المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَٰمِۚ ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (3)

{ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ }

وقوله تعالى : { حرمت عليكم الميتة } الآية تعديد لما يتلى على الأمة مما استثني من { بهيمة الأنعام } [ المائدة : 1 ] و { الميتة } كل حيوان له نفس سائلة خرجت نفسه من جسده على غير طريق الذكاة المشروع سوى الحوت والجراد على أن الجراد قد رأى كثير من العلماء أنه لا بد من فعل فيها يجري مجرى الذكاة ، وقرأ جمهور الناس «الميْتة » بسكون الياء ، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «الميّتة » بالتشديد في الياء قال الزجاج : هما بمعنى واحد ، وقال قوم من أهل اللسان : الميْت بسكون الياء ما قد مات بعد والميّت يقال لما قد مات ولما لم يمت وهو حي بعد ولا يقال له ميت بالتخفيف ورد الزجاج هذا القول واستشهد على رده بقول الشاعر :

ليس من مات فاستراح بميت . . . إنما الميت ميت الأحياء{[4429]}

قال القاضي أبو محمد : والبيت يحتمل أن يتأول شاهداً عليه لا له وقد تأول قوم استراح في هذا البيت بمعنى اكتسب رائحة إذ قائله جاهلي لا يرى في الموت راحة .

وقوله تعالى : { والدم } معناه المسفوح لأنه بهذا تقيد الدم في غير هذه الآية فيرد المطلق إلى المقيد وأجمعت الأمة على تحليل الدم المخالط للحم ، وعلى تحليل الطحال ونحوه ، وكانت الجاهلية تستبيح الدم ، ومنه قولهم : " لم ُيحرم من ُفصد له " {[4430]} ، والعلهز دم ووبر يأكلونه في الأزمات{[4431]} .

{ ولحم الخنزير } مقتض لشحمه بإجماع{[4432]} ، واختلف في استعمال شعره وجلده بعد الدباغ فأجيز ومنع وكل شيء من الخنزير حرام بإجماع جلداً كان أو عظماً ، وقوله تعالى : { وما أهلّ لغير الله به } يعني ما ذبح لغير الله تعالى وقصد به صنم أو بشر من الناس كما كانت العرب تفعل وكذلك النصارى ، وعادة الذابح أن يسمي مقصوده ويصيح به فذلك إهلاله ومنه استهلال المولود إذ صاح عند الولادة ، ومنه إهلال الهلال أي الصياح بأمره عند رؤيته ومن الإهلال قول ابن أحمر :

يهل بالفرقد ركبانها . . . كما يهل الراكب المعتمر{[4433]}

وقوله تعالى : { والمنخنقة } معناه التي تموت خنقاً وهو حبس النفس سواء فعل بها ذلك آدمي أو اتفق لها ذلك في حجر أو شجرة أو بحبل أو نحوه وهذا إجماع ، وقد ذكر قتادة أن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة وغيرها فإذا ماتت أكلوها وذكر نحوه ابن عباسرضي الله عنهما . { والموقوذة } التي ترمى أو تضرب بعصا أو بحجر أو نحوه وكأنها التي تحذف به وقال الفرزدق :

شَّغارة َتقذُ الفصيل برجلها فَطّارة لقوادم الأَبكار{[4434]}

وقال ابن عباسرضي الله عنهما : { الموقوذة } التي تضرب بالخشب حتى يوقذها فتموت ، وقال قتادة : كان أهل الجاهلية يفعلون ذلك ويأكلونها .

قال القاضي أبو محمد : ومن اللفظة قول معاوية : «وأما ابن عمر فرجل قد وقذه الورع وكفى أمره ونزوته » وقال الضحاك : كانوا يضربون «الأنعام بالخشب لآلهتهم حتى يقتلوها فيأكلونها » ، وقال أبو عبد الله الصنابحي :«ليس { الموقوذة } إلا في مالك ، وليس في الصيد وقيذ » .

قال القاضي أبو محمد : وعند مالك وغيره من الفقهاء في الصيد ما حكمه حكم الوقيذ وهو نص في قول النبي صلى الله عليه وسلم ، في المعراض{[4435]} : «وإذا أصاب بعرضه فلا تأكل فإنه وقيذ »{[4436]} { والمتردية } هي التي تتردى من العلو إلى السفل فتموت كان ذلك من جبل أو في بئر ونحوه ، هي متفعلة من الردى وهو الهلاك وكانت الجاهلية تأكل المتردي ولم تكن العرب تعتقد ميتة إلا ما مات بالوجع ونحو ذلك دون سبب يعرف فأما هذه الأسباب فكانت عندها كالذكاة ، فحصر الشرع الذكاة في صفة مخصوصة وبقيت هذه كلها ميتة ، { والنطيحة } فعيلة بمعنى مفعولة وهي الشاة تنطحها أخرى أو غير ذلك فتموت ، وتأول قوم { النطيحة } بمعنى الناطحة لأن الشاتين قد تتناطحان فتموتان ، وقال قوم : لو ذكر الشاة لقيل : والشاة النطيح كما يقال كف خضيب ولحية دهين ، فلما لم تذكر ألحقت الهاء لئلا يشكل الأمر أمذكراً يريد أم مؤنثاً ، قال ابن عباس والسدي وقتادة والضحاك : النطيحة الشاة تناطح الشاة فتموتان أو الشاة تنطحها البقر والغنم . .

قال القاضي أبو محمد : وكل ما مات ضغطاً فهو نطيح ، وقرأ أبو ميسرة «والمنطوحة » وقوله : { وما أكل السبع } يريد كل ما افترسه ذو ناب وأظفار من الحيوان كالأسد والنمر والثعلب والذئب والضبع ونحوه ، هذه كلها سباع . ومن العرب من يوقف اسم السبع على الأسد ، وكان العرب إذا أخذ السبع شاة فقتلها ثم خلصت منه أكلوها وكذلك إن أكل بعضها ، قاله قتادة وغيره .

وقرأ الحسن والفياض وطلحة بن سليطان وأبو حيوة وما «أكل السبْع » بسكون الباء وهي لغة أهل نجد{[4437]} ، وقرأ بذلك عاصم في رواية أبي بكر عنه . وقرأ عبد الله بن مسعود «وأكيلة السبع » وقرأ عبد الله بن عباس «وأكيل السبع » ، واختلف العلماء في قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } فقال ابن عباس والحسن بن أبي الحسن وعلي بن أبي طالب وقتادة وإبراهيم النخعي وطاوس وعبيد بن عمير والضحاك وابن زيد وجمهور العلماء الاسثناء هو من هذه المذكورات فما أدرك منها يطرف بعين أو يمصع{[4438]} برجل أو يحرك ذنباً وبالجملة ما يتحقق أنه لم تفض نفسه بل له حياة فإنه يذكى على سنة الذكاة ويؤكل ، وما فاضت نفسه فهو في حكم الميتة بالوجع ونحوه على ما كانت الجاهلية تعتقده ، وقال مالك رحمه الله مرة بهذا القول ، وقال أيضاً وهو المشهور عنه وعن أصحابه من أهل المدينة أن قوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } معناه من هذه المذكورات في وقت تصح فيه ذكاتها وهو ما لم تنفذ مقاتلها ويتحقق أنها لا تعيش ومتى صارت في هذا الحد فهي في حكم الميتة .

قال القاضي أبو محمد : فقال بعض المفسرين إن الاستثناء في قول الجمهور متصل وفي قول مالك منقطع لأن المعنى عنده «لكن ما ذكيتم » مما تجوز تذكيته فكلوه حتى قال بعضهم إن المعنى { إلا ماذكيتم } من غير هذه فكلوه ، وفي هذا عندي نظر ، بل الاستثناء على قول مالك متصل لكنه يخالف في الحال التي تصح ذكاة هذه المذكورات ، وقال الطبري : إن الاستثناء عند مالك من التحريم لا من المحرمات .

قال القاضي أبو محمد : وفي هذه العبارة تجوز كثير وحينئذ يلتئم المعنى ، والذكاة في كلام العرب الذبح ، قاله ثعلب قال ابن سيده : والعرب تقول ذكاة الجنين ذكاة أمه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا إنما هو حديث{[4439]} ، وذكى الحيوان ذبحه ، ومنه قوله الشاعر :

*يذكيها الأسل{[4440]}*

ومما احتج به المالكيون لقول مالك«إن ما تيقن أنه يموت من هذه الحوادث فهو في حكم الميتة »أنه{[4441]} لو لم تحرم هذه التي قد تيقن موتها إلا بأن تموت لكان ذكر الميتة أولاً يغني عنها ، فمن حجة المخالف أن قال إنما ذكرت بسبب أن العرب كانت تعتقد أن هذه الحوادث كالذكاة فلو لم يذكر لها غير الميتة لظنت أنها ميته الوجع حسب ما كانت هي عليه .

{ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ }

قوله : { وما ذبح } عطف على المحرمات المذكورات ، و { النصب } جمع واحده نصاب ، وقيل هو اسم مفرد وجمعه أنصاب وهي حجارة تنصب كل منها حول الكعبة ثلاثمائة وستون ، وكان أهل الجاهلية يعظمونها ويذبحون عليها لآلهتهم ولها أيضاً وتلطخ بالدماء وتوضع عليه اللحوم قطعاً قطعاً ليأكل الناس ، قال مجاهد وقتادة وغيرهما : { النصب } حجارة كان أهل الجاهلية يذبحون عليها ، وقال ابن عباس : ويهلون عليها ، قال ابن جريج : { النصب } ليست بأصنام ، الصنم يصور وينقش ، وهذه حجارة تنصب .

قال القاضي أبو محمد : وقد كانت للعرب في بلادها أنصاب حجارة يعبدونها ويحكون{[4442]} فيها أنصاب مكة ، ومنها الحجر المسمى بسعد وغيره ، قال ابن جريج : كانت العرب تذبح بمكة وينضحون بالدم ما أقبل من البيت ويشرحون اللحم ويضعونه على الحجارة . . فلما جاء الإسلام قال المسلمون لرسول الله صلى الله عليه وسلم نحن أحق أن نعظم هذا البيت بهذه الأفعال ، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك فأنزل الله تعالى : { لن ينال الله لحومها ولا دماؤها }{[4443]} ونزلت { وما ذبح على النصب } .

قال القاضي أبو محمد : المعنى والنية فيها تعظيم النصب ، قال مجاهد . وكان أهل مكة يبدلون ما شاؤوا من تلك الحجارة إذا وجدوا أعجب إليهم منها ، قال ابن زيد : { ما ذبح على النصب } وما أهل به لغير الله شيء واحد .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : { ما ذبح على النصب } جزء مما أهل به لغير الله ، لكن خص بالذكر بعد جنسه لشهرة الأمر وشرف الموضع وتعظيم النفوس له . وقد يقال للصنم أيضاً نصب ونصب لأنه ينصب وروي أن الحسن بن أبي الحسن قرأ «وما ذبح على النَّصْب » بفتح النون وسكون الصاد ، وقال :على الصنم ، وقرأ طلحة ابن مصرف «على النُّصْب » بضم النون وسكون الصاد ، وقرأ عيسى بن عمر «على النَّصَب » بفتح النون والصاد ، وروي عنه أنه قرأ بضم النون والصاد كقراءة الجمهور ، وقوله تعالى : { وأن تستقسموا بالأزلام } حرم به تعالى طلب القسم وهو النصيب أو القسم بفتح القاف وهو المصدر { بالأزلام } وهي سهام واحد زلم بضم الزاي وبفتحها ، وأزلام العرب ثلاثة أنواع ، منها الثلاثة التي كان يتخذها كل إنسان لنفسه على أحدها افعل ، والآخر لا تفعل ، والثالث مهمل لا شيء عليه فيجعلها في خريطة معه ، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده وهي متشابهة فأخرج أحدها وائتمر وانتهى بحسب ما يخرج له ، وإن خرج القدح الذي لا شيء فيه أعاد الضرب ، وهذه هي التي ضرب بها سراقة بن مالك بن جعشم حين اتبع النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وقت الهجرة ، والنوع الثاني سبعة قداح كانت عند هبل في جوف الكعبة فيها أحكام العرب وما يدور بين الناس من النوازل ، في أحدها العقل في أمور الديات ، وفي آخر : منكم ، وفي آخر : من غيركم ، وفي آخر : ملصق{[4444]} ، وفي سائرها أحكام المياه وغير ذلك ، وهي التي ضرب بها على بني عبد المطلب ، إذ كان نذر هو نحر أحدهم إذا أكملوا عشرة ، وهو الحديث الطويل الذي في سيرة ابن إسحاق ، وهذه السبعة أيضاً متخذة عند كل كاهن من كهان العرب وحكامهم على نحو ما كانت في الكعبة عند هبل . والنوع الثالث هو قداح الميسر ، وهي عشرة سبعة منها فيها خطوط لها بعددها حظوظ ، وثلاثة أغفال وكانوا يضربون بها مقامرة ففيها لهو للبطالين ولعب ، وكان عقلاؤهم يقصدون بها إطعام المساكين والمعدم في زمن الشتاء وَكَلب البرد وَتعذُّر التحرف ، وكان من العرب من يستقسم بها لنفسه طلب الكسب والمغامرة وقد شرحت أمرها بأوعب من هذا في سورة البقرة في تفسير الميسر ، فالاستقسام بهذا كله هو طلب القسم والنصيب وهو من أكل المال بالباطل وهو حرام ، وكل مقامرة بحمام أو بنرد أو بشطرنج أو بغير ذلك من هذه الألعاب فهو استقسام بما هو في معنى «الأزلام » حرام كله وقوله تعالى : { ذلكم فسق } إشارة إلى الاستقسام { بالأزلام } والفسق الخروج من مكان محتوٍ جامع يقال فسقت الرطبة خرجت من قشرها والفأرة من جحرها واستعملت اللفظة في الشرع فيمن يخرج من احتواء الأمر الشرعي وجمعه وإحاطته .

وقوله تعالى : { اليوم يئس الذين كفروا من دينكم } معناه عند ابن عباس من أن ترجعوا إلى دينهم وقاله السدي وعطاء ، وظاهر أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وظهور دينه يقتضي أن يأس الكفار عن الرجوع إلى دينهم قد كان وقع منذ زمان ، وإنما هذا اليأس عندي من اضمحلال أمر الإسلام وفساد جمعه لأن هذا أمر كان يترجاه من بقي من الكفار ألا ترى إلى قول أخي صفوان بن أمية في يوم هوازن حين انكشف المسلمون وظنها هزيمة : ألا بطل السحر اليوم ، إلى غير هذا من الأمثلة ، وهذه الآية نزلت في إثر حجة الوداع وقيل في يوم عرفة يوم الجمعة ، قاله عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ولم يكن المشركون حينئذ إلا في حيز القلة ولم يحضر منهم الموسم بشر ، وفي ذلك اليوم أمحى أمر الشرك من مشاعر الحج ، ويحتمل قوله تعالى : { اليوم } أن يكون إشارة إلى اليوم بعينه لا سيما في قول الجمهور عمر بن الخطاب وغيره ، إنها نزلت في عشية عرفة يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقف على ناقته وليس في الموسم مشرك . ويحتمل أن يكون إشارة إلى الزمن والوقت أي في هذا الأوان { يئس } الكفار من دينكم وقوله تعالى : { الذين كفروا } يعم مشركي العرب وغيرهم من الروم والفرس وغير ذلك وهذا يقوي أن اليأس من انحلال أمر الإسلام وذهاب شوكته ويقوي أن الإشارة باليوم إنما هي إلى الأوان الذي فاتحته يوم عرفة ولا مشرك بالموسم ويعضد هذا قوله تعالى : { فلا تخشوهم واخشون } فإنما نهى المؤمنين عن خشية جميع أنواع الكفار وأمر بخشيته تعالى التي هي رأس كل عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم ومفتاح كل خير ، وروي عن أبي عمرو أنه قرأ «ييس » بغير همزة وهي قراءة أبي جعفر .

وقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم } تحتمل الإشارة ب { اليوم } ما قد ذكرناه ، وهذا الإكمال عند الجمهور هو الإظهار واستيعاب عظم الفرائض والتحليل والتحريم . قالوا : وقد نزل بعد ذلك قرآن كثير ونزلت آية الربا ونزلت آية الكلالة إلى غير ذلك ، وإنما كمل عظم الدين وأمر الحج أن حجوا وليس معهم مشرك . وقال ابن عباس والسدي : هو إكمال تام ولم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك اليوم تحليل ولا تحريم ولا فرض ، وحكى الطبري عن بعض من قال هذا القول أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة .

قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : والظاهر أنه عاش عليه السلام أكثر بأيام يسيرة . وروي أن هذه الآية لما نزلت في يوم الحج الأكبر وقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يبكيك ؟ فقال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذ كمل فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم ( صدقت ){[4445]} .

وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال له يهودي : آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال له عمر أية آية هي ؟ فقال له : { اليوم أكملت لكم دينكم } فقال له عمر قد علمنا ذلك اليوم نزلت على رسول الله وهو واقف بعرفة يوم الجمعة{[4446]} .

قال القاضي أبو محمد : ففي ذلك اليوم عيدان لأهل الإسلام إلى يوم القيامة ، وقال داود بن أبي هند للشعبي إن اليهود تقول كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي كمل الله لها دينها فيه فقال الشعبي أو ما حفظته ؟ قال داود : فقلت أي يوم هو ؟ قال يوم عرفة ، وقال عيسى بن جارية الأنصاري كنا جلوساً في الديوان فقال لنا نصراني مثل ما قال اليهودي لعمر بن الخطاب فما أجابه منا أحد فلقيت محمد بن كعب القرظي فأخبرته فقال هلا أجبتموه ، قال عمر بن الخطاب أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم عرفة{[4447]} .

قال القاضي أبو محمد : وذكر عكرمة عن عمر بن الخطاب أنه قال : نزلت سورة المائدة بالمدينة يوم الاثنين ، وقال الربيع بن أنس نزلت سورة المائدة في مسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حجة الوداع ، وهذا كله يقتضي أن السورة مدنية بعد الهجرة ، وإتمام النعمة هو في ظهور الإسلام ونور العقائد وإكمال الدين وسعة الأحوال وغير ذلك مما انتظمته هذه الملة الحنيفية إلى دخول الجنة والخلود في رحمة الله هذه كلها نعم الله المتممة قَبلنا ، وقوله تعالى : { ورضيت لكم الإسلام ديناً } يحتمل الرضا في هذا الموضع أن يكون بمعنى الإرادة ويحتمل أن يكون صفة فعل عبارة عن إظهار الله إياه لأن الرضى من الصفات المترددة بين صفات الذات وصفات الأفعال والله تعالى قد أراد لنا الإسلام ورضيه لنا ، وثم أشياء يريد الله تعالى وقوعها ولا يرضاها ، والإسلام في هذه الآية هو الذي في قوله تعالى : { إن الدين عند الله الإسلام }{[4448]} وهو الذي تفسر في سؤال جبريل النبي صلى الله عليه وسلم وهو الإيمان والأعمال والشعب .

وقوله تعالى : { فمن اضطر في مخمصة } يعني من دعته ضرورة إلى أكل الميتة وسائر تلك المحرمات ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم [ متى تحل الميتة ؟ فقال : إذا لم تصطحبوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بها بقلاً{[4449]} . ]

قال القاضي أبو محمد : فهذه مثال في حال عدم المأكول حتى يؤدي ذلك إلى ذهاب القوى والحياة ، وقرأ ابن محيصن «فمن اُّطر » بإدغام الضاد والطاء وليس بالقياس ولكن العرب استعملته في ألفاظ قليلة استعمالاً كثيراً وقد تقدم القول في أحكام الاضطرار في نظير هذه الآية في سورة البقرة و «المخمصة » المجاعة التي تخمص فيها البطون أي تضمر ، والخمص ضمور البطن فالخلقة منه حسنة في النساء ومنه يقال : خمصانة وبطن خميص ، ومنه أخمص القدم ، ويستعمل ذلك كثيراً في الجوع والغرث ، ومنه قول الأعشى :

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** وجاراتكم غرثى يبتن خمائصا{[4450]}

أي منطويات على الجوع قد أضمر بطونهن ، وقوله تعالى : { غير متجانف لإثم } وهو بمعنى { غير باغ ولا عاد }{[4451]} وقد تقدم تفسيره وفقهه في سورة البقرة والجنف الميل ، وقرأ أبو عبد الرحمن ويحيى بن وثاب وإبراهيم النخعي «غير متجنف » ، دون ألف وهي أبلغ في المعنى من { متجانف } ، لأن شد العين يقتضي مبالغة وتوغلاً في المعنى وثبوتاً لحكمه ، وتفاعل إنما هي محاكاة الشيء والتقرب منه . ألا ترى إذا قلت تمايل الغصن فإن ذلك يقتضي تأوداً ، ومقاربة ميل ، وإذا قلت تميل فقد ثبت حكم الميل ، وكذلك تصاون وتصون وتغافل وتغفل وقوله تعالى : { فإن الله غفور رحيم } نائب مناب فلا حرج عليه إلى ما يتضمن من زيادة الوعد وترجية النفوس وفي الكلام محذوف يدل عليه المذكور تقديره فأكل من هذه المحرمات المذكورات .


[4429]:- نسبه في "لسان العرب" إلى عدي بن الرعلاء، وبعده: إنما الميت من يعيش كئيبا كاسفا باله قليل الرجاء فأناس يمصصون ثمــادا وأناس حلوقهم في الماء وكما اختلفوا في معنى كل من ميت وميّت، اختلفوا كذلك في دلالة كل من ميت ومائت فقالوا: حكى الجوهري عن الفراء: يقال لمن لم يمت: إنه مائت عن قليل وميّت، ولا يقولون لمن مات: هذا مائت. قيل: وهذا خطأ، وإنما ميت يصلح لما قد مات ولما سيموت، قال الله تعالى: {إنك ميت وإنهم ميتون}. وقد جمع بين اللغتين عدي بن الرعلاء في أبياته حين جعل الميت كالميت
[4430]:- هذا مثل يضرب لمن يحصل على بعض حاجته، ويروي "من فزدله". وفصد من الفصد. كانوا إذا أعياهم قرى الضيف فصدوا بعيرا وعالجوا دمه بشيء فأكلوه، وأصل المثل أن رجلين باتا عند أعرابي فالتقيا صباحا، فسأل أحدهما صاحبه عن القرى فقال: ما قريت، وإنما فصد لي، فقال: "لم يحرم من فصد له".
[4431]:- كانت العرب في الجاهلية تأكل العلهز في الجدب، وفي حديث عكرمة: (كان طعام أهل الجاهلية العلهز)، وأنشد ابن شميل: وإن ثرى قحطان قرف وعلهز فأقبح بهذا ويح نفسك من فعل وفي الحديث في دعائه عليه الصلاة والسلام على مضر: (اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فابتلوا بالجوع حتى أكلوا العلهز). (راجع اللسان).
[4432]:- قال في "البحر المحيط": "وليس كذلك، فقد خالف فيه داود وغيره".
[4433]:- الفرقد: نجم قريب من القطب الشمالي ثابت الموقع تقريبا، ولذا يهتدى به، وهو المسمى: "النجم القطبي"، ويقربه نجم آخر مماثل له وأصغر منه، وهما فرقدان. والمعتمر: الزائر (في رأي الأصمعي)، وقال أبو عبيدة: المعتمر: المتعمم بالعمامة. ومعنى البيت كما قال الأصمعي: "إذا انجلى لهم السحاب عن الفرقد أهلوا، أي: رفعوا أصواتهم بالتكبير"- وقد فسّر غير (الفرقد) بأنه ولد البقرة، ولهذا قالوا: "إن معنى البيت أنهم في مفازة بعيدة من المياه فإذا رأوا ولد البقرة رفعوا أصواتهم بالتكبير والتهليل". –وأصل الإهلال هو رفع الصوت، وفي الحديث: (الصبي إذا ولد لم يورث ولم يرث حتى يستهل صارخا).
[4434]:- البيت في وصف ناقة، والشّغارة هي التي ترفع قوائمها لتضرب، وتقذ: تضرب الفصيل حتى تصرعه أو تتركه مريضا، والفصيل: ولد الناقة أو البقرة بعد فطامه وفصله عن أمه-وهذا هو سبب ضربها له- والفطر: الحلب بالسبابة والوسطى ويستعان بطرف الإبهام، وخلفا الضرع المقدمان: هما القادمان، وجمعه: القوادم، والأبكار تحلب فطرا، لأنه لا يمكن حلبها كما يقال ضبا لقصر الخلف، لأنها صغار- والفطر: القليل من اللبن- والحلب ضبا هو الحلب بقوة وشدة.
[4435]:- المعراض: سهم يرمى به بلا ريش، وأكثر ما يصيب بعرض عوده دون حده.
[4436]:- في الصحيحين وغيرهما عن عدي قال: قلت يا رسول الله، إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب، فقال عليه الصلاة والسلام: (إذا رميت بالمعراض فخرق فكله، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله).
[4437]:- قال حسان في عتبة بن أبي لهب: متى يرجع العام إلى أهله فما أكيل السبع بالراجع
[4438]:- يقال: مصعت الدابة بذنبها: حركته من غير عدد.
[4439]:-قال القرطبي: "الحديث الذي أشار إليه أخرجه الدارقطني من حديث أبي سعيد، وأبي هريرة، وعلي، وعبد الله".
[4440]:- نقله في القرطبي هكذا، وذكره بنفس الصورة في اللسان، ولم ينسبه أحد منهما ولا من المحققين. والأسل: الرماح
[4441]:- قوله: "أنه لو لم تحرم" مبتدأ مؤخر، والخبر قوله في بداية الكلام: "ومما احتج به المالكيون" وجملة: "إن ما تيقن...الخ" هي قول مالك، وقد وضعناها بين علامتي التنصيص.
[4442]:- أي: يحاكون فيها أنصاب مكة.
[4443]:- من الآية (37) من سورة (الحج)
[4444]:- كان العرب إذا شكوا في نسب أحدهم ذهبوا إلى هبل وبمائة درهم وجزور فأعطوها صاحب القداح الذي يضرب بها، ثم قربوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا: يا إلهنا، هذا فلان بن فلان قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه، ثم يقولون لصاحب القداح: اضرب، فإن خرج عليه "منكم" كان منهم وسيطا، وإن خرج "من غيركم" كان حليفا، وإن خرج "ملصق" كان على منزلته فيهم لا نسب له ولا حلف- (عن سيرة ابن هشام). ويمكنك الرجوع إليها ففيها توضيح أكثر.
[4445]:- أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، عن عنترة- ولم يفهم الصحابة كلهم ما فهمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد أخرج ابن جرير، وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "أخبر الله نبيه والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا تحتاجون إلى زيادة أبدا، وقد أتمه فلا ينقص أبدا، وقد رضيه فلا يسخطه أبدا" فقد نظر إلى الآية نظرة شاملة تناولت ما فيها من إكمال وإتمام ورضا. والله أعلم.
[4446]:- أخرجه الحميدي، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن حبان، والبيهقي في سننه- عن طارق بن شهاب.
[4447]:- أخرجه ابن جرير عن عيسى بن حارثة الأنصاري، وفي (الدر المنثور) زيادة في آخره: (فلا يزال ذلك اليوم عيدا للمسلمين ما بقي منهم أحد)
[4448]:- من الآية (69) من سورة (آل عمران)
[4449]:- تصطحبوا: تشربون الصبوح، وهو ما يشرب في الصباح، وتغتبقوا: تشربون الغبوق، وهو ما يشرب في المساء، والاحتفاء قال فيه أبو سعيد الضرير صوابه: ما تحتفوا بها- من أحفى الشعر أزاله، وقيل: هو من الجفا وبالهمزة وهو أصل البردي، وقد يؤكل النوع الأبيض منه، يقول: ما تقتلعوا هذا بعينه فتأكلوه، وأورد اللسان الحديث هكذا (وفي الحديث أنه سئل: متى تحل لنا الميتة؟ فقال: ما لم تصطحبوا أو تغتبقوا أو تحتفوا بقلا، فشأنكم بها) مادة (صبح) ولعل الخطأ في الأصل هنا من النساخ.
[4450]:- هذا البيت من قصيدة قالها الأعشى يهجو علقمة بن علاثة، وغرثى: جوعى- ورواية الديوان: (جوعى)، وبعده: يراقبن من جوع خلال مخافة نجوم السماء العاتمات الغوامصا
[4451]:- من قوله تعالى في الآية (173) من سورة (البقرة): {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه، إن الله غفور رحيم}.