوم الاثنين اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ورفع الذكر يوم الاثنين .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا همام ، عن قتادة ، قال : المائدة مدنية .
وقال آخرون : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في حجة الوداع . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع بن أنس ، قال : نزلت سورة المائدة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسير في حجة الوداع ، وهو راكب راحلته ، فبركت به راحلته من ثقلها .
وقال آخرون : ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس ، وإنما معناه اليوم الذي أعلمه أنا دون خلقي ، أكملت لكم دينكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يقول : ليس بيوم معلوم يعلمه الناس .
وأولى الأقوال في وقت نزول الاَية ، القول الذي رُوي عن عمر بن الخطاب أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة ، لصحة سنده ووَهْي أسانيد غيره .
القول في تأويل قوله تعالى : فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ .
يعني تعالى ذكره بقول : فَمَنِ اضْطُرّ : فمن أصابه ضرّ في مخمصة ، يعني في مجاعة ، وهي مفعلة مثل المَجْبنة والمَبْخلة والمَنْجبة ، من خَمَصِ البَطْنِ ، وهو اضطماره ، وأظنه هو في هذا الموضع معنيّ به اضطماره من الجوع وشدة السغب ، وقد يكون في غير هذا الموضع اضطمارا من غير الجوع والسغب ، ولكن من خِلْقة ، كما قال نابغة بني ذبيان في صفة امرأة بخَمَصِ البطن :
والبَطْنُ ذو عُكَنٍ خَميصٌ لَيّنٌ ***والنّحرُ تَنْفُجُه بثَدْيٍ مُقْعَدِ
فمعلوم أنه لم يرد صفتها بقوله خميص بالهزال الضرّ من الجوع ، ولكنه أراد وصفها بلطافة طيّ ما على الأوراكَ والأفخاذ من جسدها ، لأن ذلك مما يحمد من النساء . ولكن الذي في معنى الوصف بالاضطمار والهزال من الضرّ ، من ذلك ، قول أعشى بن ثعلبة .
تَبيتُونَ فِي المَشْيَتى مِلاءً بطونُكُمْ ***وجارَاتُكمْ غَرْثَي يَبِتْنَ خَمائِصَا
يعني بذلك : يبتن مضطمرات البطون من الجوع والسّغَب والضرّ ، فمن هذا المعنى قوله : في مخمصة . وكان بعض نحويي البصرة يقول : المخمصة : المصدر من خَمَصَهُ الجوع . وكان غيره من أهل العربية يري أنها اسم للمصدر وليست بمصدر ولذلك تقع المفعلة اسما في المصادر للتأنيث والتذكير .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس : فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ يعني في مجاعة .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ أي في مجاعة .
حدثنا الحسن بن يحيى ، ( قال : أخبرنا عبد الرزاق ) قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، مثله .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : فَمَنه اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ قال : ذكر الميتة وما فيها وأحلها في الاضطرار . فِي مَخْمَصَةٍ يقول : في مجاعة .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : سمعت ابن زيد يقول في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ قال : المخمصة : الجوع .
القول في تأويل قوله تعالى : غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ .
يعني بذلك جلّ ثناؤه : فَمَنه اضْطُرّ فِي مَخْمَصَةٍ إلى أكل ما حرمت عليه منكم أيها المؤمنون من الميتة والدم ولحم الخنزير وسائر ما حرّمت عليه بهذه الاَية . غيرَ متَجانِفٍ لإِثْمٍ يقول : لا متجانفا لإثم ، فلذلك نصب «غيرَ » لخروجها من الاسم الذي في قوله : فَمَنِ اضْطُرّ وبمعنى لا ، فنصب بالمعنى الذي كان به منصوبا المتجانف لو جاء الكلام : لا متجانفا . وأما المتجانف للإثم ، فإنه المتمايل له ، المنحرف إليه ، وهو في هذا الموضع مراد به المتعَمّدله القاصد إليه ، من جَنَف القوم عليّ إذا مالوا ، وكلّ أعوج فهو أّنف عند العرب وقد بينا معنى الجنف بشواهده في قوله : فَمَنْ خافَ منْ مُوصٍ جَنَفا بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وأما تجانف آكل الميتة في أكلها وفي غيرها مما حرّم الله أكله على المؤمنين بهذه الاَية للإثم في حال أكله ، فهو تعمّده الأكل لغير دفع الضرورة النازلة به ، ولكن لمعصية الله وخلاف أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : فَمَنِ اضْطُر فِي مَخْمَصَةٍ غيرَ مُتَجانِفٍ لإثْمٍ يعني : إلى ما حُرّم مما سمى في صدر هذه الاَية : غيرَ مُتجانِفٍ لإِثْمٍ يقول : غير متعمّد لإثم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ : غير متعمد لإثم ، قال : إلى حِرْم الله ما حَرّم ، رخص للمضطّر إذا كان غير متعمد لإثم أن يأكله من جهد فمن بغى أو عدا أو خرج في معصية الله ، فإنه محرّم عليه أن يأكله .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ : أي غير معترّض لمعصية .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة : غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ : غير متعمد لإثم ، غير متعرّض .
حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ يقول : غير متعرّض لإثم : أي يبتغي فيه شهوة ، أو يعتدي في أكله .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ : لا يأكل ذلك ابتغاء الإثم ، ولا جراءة عليه .
القول في تأويل قوله تعالى : فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .
وفي هذا الكلام متروك اكتفي بدلالة ما ذكر عليه منه ، وذلك أن معنى الكلام : فمن اضطرّ في مخصمة إلى ما حرّمت عليه مما ذكرت في هذه الاَية ، غيرَ مُتَجانِفٍ لإِثْمٍ فأكله ، فإن الله غَفُور رَحِيمٌ ، فترك ذكر : «فأكله » . وذكر : «له » ، لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما .
وأما قوله : فإنّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإن معناه : فإن الله لمن أكل ما حرّمت عليه بهذه الاَية أكله في مخمصة ، غير متجانف لإثم ، غفور رحيم ، يقول : يستر له عن أكله ما أكل من ذلك بعفوه عن مؤاخذته إياه ، وصفحه عنه ، وعن عقوبته عليه رَحِيمٌ يقول : وهو به رفيق ، من رحمته ورفقه به ، أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الاَية ، في حال خوفه على نفسه ، من كَلَب الجوع وضُرّ الحاجة العارضة ببدنه .
فإن قال قائل : وما الأكل وعد الله المضطرّ إلى الميتة وسائر المحرّمات معها بهذه الاَية غفرانَه إذا أكل منها ؟ قيل : ما :
حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسديّ ، قال : حدثنا محمد بن القاسم الأسديّ ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن أبي واقد الليثي ، قال : قلنا يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة ، فما يصلح لنا من الميتة ؟ قال : «إذا لَمْ تَصْطَبِحُوا ، أوْ تَغْتَبِقُوا ، أوْ تَحْتَفِئُوا بَقْلاً ، فَشأنْكُمْ بِها » .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا هشيم ، عن الخصيب بن زيد التميم ، قال : حدثنا الحسن : أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إلى متى يحلّ لي الحرام ؟ قال : فقال : «إلى أنْ يُرْوَى أهْلُكَ مِنَ اللّبَنِ ، أوْ تَجِيءَ مِيرَتُهُمْ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا خصيب بن زيد التميميّ ، قال : حدثنا الحسن : أن رجلاً سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فذكر مثله ، إلا أنه قال : «أوْ تَحيْا مِيرَتُهُمْ » .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني عمر بن عبد الله بن عروة عن جده عروة بن الزبير ، عمن حدثه : أن رجلاً من الأعراب أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرم الله عليه والذي أحلّ له ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : «يَحِلّ لَكَ الطّيّباتُ ، وَيحْرُمُ عَلَيْكَ الخَبائِثُ ، إلاّ أنْ تَفْتَقِرَ إلى طَعامٍ لَكَ فَتأكُلَ مِنْهُ حتى تَسْتَغْنِيَ عَنْهُ » ، فقال الرجل : وما فقري الذي يُحِلّ لِي ، وما غناي الذي يغنيني عن ذلك ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إذَا كُنْتَ تَرْجو نِتاجا فَتَبَلّغَ بلُحُوم ماشِيَتِكَ إلى نِتاجِكَ ، أوْ كُنْتَ تَرْجُو غِنًى تَطْلُبُهُ فَتَبَلّغ مِنْ ذَلِكَ شَيْئا ، فأطْعِمْ أهْلَكَ مَا بَدَا لَكَ حتى تَسْتَغْنِيَ عَنْهُ » فقال الأَعرابيّ : ما غناي الذي أدعه إذا وجدته ؟ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إذَا أرْوَيْتَ أهْلَكَ غَبُوقا مِنَ اللّيْلِ فاجْتَنِبْ ما حَرّمَ اللّهُ عَلَيْكَ مِنْ طَعامِ مالِكَ ، فإنّه ميْسُورٌ كُلّهُ ، لَيْسَ فِيهِ حَرامٌ » .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، عن ابن عون ، قال : وجدت عند الحسن كتاب سَمُرة ، فقرأته عليه ، وكان فيه : ويجزي من الاضطرار غَبوق أو صَبوح .
حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعيّ ، قالا : حدثنا يحيى بن أبي زائدة ، عن ابن عون ، قال : قرأت في كتاب سَمُرة بن جُنْدَب : يكفي من الاضطرار أو من الضرورة غَبوق أو صَبوح .
حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو كريب ، قالا : حدثنا عبد الله بن إدريس ، عن هشام بن حسان ، عن الحسن ، قال : إذا اضطْر الرجل إلى الميتة أكل منها قوته يعني : مُسْكَته .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا ابن مبارك ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، قال : قال رجل : يا رسول الله إنا بأرض مخمصة ، فما يحِل لنا من الميتة ؟ ومتى تحلّ لنا الميتة ؟ قال : «إذَا لَمْ تَصْطَبِحُوا أوْ تَغْتَبِقُوا ولَمْ تَحْتَفِئُوا بَقْلاً فَشأْنُكمْ بِها » .
حدثنا هناد بن السريّ ، قال : حدثنا عيسى بن يونس ، عن الأوزاعي ، عن حسان بن عطية ، عن رجل قد سمي لنا ، أن رجلاً للنبيّ صلى الله عليه وسلم : إنا نكون بأرض مخمصة ، فمتى تحلّ لنا الميتة ؟ قال : «إذَا لَمْ تَغْتَبِقُوا ولَمْ تَصْطَبِحُوا ولَمْ تَحْتَفِئُوا بَقْلاً فَشأنُكُمْ بِها » .
قال أبو جعفر : يروى هذا على أربعة أوجه : «تحتفئوا » بالهمزة ، «وتحتفيوا » بتخفيف الياء والحاء ، و«تحتفّوا » بتشديد الفاء ، و«تَجْتَفوا » بالحاء والتخفيف ، ويحتمل الهمز .
{ حرمت عليكم الميتة } بيان ما يتلى عليكم ، والميتة ما فارقه الروح من غير تذكية . { والدم } أي الدم المسفوح لقوله تعالى : { أو دما مسفوحا } وكان أهل الجاهلية يصبونه في الأمعاء ويشوونها . { ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به } أي رفع الصوت لغير الله به كقولهم : باسم اللات والعزى عند ذبحه . { والمنخنقة } أي التي ماتت بالخنق . { والموقوذة } المضروبة بنحو خشب ، أو حجر حتى تموت من وقذته إذا ضربته . { والمتردية } التي تردت من علو أو في بئر فماتت . { والنطيحة } التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح والتاء فيها للنقل . { وما أكل السبع } وما أكل منه السبع فمات ، وهو يدل على أن جوارح الصيد إذا أكلت مما اصطادته لم تحل . { إلا ما ذكيتم } إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك . وقيل الاستثناء مخصوص بما أكل السبع . والذكاة في الشرع لقطع الحلقوم والمريء بمحدد . { وما ذبح على النصب } النصب واحد الأنصاب وهي أحجار كانت منصوبة حول البيت يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة . وقيل هي الأصنام وعلى بمعنى اللام أو على أصلها بتقدير وما ذبح مسمى على الأصنام . وقيل هو جمع والواحد نصاب . { وأن تستقسموا بالأزلام } أي وحرم عليكم الاستقسام بالأزلام ، وذلك أنهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح . مكتوب على أحدها ، أمرني ربي . وعلى الآخر : نهاني ربي . والثالث غفل ، فإن خرج الأمر مضوا على ذلك وإن خرج الناهي تجنبوا عنه وإن خرج الغفل أجلوها ثانيا ، فمعنى الاستقسام طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام . وقيل : هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة وواحد الأزلام زلم كجمل وزلم كصرد . { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام ، وكونه فسقا لأنه دخول في علم الغيب وضلال باعتقاد أن ذلك طريق إليه ، وافتراء على الله سبحانه وتعالى إن أريد بربي الله ، وجهالة وشرك إن أريد به الصنم أو الميسر المحرم أو إلى تناول ما حرم عليهم . { اليوم } لم يرد به يوما بعينه وإنما أراد الزمان الحاضر وما يتصل به من الأزمنة الآتية . وقيل أراد يوم نزولها وقد نزلت بعد عصر يوم الجمعة في عرفة حجة الوداع . { يئس الذين كفروا من دينكم } أي من إبطاله ورجوعكم عنه بتحيل هذه الخبائث وغيرها أو من أن يغلبوكم عليه . { فلا تخشوهم } أن يظهروا عليكم . { واخشون } وأخلصوا الخشية لي . { اليوم أكملت لكم دينكم } بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد والتوقيف على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد . { وأتممت عليكم نعمتي } بالهداية والتوفيق أو بإكمال الدين أو بفتح مكة وهدم منار الجاهلية . { ورضيت لكم الإسلام دينا } اخترته لكم دينا من بين الأديان وهو الدين عند الله لا غير . { فمن اضطر } متصل بذكر المحرمات وما بينهما اعتراض لما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسوق وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضي والمعنى : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات . { في مخمصة } مجاعة { غير متجانف لإثم } غير مائل له ومنحرف إليه بأن يأكلها تلذذا أو مجاوزا حد الرخصة كقوله : { غير باغ ولا عاد } . { فإن الله غفور رحيم } لا يؤاخذه بأكله .
{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } .
استئناف بيانيّ ناشىء عن قوله : { أحلّت لكم بهيمة الأنعام إلاّ ما يتلى عليكم } [ المائدة : 1 ] ، فهو بيان لما ليس بحلال من الأنعام .
ومعنى تحريم هذه المذكورات تحريم أكلها ، لأنَّه المقصود من مجموع هذه المذكورات هنا . وهي أحوال من أحوال الأنعام تقتضي تحريم أكلها . وأدمج فيها نوع من الحيوان ليس من أنواع الأنعام وهو الخنزير ، لاستيعاب محرّمات الحيوان . وهذا الاستيعاب دليل لإباحة ما سوى ذلك ، إلاّ ما ورد في السنّة من تحريم الحُمُر الأهلية ، على اختلاف بين العلماء في معنى تحريمها ، والظاهر أنَّه تحريم منظور فيه إلى حالة لا إلى الصنف . وألحَق مالك بها الخيلَ والبغال قياساً ، وهو من قياس الأدْون ، ولقول الله تعالى إذ ذكرها في معرض الامتنان { الخيلَ والبغالَ والحمير لتركبوها وزينة } [ النحل : 8 ] . وهو قول أبي حنيفة خلافاً لصاحبيه ، وهو استدلال لا يعرف له نظير في الأدلّة الفقهية . وقال الشافعي وأبو يوسف ومحمد : يَجوز أكل الخيل . وثبت في الصحيح ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : ذبحنا فرساً على عهد رسول الله فأكلناه . ولم يُذكر أنّ ذلك منسوخ . وعن جابر بن عبد الله أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحُمُر ورخَّص في لحوم الخيل .
وأمّا الحُمُر الأهلية فقد ورد في الصحيح أنّ النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكلها في غزوة خيبر . فقيل : لأنّ الحُمر كانت حَمولتهم في تلك الغَزاة . وقيل : نهى عنها أبداً . وقال ابن عباس بإباحتها . فليس لتحريم هذه الثلاثة على الإطلاق وجه بيّن من الفقه ولا من السنّة .
والميْتة الحيوان الذي زالت منه الحياة ، والموتُ حالة معروفة تنشأ عن وقوف حركة الدم باختلال عمل أحد الأعضاء الرئيسية أو كلّها . وعلَّة تحريمها أنّ الموت ينشأ عن علل يكون معظمها مضرّاً بسبب العدوى ، وتمييز ما يُعدي عن غيره عسير ، ولأنّ الحيوان الميّت لا يُدرى غالباً مقدار ما مضى عليه في حالة الموت ، فربَّما مضت مدّة تستحيل معها منافع لحمه ودمه مضارّ ، فنيط الحكم بغالب الأحوال وأضبطها .
والدم هنا هو الدم المُهراق ، أي المسفوح ، وهو الذي يمكن سيلانه كما صرّح به في آية الأنعام ( 145 ) ، حَملاً لمطلقِ هذه الآية على مقيّد آية الأنعام ، وهو الذي يخرج من عروق جسد الحيوان بسبب قطع العِرق وما عليه من الجِلد ، وهو سائل لزج أحمر اللون متفاوت الحمرة باختلاف السنّ واختلاف أصناف العروق .
والظاهر أنّ علّة تحريمه القذارة : لأنّه يكتسب رائحة كريهة عند لقائه الهواءَ ، ولذلك قال كثير من الفقهاء بنجاسة عينه ، ولا تعرّض في الآية لذلك ، أو لأنَّه يحمل ما في جسد الحيوان من الأجزاء المضرّة التي لا يحاط بمعرفتها ، أو لما يحدثه تعوّد شرب الدم من الضراوة التي تعود على الخُلق الإنساني بالفساد .
وقد كانت العرب تأكل الدم ، فكانوا في المجاعات يفصدون من إبلهم ويخلطون الدم بالوَبَر ويأكلونه ، ويسمّونه العِلْهِز بكسر العين والهاء . وكانوا يملأون المَصير بالدم ويشوونها ويأكلونها ، وقد تقدّم ذلك عند قوله تعالى : { إنَّما حرّم عليكم الميتة والدم } في سورة البقرة ( 173 ) .
وإنَّما قال : ولحمَ الخنزير } ولم يقل والخنزير كما قال : { وما أهلّ لغير الله به } إلى آخر المعطوفات . ولم يذكر تحريم الخنزير في جميع آيات القرآن إلاّ بإضافة لفظ لحم إلى الخنزير . ولم يأت المفسّرون في توجيه ذلك بوجه ينثلج له الصدر . وقد بيّنا ذلك في نظير هذه الجملة من سورة البقرة ( 173 ) . ويبدو لي أنّ إضافة لفظ لحم إلى الخنزير للإيماء إلى أنّ المحرّم أكل لحمه لأنّ اللحم إذا ذكر له حكم فإنَّما يراد به أكله . وهذا إيماء إلى أنّ ما عدا أكل لحمه من أحوال استعمال أجزائه هو فيها كسائر الحيوان في طهارة شعره ، إذا انتزع منه في حياته بالجزّ ، وطهارة عرقه وطهارة جلده بالدبغ ، إذا اعتبرنا الدبغ مطهّراً جلد الميتة ، اعتباراً بأنّ الدبغ كالذكاة . وقد روي القول بطهارة جلد الخنزير بالدبغ عن داود الظاهري وأبي يوسف أخذاً بعموم قوله صلى الله عليه وسلم « أيما إهاب دبغ فقد طهر » رواه مسلم والترمذي عن ابن عباس . وعلّة تحريم الخنزير أنّ لحمه يشتمل على جراثيم مضرّة لا تقتلها حرارة النار عند الطبخ ، فإذا وصلت إلى دم آكله عاشت في الدم فأحدثت أضراراً عظيمة ، منها مرض الديدان التي في المعدة .
{ وما أهلّ لغير الله به } هو ما سُمّي عليه عند الذبح اسمُ غير الله . والإهلالُ : الجهر بالصوتِ ومنه الإهلال بالحجّ ، وهو التلبية الدالّة على الدخول في الحجّ ، ومنه استهلّ الصبي صارخاً . قيل : ذلك مشتقّ من اسم الهلال ، لأنّ العرب كانوا إذا رأوا هلال أوّل ليلة من الشهر رفعوا أصواتهم بذلك ليَعلم الناس ابتداءَ الشهر ، ويحتمل عندي أن يكون اسم الهلال قد اشتقّ من جَهر الناس بالصوت عند رؤيته . وكانوا إذا ذبحوا القرابين للأصنام نادَوا عليها باسم الصنم ، فقالوا : باسم اللاّت ، باسم العُزّى .
{ والمنخنقة } هي التي عرض لها ما يخنقها . والخَنْق : سَدّ مجاري النفَس بالضغط على الحلق ، أو بسدّه ، وقد كانوا يربطون الدابّة عند خشبة فربما تخبّطت فانخنقت ولم يشعروا بها ، ولم يكونوا يخنقونها عند إرادة قتلها . ولذلك قيل هنا : المنخنقة ، ولم يقل المخنوقة بخلاف قوله { والموقوذة } ، فهذا مراد ابن عباس بقوله : كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها .
وحكمة تحريم المنخنقة أنّ الموت بانحباس النفس يفسد الدم باحتباس الحوامض الفحمية الكائنة فيه فتصير أجزاء اللحم المشتمل على الدم مضرّة لآكله .
{ والموقوذة } : المضروبة بحجر أو عصا ضرباً تموت به دون إهراق الدم ، وهو اسم مفعول من وقَذ إذا ضرب ضرباً مثخِناً . وتأنيث هذا الوصف لتأويله بأنَّه وصف بهيمة . وحكمة تحريمها تُماثل حكمة تحريم المنخنقة .
{ والمتردّية } : هي التي سقطت من جَبَل أو سقطت في بئر تردّياً تموت به ، والحكمة واحدة .
{ والنطيحة } فعيلة بمعنى مَفعولة . والنطح ضربُ الحيوان ذي القرنين بقَرنيه حيواناً آخر . والمراد التي نطحتها بهيمة أخرى فماتت . وتأنيث النطيحة مثل تأنيث المنخنقة ، وظهرت علامة التأنيث في هذه الأوصاف وهي من باب فَعيل بمعنى مفعول لأنَّها لم تجر على موصوف مذكور فصارت بمنزلة الأسماء .
{ وما أكل السبع } : أي بهيمة أكَلَها السبع ، والسبع كلّ حيوان يفترس الحيوان كالأسد والنمر والضبع والذئب والثعلب ، فحرّم على الناس كلّ ما قتله السبع ، لأنّ أكيلة السبع تموت بغير سفح الدم غالباً بل بالضرب على المقاتل .
وقوله : { إلاّ ما ذكّيتم } استثناء من جميع المذكور قبله من قوله : { حرّمت عليكم الميتة } ؛ لأنّ الاستثناء الواقع بعد أشياء يصلح لأن يكون هو بعضها ، يرجع إلى جميعها عند الجمهور ، ولا يرجع إلى الأخيرة إلاّ عند أبي حنيفة والإمام الرازي ، والمذكورات قبلُ بعضها محرّمات لذاتها وبعضها محرّمات لصفاتها . وحيث كان المستثنى حالاً لا ذاتاً ، لأنّ الذكاة حالة ، تعيَّن رجوع الاستثناء لِما عدا لحمَ الخنزير ، إذ لا معنى لتحريم لحمه إذا لم يُذكّ وتحليلِه إذا ذكِّي ، لأنّ هذا حكم جميع الحيوان عند قصد أكله . ثم إنّ الذكاة حالة تقصد لقتل الحيوان فلا تتعلّق بالحيوان الميّت ، فعُلِم عدم رجوع الاستثناء إلى الميْتة لأنَّه عبث ، وكذلك إنَّما تتعلّق الذكاة بما فيه حياة فلا معنى لتعلّقها بالدم ، وكذا ما أهِلّ لغير الله به ، لأنهم يهلّون به عند الذكاة ، فلا معنى لتعلّق الذكاة بتحليله ، فتعيّن أنّ المقصود بالاستثناء : المنخنقة ، والموقوذة ، والتمردّية ، والنطيحة ، وما أكل السبع ، فإنّ هذه المذكورات تعلّقت بها أحوال تفضي بها إلى الهلاك ، فإذا هلكت بتلك الأحوال لم يُبح أكلها لأنّها حينئذٍ ميْتة ، وإذا تداركوها بالذكاة قبل الفوات أبيح أكلها . والمقصود أنّها إذا ألحقت الذكاة بها في حالة هي فيها حيّة . وهذا البيان ينبّه إلى وجه الحصر في قوله تعالى : { قل لا أجدُ فيما أوحي إليّ محرّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير فإنَّه رجْس أو فسقاً أهلّ لغير الله به } [ الأنعام : 145 ] . فذكر أربعة لا تعمل الذكاة فيها شيئاً ولم يذكرالمنخنقة والموقوذة وما عطف عليها هنا ، لأنّها تحرُم في حال اتّصال الموت بالسبب لا مطلقاً . فعَضّوا على هذا بالنواجذ .
وللفقهاء في ضبط الحالة التي تعمل فيها الذكاة في هاته الخمس عبارات مختلفة : فالجمهور ذهبوا إلى تحديدها بأن يبقى في الحيوان رمق وعلامةُ حياة ، قبل الذبح أو النحر ، من تحريك عضو أو عين أو فم تحريكاً يدلّ على الحياة عرفاً ، وليس هو تحريك انطلاق الموت .
وهذا قول مالك في « الموطّأ » ، ورواية جمهور أصحابه عنه . وعن مالك : أنّ المذكورات إذا بلغت مبلغاً أنْفِذَتْ معه مقاتلها ، بحيث لا ترجى حياتها لو تركت بلا ذكاة ، لا تصحّ ذكاتها ، فإن لم تنفذ مقاتلها عملت فيها الذكاة . وهذه رواية ابن القاسم عن مالك ، وهو أحد قولي الشافعي . ومن الفقهاء من قالوا : إنَّما ينظر عند الذبح أحيَّة هي أم ميّتة ، ولا ينظر إلى حالة هل يعيش مثلها لو تركت دون ذبح . وهو قول ابن وهب من أصحاب مالك ، واختاره ابن حبيب ، وأحد قولين للشافعي . ونفس الاستثناء الواقع في الآية يدلّ على أنّ الله رخّص في حالة هي محلّ توقّف في إعمال الذكاة ، أمَّا إذا لم تُنْفَذ المقاتل فلا يخفى على أحد أنّه يباح الأكل ، إذ هو حينئذٍ حيوان مرضوض أو مجروح ، فلا يحتاج إلى الإعلام بإباحة أكله بذكاة ، إلاّ أنّ يقال : إنّ الاستثناء هنا منقطع بمعنى لكن ، أي لكن كلوا ما ذكّيتم دون المذكورات ، وهو بعيد . ومن العلماء من جعل الاستثناء من قوله : { وما أكل السبع } على رأي من يجعل الاستثناء للأخيرة ، ولا وجه له إلاّ أن يكون ناظراً إلى غلبة هذا الصنف بين العرب ، فقد كانت السباع والذئاب تنتابهم كثيراً ، ويكثر أن يلحقوها فتترك أكيلتها فيدْركوها بالذكاة .
{ وما ذُبح على النُصب } هو ما كانوا يذبحونه من القرابين والنُشُرات فوق الأنصاب . والنُصُب بضمّتين الحجر المنصوب ، فهو مفرد مراد به الجنس ، وقيل : هو جمع وواحده نِصاب ، ويقال : نَصْب بفتح فسكون { كأنّهم إلى نَصْب يوفضون } [ المعارج : 43 ] . وهو قد يطلق بما يرادف الصنم ، وقد يخصّ الصنم بما كانت له صورة ، والنصُب بما كان صخرة غير مصوّرة ، مثل ذي الخَلصة ومثل سَعْد . والأصحّ أنّ النصب هو حجارة غير مقصود منها أنَّها تمثال للآلهة ، بل هي موضوعة لأنّ تذبح عليها القرابين والنسائك التي يتقرّب بها للآلهة وللجنّ ، فإنّ الأصنام كانت معدودة ولها أسماء وكانت في مواضع معيّنة تقصد للتقرّب . وأمّا الأنصاب فلم تكن معدودة ولا كانت لها أسماء وإنَّما كانوا يتّخذها كلّ حَيّ يتقرّبون عندها ، فقد روى أيمَّة أخبار العرب : أنّ العرب كانوا يعظّمون الكعبة ، وهم ولد إسماعيل ، فلمّا تفرّق بعضهم وخرجوا من مكة عظم عليهم فراق الكعبة فقالوا : الكعبةُ حجر ، فنحن ننصب في أحيائنا حجارة تكون لنا بمنزلة الكعبة ، فنصبوا هذه الأنصاب ، وربما طافوا حولها ، ولذلك يسمّونها الدّوار بضمّ الدال المشدّدة وبتشديد الواو ويذبحون عليها الدماء المتقرّب بها في دينهم . وكانوا يطلبون لذلك أحسن الحجارة .
وعن أبي رجاء العطاردي في « صحيح البخاري » : كنّا نعبد الحجر فإذا وجدنا حجراً خيراً منه ألقينا الأوّل وأخذنا الآخر فإذا لم نجد حجراً ( أي في بلاد الرمل ) جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناها عليه ليصير نظير الحجر ثمّ طفنا به .
فالنصب : حجارة أعدّت للذبح وللطواف على اختلاف عقائد القبائل : مِثل حجر الغَبْغَبِ الذي كان حول العُزّى . وكانوا يذبحون على الأنصاب ويشرّحون اللحم ويشوونه ، فيأكلون بعضه ويتركون بعضاً للسدنة ، قال الأعشى ، يذكر وصايا النبي صلى الله عليه وسلم في قصيدته التي صنعها في مدحه :
وذا النُصُبَ المَنْصُوب لا تَنْسُكَنَّه
وقال زيد بن عَمْرو بن نفيل للنبيء صلى الله عليه وسلم قبلَ البعثة ، وقد عرض عليه الرسولُ سُفرة ليَأكل معه في عكاظ : { إنّي لا آكل ممّا تذبَحُون على أنصابكم } . وفي حديث فتح مكَّة : كان حول البيت ثلاثمائة ونيّف وستّون نصباً ، وكانوا إذا ذبحوا عليها رشّوها بالدم ورشّوا الكعبة بدمائهم . وقد كان في الشرائع القديمة تخصيص صخور لذبح القرابين عليها ، تمييزاً بين ما ذُبِح تديّناً وبين ما ذبح للأكل ، فمن ذلك صخرة بيت المقدس ، قيل : إنَّها من عهد إبراهيم وتحتها جبّ يعبّر عنها ببئر الأرواح ، لأنَّها تسقط فيها الدماء ، والدمُ يسمّى رُوحاً . ومن ذلك فيما قيل : الحجر الأسود كان على الأرض ثم بناه إبراهيم في جدر الكعبة . ومنها حجر المقام ، في قول بعضهم . فلما اختلطت العقائد في الجاهلية جعلوا هذه المذابح لذبح القرابين المتقرّب بها للآلهة وللجنّ . وفي « البخاري » عن ابن عباس : النصُب : أنصاب يذبحون عليها . قلت : ولهذا قال الله تعالى : { وما ذبح على النصب } بحرف ( على ) ، ولم يقل وما ذبح للنُصب لأنّ الذبيحة تقصد للأصنام والجنّ ، وتذبح على الأنصاب ، فصارت الأنصاب من شعائر الشرك .
ووجه عطف { وما ذُبح على النصب } على المحرّمات المذكورة هنا ، مع أنّ هذه السورة نزلت بعد أن مضت سنين كثيرة على الإسلام وقد هجر المسلمون عبادة الأصنام ، أنّ في المسلمين كثيرين كانوا قريبي عهد بالدخول في الإسلام ، وهم وإن كانوا يعلمون بطلان عبادة الأصنام ، أوّل ما يعلمونه من عقيدة الإسلام ، فقد كانوا مع ذلك مدّةَ الجاهلية لا يختصّ الذبحُ على النصُب عندهم بذبائح الأصنام خاصّة ، بل يكون في ذبائح الجنّ ونحوها من النُشُرات وذبائح دفع الأمراض ودفع التابعة عن ولدانهم ، فقالوا : كانوا يستدفعون بذلك عن أنفسهم البرص والجذام ومسّ الجن ، وبخاصّة الصبيان ، ألا ترى إلى ما ورد في كتب السيرة : أنّ الطفيل بن عَمرو الدوْسي لمّا أسلم قبل الهجرة ورجع إلى قومه ودعَا امرأته إلى الإسلام قالت له : أتخشى على الصبية من ذي الشَّرَى ( صَنَممِ دوس ) . فقال : لا ، أنا ضامن ، فأسلمتْ ، ونحو ذلك ، فقد يكون منهم من استمرّ على ذبح بعض الذبائح على الأنصاب التي في قبائلهم على نيّة التداوي والانتشار ، فأراد الله تنبيههم وتأكيد تحريم ذلك وإشاعته .
ولذلك ذِكر في صدر هذه السورة وفي آخرها عند قوله : { يأيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجس من عمل الشيطان } [ المائدة : 90 ] الآيات .
{ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام ذلكم فِسْقٌ } .
الشأن في العطف التناسب بين المتعاطفات ، فلا جرم أنّ هذا المعطوف من نوع المتعاطفات التي قبله ، وهي المحرّم أكلها . فالمراد هنا النهي عن أكل اللحم الذي يستقسمون عليه بالأزلام ، وهو لحم جزور الميسر لأنّه حاصل بالمقامرة ، فتكون السين والتاء في { تستقسموا } مزيدتين كما هما في قولهم : استجاب واستراب . والمعنى : وأن تقسموا اللحم بالأزلام .
ومن الاستقسام بالأزلام ضرب آخر كانوا يفعلونه في الجاهلية يتطلّبون به معرفة عاقبة فعل يريدون فعله : هل هي النجاح والنفع أو هي خيبة وضرّ ؟ . وإذ قد كان لفظ الاستقسام يشمله فالوجه أن يكون مراداً من النهي أيضاً ، على قاعدة استعمال المشترك في معنييه ، فتكون إرادته إدماجاً وتكون السين والتاء للطلب ، أي طلب القِسم . وطلب القِسم بالكسر أي الحظّ من خير أو ضدّه ، أي طلب معرفته . كان العرب ، كغيرهم من المعاصرين ، مولَعين بمعرفة الاطِّلاع على ما سيقع من أحوالهم أو على ما خفي من الأمور المكتومة ، وكانوا يتوهّمون بأنّ الأصنام والجنّ يعلمون تلك المغيّبات فسوّلت سدنة الأصنام لهم طريقة يُموّهون عليهم بها فجعلوا أزلاماً . والأزلام جمع زَلَم بفتحتين ويقال له : قدح بكسر القاف وسكون الدال وهو عود سهم لا حديدة فيه .
وكيفية استقسام الميسر : المقامرة على أجزاء جزور ينحرونه ويتقامرون على أجزائه ، وتلك عشرة سهام تقدّم الكلام عليها عند قوله تعالى : { يسألونك عن الخمر والميسر } الآية في سورة البقرة ( 219 ) . وكان مقتضى الظاهر أن يقال : وما استقسمتم عليه بالأزلام ، فغيّر الأسلوب وعُدل إلى { وأن تستقسموا بالأزلام } ، ليكون أشمل للنهي عن طريقتي الاستقسام كلتيهما ، وذلك إدماج بديع .
وأشهر صور الاستقسام ثلاثة قداح : أحدها مكتوب عليه « أمرني ربّي » ، وربما كتبوا عليه « افْعَلْ » ويسمّونه الآمر . والآخرُ : مكتوب عليه « نَهاني ربّي » ، أو « لا تَفْعَلْ » ويسمّونه الناهي . والثالث : غُفْل بضم الغين المعجمة وسكون الفاء أخت القاف أي متروك بدون كتابة . فإذا أراد أحدهم سَفراً أو عملاً لا يدري أيكون نافعاً أم ضارّاً ، ذهب إلى سادن صنمهم فأجال الأزلامَ ، فإذا خرج الذي عليه كتابة ، فعلوا ما رَسَم لهم ، وإذا خرج الغُفْل أعادوا الإجالة . ولمّا أراد امرؤُ القيس أن يقوم لأخذ ثار أبيه حُجْر ، استقسم بالأزلام عند ذي الخَلَصة ، صنم خَثْعَم ، فخرج له الناهي فكسر القِداح وقال :
لو كنتَ ياذا الخَلَص الموتورا *** مِثْلي وكان شيخُك المقبورا
لم تَنْهَ عن قَتْلِ العُداة زُورا
وقد ورد ، في حديث فتح مكة : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد صورة إبراهيم يستقسم بالأزلام فقال : " كذَبوا والله إنِ استقسمَ بها قطّ " وهم قد اختلقوا تلك الصورة ، أو توهّموها لذلك ، تنويهاً بشأن الاستقسام بالأزلام ، وتضليلاً للناس الذين يجهلون . وكانت لهم أزلام أخرى عند كلّ كاهن من كهانهم ، ومن حكّامهم ، وكان مِنها عند ( هُبَل ) في الكعبة سبعة قد كتبوا على كلّ واحد شيئاً من أهمّ ما يَعْرِض لهم في شؤونهم ، كتبوا على أحدها العقل في الديَة ، إذا اختلفوا في تعيين من يحمل الدية منهم ؛ وأزلام لإثبات النسب ، مكتوب على واحد « منكم » ، وعلى واحد « من غَيْركم » ، وفي آخر « مُلْصَق » . وكانت لهم أزلام لإعطاء الحقّ في المياه إذا تنازعوا فيها . وبهذه استقسم عبد المطلب حين استشار الآلهة في فداء ابنه عبد الله من النَّذْر الذي نذره أن يَذبحه إلى الكعبة بعشرة من الإبل ، فخرج الزلم على عبد الله فقالوا له : أرض الآلهة فزاد عشرة حتّى بلغ مائة من الإبل فخرج الزّلم على الإبل فنحرها . وكان الرجل قد يتّخذ أزلاماً لنفسه ، كما ورد في حديث الهجرة « أنّ سُراقة ابنَ مالك لمّا لحق النبي صلى الله عليه وسلم ليأتي بخبره إلى أهل مكة استقسم بالأزلام فخرج له ما يكره » .
والإشارة في قوله : { ذلكم فسق } راجعة إلى المصدر وهو { أن تستقسموا } . وجيء بالإشارة للتنبيه عليه حتّى يقع الحكم على متميّز معيّن .
والفسق : الخروج عن الدين ، وعن الخير ، وقد تقدّم عند قوله تعالى : { وما يضلّ به إلاّ الفاسقين } في سورة البقرة ( 26 ) .
وجعل الله الاستقسام فسقاً لأنّ منه ما هو مقامرة ، وفيه ما هو من شرائع الشرك ، لتطلّب المسبّبات من غير أسبابها ، إذ ليس الاستقسام سبباً عاديّاً مضبوطاً ، ولا سبباً شرعيّاً ، فتمحّض لأن يكون افتراء ، مع أنّ ما فيه من توهّم الناس إيّاه كاشفاً عن مراد الله بهم ، من الكذب على الله ، لأنّ الله نصب لمعرفة المسبّبات أسباباً عقليّة : هي العلوم والمعارف المنتزعة من العقل ، أو من أدلّته ، كالتجربة ، وجعل أسباباً لا تعرف سببيتها إلاّ بتوقيف منه على لسان الرّسل : كجعل الزوال سبباً للصّلاة . وما عدا ذلك كذب وبهتان ، فمن أجل ذلك كان فسقاً ، ولذلك قال فقهاؤنا بجرحة من ينتحل ادّعاء معرفة الغيوب .
وليس من ذلك تعرّف المسبّبات من أسبابها كتعرّف نزول المطر من السحاب ، وترقّب خروج الفرخ من البيضة بانقضاء مدّة الحضانة ، وفي الحديث إذا نشأت بَحْرِيَّة ثم تشاءَمَتْ فتلكَ عين غُدَيْقَة أي سحابة من جهة بحرهم ، ومعنى عين أنها كثيرة المطر . وأمَّا أزلام الميسر ، فهي فسْق ، لأنَّها من أكل المال بالباطل .
{ اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } .
جملة وقعت معترضة بين آية المحرّمات المتقدّمة ، وبين آية الرخصة الآتِيَة : وهي قوله : { فمن اضطرّ في مخمصة } لأنّ اقتران الآية بفاء الفريع يقضي باتّصالها بما تقدّمها . ولا يصلح للاتّصال بها إلاّ قوله : { حرّمت عليكم الميتة } الآية .
والمناسبة في هذا الاعتراض : هي أنّ الله لمّا حرّم أموراً كان فعلها من جملة دين الشرك ، وهي ما أهِلّ لغير الله به ، وما ذبح على النصب ، وتحريم الاستقسام بالأزلام ، وكان في كثير منها تضييق عليهم بمفارقة معتادهم ، والتقليل من أقواتهم ، أعقب هذه الشدّة بإيناسهم بتذكير أنّ هذا كلّه إكمال لدينهم ، وإخراج لهم من أحوال ضلال الجاهلية ، وأنَّهم كما أُيِّدوا بدين عظيم سَمْح فيه صلاحهم ، فعليهم أن يقبلوا ما فيه من الشدّة الراجعة إلى إصلاحهم : فالبعض مصلحته راجعة إلى المنافع البدنية ، والبعض مصلحتهُ راجعة إلى الترفّع عن حَضِيض الكفر : وهو ما أهلّ به لِغير الله ، وما ذُبح على النُصُب . والاستقسامُ بالأزلام أذكرهم بفوزهم على من يناويهم ، وبمحاسن دينهم وإكماله ، فإنّ من إكمال الإصلاح إجرَاء الشدّة عند الاقتضاء . وذُكّروا بالنعمة ، على عادة القرآن في تعقيب الشدّة باللين . وكان المشركون ، زماناً ، إذا سمعوا أحكام الإسلام رجَوا أن تثقل على المسلمين فيرتدّوا عن الدّين ، ويرجعوا إلى الشرك ، كما قال المنافقون { لا تُنفقوا على مَن عند رسول الله حتّى يَنْفَضّوا } [ المنافقون : 7 ] . فلمّا نزلت هذه الأحكام أنزل الله هذه الآية : بشارة للمؤمنين ، ونكاية بالمشركين . وقد روي : أنَّها نزلت يوم فتح مكة ، كما رواه الطبري عن مجاهد ، والقرطبي عن الضحّاك . وقيل : نزلت يوم عرفة في حجّة الوداع مع الآية التي ستأتي عقبها . وهْو ما رواه الطبري عن ابن زيد وجمع ، ونسبه ابن عطِيّة إلى عمر بن الخطاب وهو الأصحّ .
ف { اليوم } يجوز أن يُراد به اليوم الحاضر ، وهو يوم نزول الآية ، وهو إن أريد به يوم فتح مكة ، فلا جرم أنّ ذلك اليوم كان أبهج أيّام الإسلام ، وظهر فيه من قوّة الدين ، بين ظهراني من بقي على الشرك ، ما أيْأسَهم من تقهقر أمر الإسلام ، ولا شكّ أنّ قلوب جميع العرب كانت متعلّقة بمكة وموسم الحجّ ومناسكه : التي كانت فيها حياتهم الاجتماعية والتجارية والدينية والأدبية ، وقوام شؤونهم ، وتعارفهم ، وفصل نزاعهم ، فلا جرم أن يكون انفراد المسلمين بتلك المواطن قاطعاً لبقية آمالهم : من بقاء دين الشرك ، ومن محاولة الفتّ في عضد الإسلام . فذلك اليوم على الحقيقة : يوم تمام اليأس وانقطاع الرجاء ، وقد كانوا قبل ذلك يعاودهم الرجاء تارة . فقد قال أبو سفيان يوم أحد « أعْلُ هُبَل وقال لنا العُزّى ولا عُزّى لكم » . وقال صفوان بن أمية أو أخوه ، يوم هوازن ، حين انكشف المسلمون وظنّها هزيمة للمسلمين : « ألا بطل السحر اليوم » .
وكان نزول هذه الآية يوم حجّة الوداع مع الآية التي بعدها ، كما يؤيّده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يومئذٍ في قول كثير من أصحاب السير " أيها الناس إنّ الشيطان قد يَئِس أن يُعبد في بلدكم هذا ولكنه قد رضي منكم بما دون ذلك فيما تَحْقرون من أعمالكم فاحذروه على أنفسكم "
و { اليوم } يجوز أن يراد به يوم معين ، جدير بالامتنان بزمانه ، ويجوز أن يجعل ( اليومَ ) بمعنى الآن ، أي زمان الحال ، الصادق بطائفة من الزمان ، رَسخ اليأس ، في خلالها ، في قلوب أهل الشرك بعد أن خامر نفوسهم التردّد في ذلك ، فإنّ العرب يطلقون ( اليوم ) على زمن الحال ، ( والأمس ) على الماضي ، و ( الغَد ) على المستقبل . قال زهير :
وأعْلَمُ عِلم اليومِ والأمسِ قبلَه *** ولكِنَّنِي عن عِلمِ مَا في غد عَمِي
يريد باليوم زمان الحال ، وبالأمس ما مضى ، وَبالغد ما يستقبل ، ومنه قول زياد الأعجم :
رأيتُك أمسِ خيرَ بني مَعَدّ *** وأنتَ اليوم خيرُ منكَ أمسِ
وأنت غَدا تزيد الخير خيراً *** كذاكَ تزيد سادةُ عبدِ شمس
وفعل { يئس } يتعدّى ب ( مِن ) إلى الشيء الذي كان مرجوّاً من قبلُ ، وذلك هو القرينة على أنّ دخول ( من ) التي هي لتعدية { يئس } على قوله { دينِكم } ، إنّما هو بتقدير مضاف ، أي يئسوا من أمر دينكم ، يعني الإسلام ، ومعلوم أنّ الأمر الذي كانوا يطمعون في حصوله : هو فتور انتشار الدين وارتداد متّبعيه عنه .
وتفريع النهي عن خشية المشركين في قوله : { فلا تَخشَوْهم } على الإخبار عن يأسهم من أذى الدين : لأنّ يأس العدوّ من نوال عدوّه يزيل بأسه ، ويذهب حماسه ، ويقعده عن طلب عدوّه . وفي الحديث : « ونُصِرْتُ بالرّعْب » . فلمَّا أخبر عن يأسهم طمّن المسلمين من بأس عدوّهم ، فقال : { فلا تخشوهم واخشون } أو لأنّ اليأس لمَّا كان حاصلاً من آثار انتصارات المسلمين ، يوماً فيوماً ، وذلك من تأييد الله لهم ، ذكَّر الله المسلمين بذلك بقوله : { اليومَ يئس الذين كفروا من دينكم } ، وإنّ فريقاً لم يغن عنهم بأسهم من الله شيئاً لأحرياء بأن لا يُخشى بأسهم ، وأن يُخشى مَن خَذَلهم ومكّن أولياءه منهم .
وقد أفاد قوله : { فلا تخشوهم واخشون } مفاد صيغة الحصر ، ولو قيل : فإيّاي فاخشون لجرى على الأكثر في مقام الحصر ، ولكن عُدل إلى جملتي نفي وإثبات : لأنّ مفاد كلتا الجملتين مقصود ، فلا يحسن طيّ إحداهما . وهذا من الدواعي الصارفة عن صيغة الحصر إلى الإتيان بصيغتي إثبات ونفي ، كقول السموأل أو عبد الملك بن عبد الرحيم الحارثيّ :
تَسيل على حدّ الظّبَاتِ نفوسنا *** ولَيْسَتْ على غير الظُبات تسيل
ونظيره قوله الآتي { فلا تَخْشُوْا الناسَ واخشَون } [ المائدة : 44 ] .
{ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } .
إن كانت آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نزَلت يوم حجّة الوداع بعد آية { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } بنحو العامين ، كما قال الضحّاك ، كانت جملة مستقلّة ، ابتدائية ، وكان وقوعها في القرآن ، عقب التي قبلها ، بتوقيف النبي صلى الله عليه وسلم بجمعها مع نظيرها في إكمال أمر الدّين ، اعتقاداً وتشريعاً ، وكان اليوم المعهود في هذه غير اليوم المعهود في التي قبلها وإن كانتا نزلتا معاً يومَ الحجّ الأكبر ، عام حجّة الوداع ، وهو ما رواه الطبري عن ابن زيد وآخرين .
وفي كلام ابن عطيّة أنَّه منسوب إلى عمر بن الخطّاب ، وذلك هو الراجح الذي عَوّل عليه أهل العلم وهو الأصل في موافقة التلاوة للنزول ، كان اليومُ المذكور في هذه وفي التي قبلها يوماً واحداً ، وكانت هذه الجملة تعداداً لمنّة أخرى ، وكان فصلُها عن التي قبلها جارياً على سنن الجمل التي تساق للتعداد في منَّة أو توبيخ ، ولأجل ذلك : أعيد لفظ { اليوم } ليتعلّق بقوله { أكملت } ، ولم يستغن بالظرف الذي تعلّق بقوله : { يَئِسَ } فلم يقل : وأكملت لكم دينكم .
والدّين : ما كلف الله به الأمّة من مجموع العقائد ، والأعمال ، والشرائع ، والنظم . وقد تقدّم بيان ذلك عند قوله تعالى : { إنّ الدين عند الله الإسلام } في سورة آل عمران ( 19 ) . فإكمال الدين هو إكمال البيان المراد لله تعالى الذي اقتضت الحكمة تنجيمه ، فكان بعد نزول أحكام الاعتقاد ، التي لا يسع المسلمين جهلها ، وبعد تفاصيل أحكام قواعد الإسلام التي آخرها الحجّ بالقول والفعل ، وبعد بيان شرائع المعاملات وأصول النظام الإسلامي ، كان بعد ذلك كلّه قد تمّ البيان المراد لله تعالى في قوله : { ونزّلنا عليك الكتاب تبياناً لكلّ شيء } [ النحل : 89 ] وقوله : { لتبيّن للناس ما نزّل إليهم } [ النحل : 44 ] بحيث صار مجموع التشريع الحاصل بالقرآن والسنّة ، كافياً في هدي الأمّة في عبادتها ، ومعاملتها ، وسياستها ، في سائر عصورها ، بحسب ما تدعو إليه حاجاتها ، فقد كان الدين وافياً في كلّ وقت بما يحتاجه المسلمون . ولكن ابتدأتْ أحوال جماعة المسلمين بسيطة ثمّ اتّسعت جامعتهم ، فكان الدين يكفيهم لبيان الحاجات في أحوالهم بمقدار اتّساعها ، إذ كان تعليم الدين بطريق التدريج ليتمكّن رسوخُه ، حتّى استكملت جامعة المسلمين كلّ شؤون الجوامع الكبرى ، وصاروا أمّة كأكمل ما تكون أمّة ، فكمل من بيان الدين ما به الوفاء بحاجاتهم كلّها ، فذلك معنى إكمال الدين لهم يومئذٍ . وليس في ذلك ما يشعر بأنّ الدين كان ناقصاً ، ولكن أحوال الأمّة في الأمَمِيَّة غير مستوفاة ، فلمّا توفّرتْ كمل الدين لهم فلا إشكال على الآية . وما نزل من القرآن بعد هذه الآية لعلّه ليس فيه تشريع شيء جديد ، ولكنَّه تأكيد لما تقرّر تشريعه من قبل بالقرآن أو السنّة .
فما نجده في هذه السورة من الآيات ، بعد هذه الآية ، ممّا فيه تشريع أنف مثل جزاء صيد المحرم ، نجزم بأنَّها نزلت قبل هذه الآية وأنّ هذه الآية لمّا نزلت أمر بوضعها في هذا الموضع . وعن ابن عباس : لم ينزل على النبي بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض . فلو أنّ المسلمين أضاعوا كلّ أثارة من علم والعياذ بالله ولم يبق بينهم إلاّ القرآن لاستطاعوا الوصول به إلى ما يحتاجونه في أمور دينهم . قال الشاطبي : « القرآن ، مع اختصاره ، جامع ولا يكون جامعاً إلاّ والمجموع فيه أمور كلّية ، لأنّ الشريعة تمّت بتمام نزوله لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } ، وأنت تعلم : أنّ الصلاة ، والزكاة ، والجهاد ، وأشباه ذلك ، لم تبيّن جميع أحكامها في القرآن ، إنَّما بيّنتها السُنَّة ، وكذلك العاديّات من العقود والحدود وغيرها ، فإذا نظرنا إلى رجوع الشريعة إلى كليّاتها المعنويَّة ، وجدناها قد تضمّنها القرآن على الكمال ، وهي : الضروريّات ، والحاجيات ، والتحسينات وَمُكمل كلّ واحد منها ، فالخارج عن الكتاب من الأدلّة : وهو السنّة ، والإجماع ، والقياس ، إنَّما نشأ عن القرآن وفي الصحيح عن ابن مسعود أنَّه قال : « لَعَن الله الوَاشمَات والمستوشمات والواصلات والمستوصلات والمنتمصات للحسن المغيِّرات خلقَ الله » فبلغ كلامه امرأة من بني أسد يقال لها : أم يعقوب ، وكانت تقرأ القرآن ، فأتته فقالت : « لعنتَ كذا وكذا » فذكرَتْه ، فقال عبد الله : « وما لِي لا ألعن مَن لعنَ رسولُ الله وهو في كتاب الله » ، فقالت المرأة : « لقد قرأت ما بين لَوْحَي المصحف ، فما وجدتُه » ، فقال : « لئن كنتِ قرأتيه لقد وجدتيه » : قال الله تعالى : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا } [ الحشر : 7 ] » اهـ .
فكلام ابن مسعود يشير إلى أنّ القرآن هو جامع أصول الأحكام ، وأنّه الحجّة على جميع المسلمين ، إذ قد بلغ لجميعهم ولا يسعهم جهل ما فيه ، فلو أنّ المسلمين لم تكن عندهم أثارة من علم غير القرآن لكفاهم في إقامة الدين ، لأنّ كلّيّاته وأوامره المفصّلة ظاهرة الدلالة ، ومجملاته تبعث المسلمين على تعرّف بيانها من استقراء أعمال الرسول وسلف الأمّة ، المتلقّين عنه ، ولذلك لمّا اختلف الأصحاب في شأن كتابة النبي لهم كتاباً في مرضه قال عمر : حسبنا كتاب الله ، فلو أنّ أحداً قصر نفسه على علم القرآن فوجد { أقيموا الصلاة } [ البقرة : 43 ] و { آتوا حقّه يوم حصاده } [ الأنعام : 141 ] و { كُتب عليكم الصيام } [ البقرة : 183 ] و { أتِمّوا الحجّ والعمرة لله } [ البقرة : 196 ] ، لتطلّب بيان ذلك ممّا تقرّر من عمل سلف الأمّة ، وأيضاً ففي القرآن تعليم طرق الاستدلال الشرعية كقوله : { لَعَلِمَهُ الذين يستنبطونه منهم } [ النساء : 83 ] .
فلا شكّ أنّ أمر الإسلام بدىء ضعيفاً ثم أخذ يظهر ظهورَ سنا الفجر ، وهو في ذلك كلّه دين ، يبيّن لأتباعه الخير والحرام والحلال ، فما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وقد أسلم كثير من أهل مكَّة ، ومعظم أهل المدينة ، فلمّا هاجر رسول الله أخذ الدين يظهر في مظهر شريعة مستوفاة فيها بيان عبادة الأمّة ، وآدابها ، وقوانين تعاملها ، ثم لمّا فتح الله مكة وجاءت الوفود مسلمين ، وغلب الإسلام على بلاد العرب ، تمكّن الدين وخدمتْه القوةُ ، فأصبح مرهوباً بأسُه ، ومَنع المشركين من الحجّ بعد عام ، فحجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عام عشرة وليس معه غير المسلمين ، فكان ذلك أجلى مظاهر كمال الدين : بمعنى سلطان الدين وتمكينه وحفظه ، وذلك تَبيَّن واضحاً يومَ الحجّ الذي نزلت فيه هذه الآية .
لم يكن الدين في يوم من الأيام غير كاف لأتباعه : لأنّ الدين في كلّ يوم ، من وقت البعْثة ، هو عبارة عن المقدار الذي شرعه الله للمسلمين يوماً فيوماً ، فمن كان من المسلمين آخذاً بكلّ ما أنزل إليهم في وقت من الأوقات فهو متمسّك بالإسلام ، فإكمال الدين يوم نزول الآية إكمال له فيما يُراد به ، وهو قبل ذلك كامل فيما يراد من أتباعه الحاضرين .
وفي هذه الآية دليل على وقوع تأخير البيان إلى وقت الحاجة . وإذا كانت الآية نازلة يوم فتح مكة ، كما يُروى عن مجاهد ، فإكمال الدين إكمال بقية ما كانوا محرومين منه من قواعد الإسلام ، إذ الإسلام قد فسّر في الحديث بما يشمل الحجّ ، إذ قد مكّنهم يومئذٍ من أداء حجّهم دون معارض ، وقد كمل أيضاً سلطان الدين بدخول الرسول إلى البلد الذي أخرجوه منه ، ومكّنه من قلب بلاد العرب . فالمراد من الدين دين الإسلام وإضافته إلى ضمير المسلمين لتشريفهم بذلك .
ولا يصحّ أن يكون المراد من الدين القرآن : لأنّ آيات كثيرة نزلت بعد هذه الآية ، وحسبك من ذلك بقيّة سورة المائدة وآية الكلالة ، التي في آخر النساء ، على القول بأنَّها آخر آية نزلت ، وسورة { إذا جاء نصر الله } [ النصر : 1 ] كذلك ، وقد عاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول آية { اليوم أكملت لكم دينكم } نحواً من تسعين يوماً ، يوحى إليه . ومعنى ( اليوم ) في قوله : { اليوم أكملت لكم دينكم } نظير معناه في قوله : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } .
وقوله : وأتممت عليكم نعمتي } إتمام النعمة : هو خلوصها ممّا يخالطها : من الحرج ، والتعب . وظاهره أنّ الجملة معطوفة على جملة { أكملت لكم دينكم } فيكون متعلَّقاً للظرف وهو اليوم ، فيكون تمام النعمة حاصلاً يوم نزول هذه الآية . وإتمام هذه النعمة هو زوال ما كانوا يلقونه من الخوف فمكّنهم من الحج آمين ، مؤمنين ، خالصين ، وطوّع إليهم أعداءهم يوم حجّة الوداع ، وقد كانوا من قبل في نعمة فأتمّها عليهم ، فلذلك قيّد إتمام النعمة بذلك اليوم ، لأنّه زمان ظهور هذا الإتمام : إذ الآية نازلة يوم حجّة الوداع على أصحّ الأقوال ، فإن كانت نزلت يوم فتح مكة ، وإن كان القول بذلك ضعيفاً ، فتمام النعمة فيه على المسلمين : أنْ مكّنهم من أشدّ أعدائهم ، وأحرصهم على استئصالهم ، لكن يناكده قوله : { أكملت لكم دينكم } إلاّ على تأويلات بعيدة .
وظاهر العطف يقتضي : أنّ تمام النعمة منَّة أخرى غير إكمال الدين ، وهي نعمة النصر ، والأخوّة ، وما نالوه من المغانم ، ومن جملتها إكمال الدين ، فهو عطف عامّ على خاصّ . وجوّزوا أن يكون المراد من النعمة الدّين ، وإتمامها هو إكمال الدين ، فيكون مفاد الجملتين واحداً ، ويكون العطف لمجرّد المغايرة في صفات الذات ، ليفيد أنّ الدين نعمة وأنّ إكماله إتمام للنعمة ؛ فهذا العطف كالذي في قول الشاعر أنشده الفرّاء في « معاني القرآن » :
إلى الملك القرم وابنِ الهما *** م وليثِ الكتيبة في المُزْدَحَمْ
وقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } الرضى بالشيء الرّكون إليه وعدم النفرة منه ، ويقابله السخط : فقد يرضى أحد شيئاً لنفسه فيقول : رضيتُ بكذا ، وقد يرضى شيئاً لغيره ، فهو بمعنى اختياره له ، واعتقاده مناسبته له ، فيعدّى باللام : للدلالة على أنّ رضاه لأجل غيره ، كما تقول : اعتذرت له . وفي الحديث " إنّ الله يرضى لكم ثلاثاً " ، وكذلك هنا ، فلذلك ذكر قوله : { لكم } وعُدّي { رَضيت } إلى الإسلام بدون الباء . وظاهر تناسق المعطوفات : أنّ جملة { رضيت } معطوفة على الجملتين اللتين قبلها ، وأنّ تعلّق الظرف بالمعطوف عليه الأول سار إلى المعطوفين ، فيكون المعنى : ورضيت لكم الإسلام ديناً اليومَ . وإذ قد كان رضي الإسلام ديناً للمسلمين ثابتاً في علممِ الله ذلك اليومَ وقبلَه ، تعيّن التأويل في تعليق ذلك الظرف ب { رضيت } ؛ فتأوّله صاحب « الكشاف » بأنّ المعنى : آذنتكم بذلك في هذا اليوم ، أي أعلمتكم : يعني أي هذا التأويل مستفاد من قوله { اليوم } ، لأنّ الذي حصل في ذلك اليوم هو إعلان ذلك ، والإيذان به ، لا حصول رضى الله به ديناً لهم يومئذٍ ، لأنّ الرضى به حاصل من قبل ، كما دلّت عليه آيات كثيرة سابقة لهذه الآية . فليس المراد أنّ « رضيت » مجاز في معنى « أذنت » لعدم استقامة ذلك : لأنّه يزول منه معنَى اختيار الإسلام لهم ، وهو المقصود ، ولأنَّه لا يصلح للتعدّي إلى قوله : { الإسلام } . وإذا كان كذلك فدلالة الخبر على معنى الإيذان من دلالته على لازم من لوازم معناه بالقرينة المعيّنة ، فيكون من الكناية في التركيب . ولو شاء أحد أن يجعل هذا من استعمال الخبر في لازم الفائدة ، فكما استعمل الخبر كثيراً في الدلالة على كون المخبِر عالماً به ، استعمل هنا في الدلالة على الإعلام وإعلانه .
وقد يدلّ قوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } على أنّ هذا الدين دين أبَدي : لأنّ الشيء المختار المدّخر لا يكون إلاّ أنفس ما أُظهر من الأديان ، والأنفس لا يبطله شيء إذ ليس بعده غاية ، فتكون الآية مشيرة إلى أنّ نسخ الأحكام قد انتهى .
{ فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .
وجود الفاء في صدر هذه الجملة ، مع عدم مناسبة ما بعد الفاء لما وَليتْه ، يعيِّن أن تكون متّصلة ببعض الآي التي سبقت ، وقد جعلها المفسّرون مرتبطة بآية تحريم الميتة وما عطف عليها من المأكولات ، من غير تعرّض في كلامهم إلى انتظام نظم هذه الآية مع التي قبلها . وقد انفرد صاحب « الكشاف » ببيان ذلك فجعل ما بين ذلك اعتراضاً .
ولا شكّ أنّه يَعنِي باتّصال هذه الجملة بما قبلها : اتّصال الكلام الناشىء عن كلام قبله ، فتكون الفاء عنده للفصيحة ، لأنَّه لمّا تضمَّنت الآيات تحريم كثير ممَّا كانوا يقتاتونه ، وقد كانت بلاد العرب قليلة الأقوات ، معرّضة للمخمصة : عند انحباس الأمطار ، أو في شدّة كَلَب الشتاء ، فلم يكن عندهم من صنوف الأطعمة ما يعتاضون ببعضه عن بعض ، كما طفحت به أقوال شعرائهم .
فلا جرم أن يكون تحريم كثير من معتاد طعامهم مؤذناً بتوقّعٍ منهم أن يفضي ذلك إلى امتداد يد الهلاك إليهم عند المخمصة ، فناسب أن يفصح عن هذا الشرط المعرب عن أحوالهم بتقدير : فإن خشيتم الهلاك في مخمصة فمن اضطرّ في مخمصة الخ . ولا تصلح الفاء على هذا الوجه للعطف : إذ ليس في الجمل السابقة من جمل التحريم ما يصلح لعطف « من اضطرّ في مخمصة » عليه .
والأحسن عندي أن يكون موقع { فمن اضطرّ في مخمصة } متّصلاً بقوله : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } ، اتّصال المعطوف بالمعطوف عليه ، والفاء للتفريع : تفريع منّة جزئيّة على منّة كلّيّة ، وذلك أنّ الله امتَنّ في هذه الجمل الثلاث بالإسلام ثلاث مرّات : مرّة بوصفه في قوله { دينكم } ، ومرّة بالعموم الشامل له في قوله : { نعمتي } ، ومرّة باسمه في قوله : { الإسلام } ؛ فقد تقرّر بينهم : أنّ الإسلام أفضل صفاته السماحة والرفق ، من آيات كثيرة قبل هذه الآية ، فلمّا علمَهم يوجسون خيفة الحاجة في الأزمات بعد تحريم ما حرّم عليهم من المطعومات ، وأعقب ذلك بالمنّة ثم أزال عقب ذلك ما أوجسوه من نفوسهم بقوله : { فمن اضطر } الخ ؛ فناسب أن تعطف هاته التوسعة ، وتفرّع على قوله : { ورضيتُ لكم الإسلام ديناً } وتُعَقَّب المنّة العامّة بالمنّة الخاصّة .
والاضطرار : الوقوع في الضرورة ، وفعله غلب عليه البناء للمجهول ، وقد تقدّم بيانه عند قوله تعالى : { ثم اضطرّه إلى عذاب النار } في سورة البقرة ( 126 ) .
والمخمصة : المجاعة ، اشتقّت من الخَمَص وهو ضمور البطن ، لأنّ الجوع يضمر البطون ، وفي الحديث تغدو خِماصاً فتروح بِطَاناً .
والتجانف : التمايل ، والجَنَف : الميل ، قال تعالى : { فمن خَاف من موص جَنَفَا } [ البقرة : 182 ] الآية . والمعنى أنّه اضطرّ غير مائل إلى الحرام من أخذ أموال الناس ، أو من مخالفة الدين . وهذه حال قصد بها ضبط حالة الاضطرار في الإقدام والإحجام ، فلا يقدم على أكل المحرّمات إذا كان رائماً بذلك تناولها مع ضعف الاحتياج ، ولا يحجم عن تناولها إذا خشي أن يتناول ما في أيدي الناس بالغصْب والسرقة ، وهذا بمنزلة قوله : { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد } [ البقرة : 173 ] ، أي غير باغ ولا عاد على الناس ولا على أحكام الدين .
ووقع قوله : « فإنّ الله غفور رحيم » مغنياً عن جواب الشرط لأنّه كالعلّة له ، وهي دليل عليه ، والاستغناء بمثله كثير في كلام العرب وفي القرآن . والتقديرُ : فمن اضطُرّ في مخمصة غير متجَانف لإثم فلهُ تناول ذلك إنّ الله غفور ، كما قال في الآية نظيرتها { فمن اضطرّ غير باغ ولا عاد فَلا إثم عليه إنّ الله غفور رحيم } [ البقرة : 173 ] .