ثم بين تعالى المحرمات التي أشير إليها بقوله تعالى : { إلا ما يتلى عليكم } ، فقال : { حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلك فسق ، اليوم يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون ، اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ، فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم } .
{ حرمت عليكم الميتة } وهي ما فارقه الروح بغير سبب خارجي . لأنها تنجست بمفارقته من غير مطهر ، من ذكر اسم الله تحقيقا أو تقديرا ، كإسلام الذابح . كذا في ( التبصير ) . وقد خص من { الميتة } السمك بالسنة : فإنه حلال . مات بتذكية أو غيرها . لما رواه مالك في ( موطأه ) ، والشافعي وأحمد في ( مسنديهما ) ، وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه في ( سننهم ) ، وابن خزيمة وابن حبان في ( صحيحيهما ) ، عن أبي هريرة{[2721]} : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم/ سئل عن ماء البحر ؟ فقال : هو الطهور ماؤه الحل ميتته " . وهكذا الجراد . لما سيأتي . قال الرازي : تحريم الميتة موافق لما في العقول . لأن الدم جوهر لطيف جدا . فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه ، وتعفن وفسد ، وحصل من أكله مضار عظيمة انتهى .
أخرج ابن منده في كتاب ( الصحابة ) من طريق عبد الله بن جبلة بن حبان بن حجر عن أبيه عن جده حبان قال : " كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنا أوقد تحت قدر فيها لحم ميتة . فأنزل تحريم الميتة فأكفأت القدر " { والدم } أي : المسفوح منه . لقوله تعالى في الأنعام{[2722]} : { أو دما مسفوحا } . وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس : " أنه سئل عن الطحال ؟ فقال : كلوه . فقالوا : إنه دم . فقال : إنما حرم عليكم الدم المسفوح " . وكذا رواه حماد بن سلمة عن يحيى بن سعيد عن القاسم عن عائشة قالت : " إنما نهي عن الدم السافح " .
قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي : حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمر مرفوعا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم{[2723]} : " أحل لنا ميتتان ودمان . فأما الميتتان فالسمك والجراد . وأما الدمان فالكبد والطحال " . وكذا رواه أحمد بن حنبل / وابن ماجة والدارقطني والبيهقي من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم . وهو ضعيف . قال الحافظ البيهقي : ورواه إسماعيل بن أبي إدريس ، عن أسامة ، وعبد الله وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، عن ابن عمر ، مرفوعا . قال الحافظ ابن كثير : وثلاثتهم كلهم ضعفاء . ولكن بعضهم أصلح من بعض . وقد رواه سليمان بن بلال ، أحد الأثبات ، عن زيد بن أسلم عن ابن عمر . فوقفه بعضهم عليه . قال الحافظ أبو زرعة الرازي : هو أصح . نقله ابن كثير .
أقول : أقوى مما ذكر في الحجة ، ما في ( الصحيحين ) {[2724]} وغيرهما من حديث ابن أبي أوفى قال : " غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد " . وفيهما أيضا من حديث{[2725]} جابر ؛ " إن البحر ألقى حوتا ميتا فأكل منه الجيش . فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : فقال : كلوا رزقا أخرجه الله لكم . أطعمونا منه إن كان معكم . فأتاه بعضهم بشيء " . وفي البخاري{[2726]} عن عمر : " في قوله تعالى{[2727]} : { وأحل لكم صيد البحر وطعامه } . قال : صيده ما اصطيد . وطعامه ما رمى به " وفيه عن ابن عباس قال : " طعامه ميتته " .
قال ابن كثير : روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو صدي بن عجلان قال : " بعثني/ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله ، وأعرض عليهم شرائع الإسلام . فأتيتهم فبينما نحن كذلك ، إذ جاءوا بقصعة من دم فاجتمعوا عليها يأكلونها . فقالوا : هلم ، يا صدي ! فكل . قال ، قلت : ويحكم . إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم . فأقبلوا عليه ، قالوا : وما ذاك ؟ فتلوت عليهم هذه الآية : { حرمت عليكم الميتة والدم . . . } الآية " . ورواه الحافظ أبو بكر بن مردويه . وزاد بعد هذا السياق قال : " فجعلت أدعوهم إلى الإسلام ويأبون علي . فقلت : ويحكم ! اسقوني شربة من ماء فإني شديد العطش . قال ، وعلي عباءتي . فقالوا : لا . ولكن ندعك حتى تموت عطشا . قال : فاغتممت وضربت برأسي في العباء . ونمت على الرمضاء في حر شديد . قال ، فأتاني آت في منامي بقدح من زجاج . لم ير الناس أحسن منه . وفيه شراب لم ير الناس ألذ منه . فأمكنني منه فشربته . فلما فرغت من شرابي استيقظت . فلا ، والله ! ما عطشت ولا عربت ( عرب كفرح فسدت معدته . قاموس ) بعد تيك الشربة " .
ورواه الحاكم في ( مستدركه ) عن علي بن حماد ، عن أحمد بن حنبل بسنده إلى أبي أمامة . وزاد بعد قوله " بعد تيك الشربة " : " فسمعتهم يقولون : أتاكم رجل من سراة قومكم فلم تمجعوه{[2728]} بمذقة فأتوني بمذقة فقلت : لا حاجة لي فيها . إن الله أطعمني وسقاني . وأريتهم بطني . فأسلموا عن آخرهم " . انتهى .
قال الزمخشري : كان أهل الجاهلية يأكلون هذه المحرمات : البهيمة التي تموت حتف أنفها . والفصيد ، وهو الدم في المباعر ، يشوونها ويقولون لم يحرم من فزد له{[2729]} . / وتقدم الكلام{[2730]} على ذلك في سورة البقرة في قوله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة والدم . . . } الآية{[2731]} .
قال المهايمي : حرم الدم لأنه متعلق الروح بلا واسطة . فأشبه النجس بالذات ، لا يؤثر فيه المطهر . { ولحم الخنزير } لأنه نجس في حياته بصفاته الذميمة وهي ، وإن زالت بالموت ، فهو منجس ولم يقبل التطهير . لأنه لما كان نجسا حال الحياة والموت ، أشبه النجس بالذات . فكأنه زيد تنجيسه بالموت . وإنما ذكر اللحم إشارة إلى أنه ، وإن لم يكن موصوفا في الحياة بالصفات المنجسة لروحه ، كان متنجسا بنجاسة روحه ، ثم بزوال الروح . انتهى .
قال ابن كثير : وقوله تعالى : { ولحم الخنزير } . يعني إنسيه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم . كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطرد . وفي ( صحيح مسلم ) عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال{[2732]} : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لعب بالنردشير ، فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه " . فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس ، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به ؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره . وفي ( الصحيحين ) {[2733]} : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله حرم بيع الخمر/ والميتة والخنزير والأصنام : فقيل : يا رسول الله ! أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس ؟ فقال : لا . هو حرام " { وما أهل لغير الله به } أي : نودي عليه بغير اسم الله ، كما في ( الصحاح ) وأصل الإهلال رفع الصوت . وكان العرب في الجاهلية ، يذكرون أسماء أصنامهم عند الذبح . فحرم الله ذلك بهذه الآية . وبقوله{[2734]} : { ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه } .
قال ابن كثير في الآية : أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام ، لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقاته على اسمه العظيم . فمن عدل بها عن ذلك ، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع . وإنما اختلف العلماء في متروك التسمية ، إما عمدا أو نسيانا . كما سيأتي تقريره في سورة الأنعام ، إن شاء الله تعالى .
وروى ابن أبي حاتم عن الجارود بن أبي سبرة قال : " كان رجل من بني رباح يقال له : ابن نائل . وكان شاعرا . نافر غالبا ، جد الفرزدق بماء بظهر الكوفة . على أن يعقر هذا مائة من إبله ، إذا وردت الماء . فلما وردت الماء ، قاما بسيفيهما فجعلا يكشفان عراقيبها . قال : فخرج الناس على الحمرات والبغال يريدون اللحم . وعلي بالكوفة . قال : فخرج علي . على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء ، وهو ينادي : يا أيها الناس ! لا تأكلوا من لحومها . فإنما أهل بها لغير الله " . هذا أثر غريب . / يشهد له بالصحة ما رواه أبو داود عن ابن عباس قال{[2735]} : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معاقرة الأعراب " . ثم أسند عن عكرمة{[2736]} : " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن طعام المتباريين أن يؤكل " . أفاده ابن كثير .
وفي ( القاموس وشرحه ) : وعاقره : فاخره وكارمه في عقر الإبل . ويقال : تعاقرا إذا عقرا إبلهما . يتباريان بذلك ، ليرى أيهما أعقر لها . ومن ذلك معاقرة غالب بن صعصعة ، أبي الفرزدق وسحيم بن وثيل الرياحي لما تعاقرا بصوأر . فعقر سحيم خمسا ثم بدا له . وعقر غالب مائة .
وفي حدث ابن عباس : " لا تأكلوا من تعاقر الأعراب . فإني لا آمن أن يكون مما أهل به لغير الله " . قال ابن الأثير : هو عقرهم الإبل . كان الرجلان يتباريان في الجود والسخاء . فيعقر هذا وهذا . حتى يعجز أحدهما الآخر . وكانوا يفعلونه رياء وسمعة وتفاخرا . ولا يقصدون به وجه الله تعالى . فشبهه بما ذبح لغير الله تعالى . انتهى .
وروى الإمام مسلم عن علي{[2737]} رضي الله عنه قال : " حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات : لعن الله من ذبح لغير الله . لعن الله من لعن والديه . لعن الله من آوى محدثا . لعن الله من غير منار الأرض " .
وروى الإمام أحمد عن طارق بن شهاب ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : / " دخل الجنة رجل في ذباب ، ودخل رجل النار في ذباب قالوا : كيف ذلك ؟ يا رسول الله ! قال : مر رجلان على قوم لهم صنم لا يجوزه له أحد حتى يقرب له شيئا . فقالوا لأحدهما : قرب قال : ليس عندي شيء أقرب . قالوا له : قرب ولو ذبابا . فقرب ذبابا ، فخلوا سبيله ، فدخل النار . وقالوا للآخر : قرب . فقال : ما كنت لأقرب لأحد شيئا دون الله عز وجل . فضربوا عنقه . فدخل الجنة " . وفي هذه القصة ترهيب من وجوه : منها كونه دخل النار بسبب ذلك الذباب الذي لم يقصده ، بل فعله تخلصا من شرهم . ومنها معرفة قدر الشرك في قلوب المؤمنين ، كيف صبر ذلك على القتل ولم يوافقهم على طلبتهم . مع كونهم لم يطلبوا إلا العمل الظاهر . ومنها أن في هذا شاهدا للحديث الصحيح{[2738]} : " الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك " . كذا في كتاب ( التوحيد ) .
{ والمنخنقة } وهي التي تموت بالخنق إما قصدا وإما اتفاقا . بأن تتخبل في وثاقها فتموت به . قال الحسن وغيره : هي التي تختنق بحبل المصائد أو غيره . وبأي وجه اختنقت فهي حرام . وقال ابن عباس : " كانت الجاهلية يخنقون الشاة ، حتى إذا ماتت أكلوها " . والمنخنقة من جنس الميتة . لأنها لما ماتت ، وما سال دمها ، كانت كالميت حتف أنفه . إلا أنها فارقت الميتة بكونها تموت بسبب انعصار الحلق بالخنق ، بخلاف الميتة فإنها بلا سبب .
قال المهايمي : المنخنقة ، وإن ذكر اسم الله عليها فقد عارضه سريان خباثة الخانق إليها ، مع تنجسها بالموت { والموقوذة } يعني المقتولة بالخشب . وكان أهل الجاهلية يضربون الشاة بالعصي . حتى إذا ماتت أكلوها . وفي ( القاموس وشرحه ) الوقذ شدة الضرب . وقذه يقذه وقذا : ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت . وشاة وقيذ وموقوذة قتلت بالخشب . وقال أبو سعيد : الوقذ الضرب على فأس القفا . فيصير هدتها إلى الدماغ ، فيذهب / العقل . فيقال : رجل موقوذ . وفي ( الصحيح ) {[2739]} أن عدي بن حاتم قال : " قلت : يا رسول الله ! إني أرمي بالمعراض الصيد ، فأصيب . قال : إذا رميت بالمعراض فخزق فكله . وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ ، فلا تأكله " . { والمتردية } هي الساقطة من جبل أو في بئر ، فتموت . والتردي السقوط مهواة . وهذه الثلاثة هي معنى الميتة . فإنها ماتت ولم يسل دمها . { والنطيحة } هي التي نطحتها أخرى فماتت . فهي حرام . وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها . وإن أرسل إنسان الناطح بذكر اسم الله . لأنه لما لم يكن بطريق الصيد المشروع ، لم تخل من خباثة .
قال التبريزي في ( تهذيبه ) وابن قتيبة في ( أدب الكاتب ) : ما كان على فعيل ، نعتا للمؤنث وهو في تأويل مفعول ، كان بغير هاء . نحو كف خضيب وملحفة غسيل . وربما جاءت بالهاء يذهب بها مذهب الأسماء . نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع . . وقالوا : ملحفة جديد . لأنها في تأويل مجدودة أي مقطوعة . وإذا لم يجز فيه مفعول فهو بالهاء . نحو مريضة وظريفة وكبيرة وصغيرة . وجاءت أشياء شاذة . فقالوا : ريح خريق وناقة سديس وكثيبة خصيف .
وقال ابن السكيت : قد تأتي فعيلة بالهاء وهي تأويل مفعول بها . تخرج مخرج الأسماء ولا يذهب بها مذهب النعوت . نحو النطيحة والذبيحة والفريسة وأكيلة السبع ، ومررت بقتيلة بني فلان .
وقال الجوهري : إنما جاءت النطيحة بالهاء ، لغلبة الاسم عليها . وكذلك الفريسة والأكيلة والرمية . لأنه ليس هو على ( نطحتها ، فهي منطوحة ) وإنما هو الشيء في نفسه مما ينطح والشيء مما يفرس ويؤكل .
{ وما أكل السبع } أي ما عدا عليها فأكل بعضها . قال قتادة : كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله أو أكل منه ، أكلوا ما بقي منه . فحرمه الله تعالى .
قال المهايمي : هو ، وإن أشبه الصيد ، لكنه لما أكله قصد بذلك نفسه ، فسرت خباثته فيها . انتهى . و { السبع } بضم الباء وفتحها وسكونها : المفترس من الحيوان . مثل الأسد والذئب والنمر والفهد . وما أشبهها مما له ناب ، ويعدو على الناس والدواب فيفترسها . وسمي بذلك لتمام قوته . وذلك أن { السبع } من الأعداد التامة ، وفي الآية محذوف تقديره : وما أكل السبع بعضه . كما ذكرنا . لأن ما أكله فقد فقد . فلا حكم له ، إنما الحكم للباقي منه . وقوله تعالى : { إلا ما ذكيتم } أي ما أدركتم ذكاته من هذه المذكورات المنخنقة فما بعدها . بحيث ينسب موتها إلى الذبح دون غيره ، فإنه يتحقق فيه المطهر ، ولا يؤثر فيه السابق . لأن اللاحق ينسخه . بل هو واقع قبل تأثير السابق . إذ لا يتم التأثير إلا بالموت . أفاده المهايمي .
قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : " أي : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح ، فكلوه فهو ذكي " . وكذا روي عن سعيد بن جبير والحسن والسدي . وروى ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه عن علي ، في الآية قال : " إن مصعت{[2740]} بذنبها ، أو ركضت برجلها ، أو طرفت بعينها ، فكل " . وروى ابن جرير{[2741]} عن الحرث عن علي أيضا قال : " إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة ، وهي تحرك يدا أو رجلا ، فكلها " . وهكذا روي عن طاوس والحسن وقتادة وعبيد بن عمير والضحاك وغير واحد ؛ أن المذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح ، فهي حلال . وهذا مذهب جمهور الفقهاء . أفاده ابن كثير .
وفي ( الموطأ ) {[2742]} : سئل مالك عن شاة تردت فتكسرت ، فأدركها صاحبها فذبحها ، / فسال الدم منها ولم تتحرك ؟ فقال مالك : إذا كان ذبحها ونفسها يجري وهي تطرف ، فليأكلها .
والتذكية الذبح ، كالذكا والذكاة . قال الراغب : حقيقة التذكية إخراج الحرارة الغريزية . لكن خص في الشرع بإبطال الحياة على وجه دون وجه . أي وهو قطع الحلقوم والمريء . بمنهر للدم : من سكين وسيف وزجاج وحجر وقصب ، له حد يقطع كما يقطع السلاح المحدد . ما لم يكن سنا أو ظفرا . لحديث رافع بن خديج في ( الصحيحين ) {[2743]} وغيرهما قال : " قلت يا رسول الله ! إنا لاقو العدو غدا . وليس معنا مدي . أفنذبح بالقصب ؟ فقال : ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه ، فكلوه . ليس السن والظفر . وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم . وأما الظفر فمدي الحبشة " .
وأما حديث أبي العشراء عن أبيه : " قلت : يا رسول الله ! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة{[2744]} ؟ قال : لو طعنت في فخذها لأجزأك " . أخرجه أحمد وأهل ( السنن ) - ففي إسناده مجهولون . / وأبو العشراء لا يعرف من أبوه . ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة . فهو مجهول . كذا في ( الروضة ) .
وقال الحافظ ابن حجر في ( التلخيص ) : أبو العشراء مختلف في اسمه وفي اسم أبيه . وقد تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه على الصحيح . ولا يعرف حاله .
وقال في ( التقريب ) : أعرابي مجهول .
قال الترمذي في ( جامعه ) ، بعد سوقه لهذا الحديث : قال أحمد بن منيع : قال يزيد بن هارون : هذا في الضرورة . وفي الباب عن رافع بن خديج . انتهى .
وقال ابن كثير : وهذا الحديث صحيح . ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة . انتهى .
وتصحيحه له ، مع جهالة رواية المذكور ، فيه نظر . فإن حد الصحيح كما في ( التقريب ) ما اتصل إسناده بالعدول الضابطين من غير شذوذ ولا علة . قال ( شارحه السيوطي ) : فخرج بقيد ( العدول ) ما نقله مجهول عينا أو حالا . أي : فليس بصحيح بل ضعيف .
وفي ( النخبة ) أن خبر الآحاد مقبول ومردود ، والثاني إما لسقط من إسناد أو طعن في راو . والطعن إما لكذب أو تهمته بذلك . إلى أن قال : أو جهالته بأن لا يعرف فيه تعديل ولا تجريح معين . فتبصر .
{ وما ذبح على النصب } قال الزمخشري : كانت لهم حجارة منصوبة حول البيت . يذبحون عليها ويشرحون اللحم عليها . يعظمونها بذلك ويتقربون به إليها . تسمى الأنصاب .
قال ابن كثير : فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع وحرم عليهم أكل هذه الذبائح ، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله . لما في الذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله . انتهى .
وقد ورد النهي عن الذبح لله بمكان يذبح فيه لغيره تعالى . فروى أبو داود{[2745]} ، بإسناد / على شرط الشيخين ، عن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه قال : " نذر رجل أن ينحر إبلا ببوانة . فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية يعبد ؟ قالوا : لا . قال : هل كان فيها عيد من أعيادهم ؟ قالوا : لا . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أوف بنذرك . فإنه لا وفاء لنذر في معصية الله ، ولا فيما لا يملك ابن آدم " .
ففيه ، أن المعصية قد تؤثر في الأرض . وكذلك الطاعة . وفيه المنع من النذر إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ، ولو بعد زواله . أو عيد من أعيادهم ، ولو بعد زواله أيضا . وأنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة لأنه نذر معصية . وفيه الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ، ولو لم يقصده . كذا في ( كتاب التوحيد ) .
{ النصب } بضمتين ، وضم فسكون ، إما جمع ، واحده نصاب . ككتاب وكتب . أو مفرد جمعه أنصاب كعنق وأعناق . وقفل وأقفال . وفي ( القاموس وشرحه ) : النصب : كل ما نصب وجعل علما . وكل ما نصب فعبد من دون الله تعالى . والأنصاب حجارة كانت حول الكعبة تنصب فيهل عليها ويذبح لغير الله تعالى . وقال القتيبي : النصب صنم أو حجر . وكانت الجاهلية تنصبه تذبح عنده ، فيحمر بالدم . ومنه حديث{[2746]} أبي ذر في إسلامه قال : / " فخرجت مغشيا علي ثم ارتفعت كأني نصب أحمر " . يريد أنهم ضربوه حتى أدموه . فصار كالنصب المحمر بدم الذبائح . انتهى .
قال ابن جريج : كانت النصب ثلاثمائة وستين نصبا . وكانوا يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت ، بدماء تلك الذبائح . ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب .
{ وأن تستقسموا بالأزلام } أي : وحرم عليكم ، أيها المؤمنون ، الاستقسام بالأزلام . أي : طلب القسم والحكم بها . والأزلام جمع زلم ( محركة ) . و ( كصرد ) وهي : قداح ثلاثة كانوا يستقسمون بها في الجاهلية . مكتوب على أحدها : ( افعل ) وعلى الآخر ( لا تفعل ) والثالث غفل ، ليس عليه شيء . وقد زلمت وسويت ووضعت في الكعبة . يقوم بها سدنة البيت . فإذا أراد رجل سفرا أو نكاحا ، أتى السادن وقال : أخرج لي زلما . فيجيلها ثم يخرج زلما منها . فإذا خرج قدح الأمر ، مضى على ما عزم عليه . أو النهي قعد عما أراده . أو الفارغ أعاد .
قال الأزهري ( في معنى الآية ) : أي : تطلبوا من جهة الأزلام ما قسم لكم من أحد الأمرين . فمعنى الاستقسام هو طلب معرفة ما قسم له من الخير والشر ، مما لم يقسم له بواسطة ضرب القداح . وذكر محمد بن إسحق وغيره ؛ أن أعظم أصنام قريش ، صنم كان يقال له هبل . منصوب على بئر داخل الكعبة ، فيها توضع الهدايا ، وأموال الكعبة فيه . وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم . فما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه . وفي ( اللباب ) : كانت أزلامهم سبع قداح مستوية مكتوب على واحد منها : ( أمرني ربي ) وعلى واحد : ( نهاني ) وعلى واحد : ( منكم ) وعلى واحد ( من غيركم ) وعلى واحد : ( ملصق ) وعلى واحد : ( العقل ) وعلى واحد غفل . أي ليس عليه شيء . وكانت العرب ، في الجاهلية ، إذا أرادوا سفرا أو تجارة أو نكاحا ، أو اختلفوا في نسب أو أمر قتيل ، أو تحمل عقل ، أو غير ذلك من الأمور العظام- جاءوا إلى هبل . وكانت أعظم صنم لقريش بمكة . وجاؤا بمائة/ درهم . وأعطوها صاحب القداح حتى يجيلها لهم . فإن خرج ( أمرني ربي ) فعلوا ذلك الأمر . وإن خرج ( نهاني ربي ) لم يفعلوه . وإن أجالوا على نسب ، فإن خرج ( منكم ) كان وسطا فيهم . وإن خرج ( من غيركم ) كان حلفا فيهم . وإن خرج ( ملصق ) كان على حاله . وإن اختلفوا في العقل ، وهو الدين ، فمن خرج عليه قدح العقل تحمله . وإن خرج غفل أجالوا ثانيا . حتى يخرج المكتوب عليه . فنهاهم الله عن ذلك وحرمه وسماه فسقا . كما يأتي : وثبت في ( الصحيحين ) {[2747]} : " أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة ، وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها . وفي أيديهما الأزلام . فقال : قاتلهم الله . لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبدا " . وفي ( الصحيحين ) {[2748]} : " أن سراقة بن مالك بن جعشم ، لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وهما ذاهبان إلى المدينة . مهاجرين ، قال : فاستقسمت بالازلام : هل أضرهم أم لا ؟ فخرج الذي أكره : لا تضرهم . قال فعصيت الازلام واتبعتهم . ثم استقسم بها ثانية وثالثة . كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم . وكان ذلك . وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك . ثم أسلم بعد ذلك " .
وروى ابن مردويه عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن يلج الدرجات من تكهن أو استقسم أو رجع من سفر طائرا " { ذلكم فسق } أي خروج عن الأخذ بالطريق المشروع . والإشارة إلى الاستقسام . أو على تناول ما حرم عليهم . لأن المعنى : حرم عليكم تناول الميتة وكذا وكذا . فإن قلت : لم كان استقسام المسافر وغيره بالأزلام ، لتعرف الحال- فسقا ؟ قلت : لأنه دخول في علم الغيب الذي استأثر به علام الغيوب/ وقال : { قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله }{[2749]} . واعتقاد أن إليه طريقا وإلى استنباطه . وقوله : أمرني ربي ونهاني ربي- افتراء على الله . وما يدريه أنه أمره أو نهاه ؟ والكهنة والمنجمون بهذه المثابة . وإن كان أراد بالرب الصنم ، فقد روي أنهم كانوا يجيلونها عند أصنامهم- فأمره ظاهر . كذا في ( الكشاف ) .
في ( الإكليل ) : استدل بهذه الآية على تحريم القمار والتنجيم والرمل وكل ما شاكل ذلك . وعداه بعضهم إلى منع القرعة في الأحكام ، وهو مردود . انتهى . أي لتباين القصد فيهما . فإن القرعة في قسمة الغنائم وإخراج النساء ونحوها ، لتطييب نفوسهم والبراءة من التهمة في إيثار البعض . ولو اصطلحوا على ذلك جاز من غير قرعة . كما ( في العناية ) .
قال الحاكم : وتدل على تحريم التمسك بالفأل والزجر والتطير والنجوم . فأما التفاؤل بالخير فمباح . قال الأصم : ومن هذا قول المنجم : إذا طلع نجم كذا فاخرج ، وإن لم يطلع فلا تخرج .
قال الراضي بالله : ومن عمل بالأيام في السعد والنحس ، معتقدا أن لها تأثيرا ، كفر . وإن لم يعتقد أثم . وقد روى أبو داود{[2750]} والنسائي وابن حبان عن قطن بن قبيصة ، عن أبيه ، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول : " إن العيافة والطرق والطيرة من الجبت " .
قال عوف أحد رواته : العيافة زجر الطير والطرق الخط يخط بالأرض . وفي ( القاموس ) عفت الطير عيافة : زجرتها . وهو أن تعتبر بأسمائها ومساقطها ، فتتسعد أو تتشئام ، وهو من عادة العرب كثيرا .
/ وقال أبو زيد : الطرق أن يخط الرجل في الأرض بإصبعين ثم بإصبع .
وقال ابن الأثير : الطرق الضرب بالحصى الذي تفعله النساء . وقيل : هو الخط بالرمل . والجبت : كل ما عبد من دون الله تعالى . وقد روى مسلم في ( صحيحه ) {[2751]} ، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافا فسأله عن شيء فصدقه ، لم تقبل له صلاة أربعين يوما " . وروى الإمام أحمد{[2752]} وأبو داود والحاكم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول ، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " . وعن عمران بن حصين مرفوعا : " ليس منا من تطير أو تطير له ، أو تكهن أو تكهن له ، أو سحر أو سحر له . ومن أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم " . رواه البزار بإسناد جيد . ورواه الطبراني في ( الأوسط ) بإسناد حسن من حديث ابن عباس . دون قوله : ومن أتى إلخ .
قال البغوي : العراف الذي يدعي معرفة الأمور بمقدمات يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك . وقيل : هو الكاهن . والكاهن هو الذي يخبر عن المغيبات في المستقبل . وقيل : الذي يخبر عما في الضمير . وقال أبو العباس بن تيمية : العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم ، ممن يتكلم في معرفة الأمور بهذه الطرق . وقال ابن عباس ( في قوم يكتبون أبا جاد وينظرون في النجوم ) : " ما أرى من فعل ذلك ، له عند الله من خلاق " . وفي الأحاديث السابقة من الترهيب ما فيها من التصريح بأنه لا يجتمع تصديق الكاهن مع/ الإيمان بالقرآن ، والتصريح بأنه كفر . وعن ابن داود والترمذي وصححه . وجعل آخره من قول ابن مسعود .
ولأحمد{[2753]} . " الطيرة شرك . الطيرة شرك . وما منا إلا . . . ولكن الله يذهبه بالتوكل " . رواه أبو داود والترمذي وصححه . وجعل آخره من قول ابن مسعود .
ولأحمد{[2754]} من حديث ابن عمرو : " من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك . قالوا : فما كفارة ذلك ؟ قال : أن تقول : اللهم ! لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ، ولا إله غيرك " .
وعن أنس قال : قال{[2755]} رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا عدوى ولا طيرة ويعجبني الفأل . قالوا : وما الفأل ؟ قال : الكلمة الطيبة " . رواه الشيخان .
ولأبي داود{[2756]} بسند صحيح عن عروة بن عامر قال : " ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أحسنها الفأل ولا ترد مسلما . فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل : اللهم ! لا يأتي بالحسنات إلا أنت . ولا يدفع السيئات إلا أنت . ولا حول ولا قوة إلا بك " .
قال الحافظ ابن كثير : قد أمر الله المؤمنين ، إذا ترددوا في أمورهم ، أن يستخيروه ، بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه . كما رواه الإمام أحمد والبخاري{[2757]} / وأهل السنن من طرق عن جابر بن عبد الله قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور ، كما يعلمنا السورة من القرآن . ويقول : إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل : اللهم ! إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم . فإنك تقدر ولا اقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب . اللهم ! إن كنت تعلم أن هذا الأمر ( ويسميه باسمه ) خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري ( أو قال عاجل أمري ) وآجله فاقدره لي ، ويسره لي ثم بارك لي فيه ، وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ، ومعاشي ، وعاقبة أمري ، فاصرفني عنه واصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به " . هذا لفظ الإمام أحمد . { اليوم يئس } أي : قنط { الذين كفروا من دينكم } روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ؛ " يعني : يئسوا أن يراجعوا دينهم " . وكذا روي عن عطاء بن أبي رباح والسدي ومقاتل بن حيان . وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في ( الصحيح ) {[2758]} أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ولكن بالتحريش بينهم " . نقله ابن كثير . وعليه ف { من } تعليلية . أي : يئسوا من مراجعة دينهم لأجل دينكم الذي ضم إليه جمهور الأمة العربية من أدناها إلى أقصاها . ودخلوا فيه أفواجا .
وللزمخشري تأويل بديع ، تابعه عليه من بعده ، ونحن نسوقه أيضا . قال رحمه الله : لم يرد بقوله تعالى : { اليوم } يوم بعينه . وإنما أريد به الزمان الحاضر ، وما يتصل به ويدانيه من الأزمنة الماضية والآتية . كقولك : كنت بالأمس شابا وأنت اليوم أشيب . فلا تريد ( بالأمس ) اليوم الذي قبل يومك ولا ( باليوم ) يومك . وقيل : أريد يوم نزولها . وقد نزلت يوم الجمعة ، وكان يوم عرفة ، بعد العصر في حجة الوداع . وقوله تعالى : { يئس } إلخ . أي يئسوا منه أن يبطلوه وأن ترجعوا محللين لهذه الخبائث ، بعدما حرمت عليكم . وقيل : /يئسوا من دينكم أن يغلبوه . لأن الله عز وجل وفى بوعده من إظهاره على الدين كله .
{ فلا تخشوهم } بعد إظهار الدين ، وزوال الخوف من الكفار ، وانقلابهم مغلوبين مقهورين ، بعدما كانوا غالبين { واخشون } وأخلصوا لي الخشية . انتهى كلامه .
وأوضح الوجه الأول ، الرازي فقال : ليس المراد باليوم هو ذلك اليوم بعينه ، حتى يقال : إنهم ما يئسوا قبله بيوم أو يومين ، وإنما هو كلام خارج على عادة أهل اللسان ، معناه : لا حاجة بكم الآن إلى مداهنة هؤلاء الكفار ، لأنكم الآن صرتم حيث لا يطمع أحد من أعدائكم في توهين أمركم .
ثم بين تعالى أكبر نعمه وأعظم مننه على هذه الأمة وهو : إكماله لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه . ولهذا جعله تعالى خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلا ما أحله ، ولا حرام إلا ما حرمه ، ولا دين إلا ما شرعه . فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة . ولهذا قال : { اليوم أكملت لكم دينكم } يعني أحكامه وفرائضه ، فلا زيادة بعده . ولم ينزل بعد هذه الآية حلال ولا حرام . هذا ما روي عن ابن عباس . وقال سعيد بن جبير وقتادة : معنى ( الإكمال ) أنه لم يحج معهم مشرك . وخلا الموسم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين . وقيل : معناه كفايتهم أمر العدو ، وجعل اليد العليا لهم ، كما تقول الملوك : اليوم كمل لنا الملك وكمل لنا ما نريد ، إذا كفوا من ينازعهم . وبما ذكرنا أولا- من أن المراد بالإكمال عدم الزيادة- يندفع ما يتوهم من ثبوت النقص أولا . ولذا قال ابن الأنباري ( في الآية ) : { اليوم أكملت لكم } شرائع الإسلام على غير نقصان كان قبل هذا الوقت . وذلك أن الله تعالى كان يتعبد خلقه بالشيء في وقت ثم يزيد عليه في وقت آخر . فيكون الوقت الأول تاما في وقته . وكذلك الوقت الثاني تاما في وقته . فهو كما يقول القائل : عندي عشرة كاملة ، ومعلوم أن العشرين أكمل منها .
/ والشرائع التي تعبد الله عز وجل بها عباده ، في الأوقات المختلفة . وكل شريعة منها كاملة في وقت التعبد بها . فكمل الله عز وجل الشرائع في اليوم الذي ذكره- وهو يوم عرفة- ولم يوجب ذلك ، أن الدين كان ناقصا في وقت من الأوقات .
وللإمام القفال نحو ذلك ، نقله عنه الرازي واختاره . قال : إن الدين ما كان ناقصا البتة ، بل كان أبدا كاملا . يعني : كانت الشرائع النازلة من عند الله في كل وقت كافية في ذلك الوقت . إلا أنه تعالى كان عالما في أول وقت المبعث بأن ما هو كامل في هذا اليوم ليس بكامل في الغد ولا صلاح فيه . فلا جرم كان ينسخ بعد الثبوت . وكان يزيد بعد العدم . وأما في آخر زمان المبعث فأنزل الله شريعة كاملة ، وحكم ببقائها إلى يوم القيامة . فالشرع أبدا كان كاملا . إلا أن الأول كمال إلى زمان مخصوص . والثاني كمال إلى يوم القيامة . فلأجل هذا قال : { اليوم أكملت لكم دينكم } . { وأتممت عليكم نعمتي } يعني بإكمال الدين والشريعة . لأنه لا نعمة أتم من نعمة الإسلام . أو بفتح مكة ودخولها آمنين ظاهرين . وهدم منار الجاهلية ومناسكهم ، وأن لم يحج معكم مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان . أو بإنجاز ما وعدهم بقوله : { ولأتم نعمتي عليكم } . فكان من تمام النعمة فتح مكة وما ذكرنا . { ورضيت لكم الإسلام دينا } يعني : اخترته لكم من بين الأديان ، وآذنتكم بأنه هو الدين المرضي وحده . { ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه }{[2759]} أو معناه : الانقياد لأمري فيما شرعت لكم من الفرائض والأحكام والحدود ومعالم الدين الذي أكملته لكم . ومعلوم أن الإسلام لم يزل مرضيا للحق تعالى منذ القدم ، إلا أن المعني به ، في الآية ، الصفة التي هو اليوم بها . وهي نهاية الكمال والبلوغ به أقصى درجاته . أي : فالزموه ولا تفارقوه : { إن الدين عند الله الإسلام }{[2760]} . . ! .
/ روى البغوي بسنده عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " قال جبريل : قال الله عز وجل : هذا دين ارتضيته لنفسي ولن يصلحه إلا السخاء وحسن الخلق فأكرموه بهما ما صحبتموه " .
الأولى : روى الإمام أحمد والشيخان{[2761]} وغيرهم عن طارق بن شهاب قال : " جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين ! إنكم تقرأون آية في كتابكم ، لو علينا ، معشر اليهود ، نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا . قال : وأي آية ؟ قال : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } . فقال عمر : والله ! إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة في يوم جمعة " .
قال ابن كثير : وقد روي هذا من غير وجه عن عمر . وروى ابن جرير{[2762]} عن قبيصة بن أبي ذئب قال : " قال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيدا يجتمعون فيه . فقال عمر : أي آية يا كعب ؟ فقال : { اليوم أكملت لكم دينكم } . فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت ، والمكان الذي أنزلت فيه . نزلت في يوم الجمعة ويوم عرفة . وكلاهما بحمد الله لنا عيد " . وروى ابن جرير{[2763]} القصة أيضا عن ابن عباس ، وأنه قال : " نزلت يوم عيدين اثنين . يوم عيد ويوم جمعة . . . " وروى ابن مردويه عن ابن الحنفية عن علي قال : " نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم/ وهو قائم عشية عرفة : { اليوم أكملت لكم دينكم } " . ورواه أيضا عن سمرة . وروى ابن جرير نحوه عن معاوية{[2764]} . وروي عن السدي{[2765]} قال : " نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام . ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات " . فقالت{[2766]} أسماء بنت عميس : " حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة . فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل ، فمال رسول الله على الراحلة . فلم تطق الراحلة من ثقل ما عليها من القرآن . فنزلت . فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي " .
وقال ابن جرير{[2767]} : وغيره : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما .
وقال ابن جرير{[2768]} : حدثنا سفيان بن وكيع : حدثنا ابن فضيل عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : " لما نزلت : { اليوم أكملت لكم دينكم } - وذلك يوم الحج الأكبر- بكى عمر . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ قال : أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا . فأما إذ كمل ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص . فقال : صدقت " .
قال ابن كثير : ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت : " إن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا فطوبى للغرباء " . انتهى .
قلت : والحديث المذكور رواه مسلم{[2769]} عن أبي هريرة . والترمذي عن ابن مسعود . / وابن ماجة عنهما أيضا وعن أنس . والطبراني عن سلمان وسهل وابن عباس .
هذا ، وروى ابن جرير {[2770]}من طريق العوفي عن ابن عباس في الآية قال : " ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس " . ومن طريق أبي جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس قال : " نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره إلى حجة الوداع " . وروى ابن مردويه من طريق أبي هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري ؛ " أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم غدير خم ، حين قال لعلي : من كنت مولاه فعلي مولاه " . ثم رواه عن أبي هريرة وفيه : " إنه اليوم الثامن عشر من ذي الحجة- يعني مرجعه عليه الصلاة والسلام من حجة الوداع " .
قال ابن كثير : ولا يصح لا هذا ولا هذا . بل الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية ، أنها نزلت يوم عرفة وكان يوم جمعة . كما قدمنا عن عمر وعلي ومعاوية وابن عباس وسمرة رضي الله عنهم ، وعن ثلة من التابعين .
الثانية استدل نفاة القياس بهذه الآية ، على أن القياس باطل . وذلك لأن الآية دلت على أنه تعالى قد نص على الحكم في جميع الوقائع . إذ لو بقي بعضها غير مبين الحكم لم يكن الدين كاملا ، وإذا حصل النص في جميع الوقائع ، فالقياس- إن كان على وفق ذلك النص- كان عبثا . وإن كان على خلافه كان باطلا .
وأجاب عنه مثبتو القياس بما بسطه الرازي . فانظره .
الثالثة قال صاحب ( فتح البيان ) : لا معنى للإكمال في الآية إلا وفاء النصوص بما يحتاج إليه الشرع . إما بالنص على كل فرد فرد ، أو باندراج ما يحتاج إليه تحت العمومات الشاملة . ومما يؤيد ذلك قوله تعالى : { ما فرطنا في الكتاب من شيء }{[2771]} . وقوله : { ولا رطب/ ولا يابس إلا في كتاب مبين }{[2772]} وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال{[2773]} : " تركتكم على الواضحة ، ليلها كنهارها " . وجاءت نصوص الكتاب العزيز بإكمال الدين . وبما يفيد هذا المعنى ، ويصحح دلالته ، ويؤيد برهانه . ويكفي في دفع الرأي ، وأنه ليس من الدين- قول الله تعالى هذا . فإنه إذا كان الله قد أكمل دينه قبل أن يقبض إليه نبيه صلى الله عليه وسلم ، فما هذا الرأي الذي أحدثه أهله بعد أن أكمل الله دينه ؟ لأنه إن كان من الدين- في اعتقادهم- فهو لم يكمل عندهم إلا برأيهم ، وهذا فيه رد للقرآن . وإن لم يكن من الدين ، فأي فائدة في الاشتغال بما ليس منه ؟ وما ليس منه فهو رد بنص السنة المطهرة- كما ثبت في ( الصحيح ) - وهذه حجة قاهرة ودليل باهر لا يمكن أهل الرأي أن يدفعوه بدافع أبدا . فاجعل هذه الآية الشريفة أول ما تصك به وجوه أهل الرأي ، وترغم به آنافهم ، وتدحض به حجتهم . فقد أخبرنا الله في محكم كتابه أنه أكمل دينه . ولم يمت رسول الله إلا بعد أن أخبرنا بهذا الخبر عن الله عز وجل . فمن جاء بشيء من عند نفسه/ وزعم أنه من ديننا قلنا له : إن الله أصدق منك : { ومن أصدق من الله قيلا }{[2774]} . اذهب لا حاجة لنا في رأيك . وليت المقلدة فهموا هذه الآية حق الفهم حتى يستريحوا ويريحوا . وقد أخبرنا الله في محكم كتابه أن القرآن أحاط بكل شيء فقال : { ما فرطنا في الكتاب من شيء }{[2775]} . وقال : { تبيانا لكل شيء وهدى ورحمة }{[2776]} . ثم أمر عباده بالحكم بكتابه فقال : { وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم }{[2777]} . وقال : { لتحكم بين الناس بما أراك الله }{[2778]} . وقال : { إن الحكم إلا الله يقص الحق وهو خير الفاصلين }{[2779]} . / وقال : { ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون }{[2780]} . وفي آية . . . { هم الظالمون }{[2781]} . وفي أخرى . . . { هم الفاسقون }{[2782]} . وأمر عباده أيضا في محكم كتابه باتباع ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم فقال : { وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا }{[2783]} . وهذه أعم آية في القرآن ، وأبينها في الأخذ بالسنة المطهرة ، وقال : { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول }{[2784]} . وقد تكرر هذا في مواضع من الكتاب العزيز . / وقال : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا }{[2785]} . وقال : { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة }{[2786]} . والاستنكار من الاستدلال على وجوب طاعة الله وطاعة رسوله لا يأتي بعائدة ، ولا فائدة زائدة ، فليس أحد من المسلمين يخالف في ذلك . ومن أنكره فهو خارج عن حزب المسلمين . وإنما أوردنا هذه الآيات الكريمة ، والبينات العظيمة ، تليينا لقلب المقلد الذي قد جمد ، وصار كالجلمد . فإنه إذا سمع مثل هذه الأوامر القرآنية ، ربما امتثلها وأخذ دينه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، طاعة لأوامره . فإن هذه الطاعة ، وإن كانت معلومة لكل مسلم ، لكن الإنسان قد يذهل عن القوارع الفرقانية والزواجر المحمدية . فإذا ذكر بها ذكر . ولا سيما من نشأ على التقليد ، وأدرك سلفه ثابتين عليه غير متزحزحين عنه . فإنه يقع في قلبه ؛ أن دين الإسلام هو هذا الذي هو عليه . وما كان مخالفا له فليس من الإسلام في شيء . فإذا راجع نفسه رجع . . ولهذا تجد الرجل إذا نشأ على مذهب من هذه المذاهب ، ثم سمع- قبل أن يتمرد بالعلم ويعرف ما قاله الناس- خلاف ذلك المألوف ، استنكره وأباه قلبه ، ونفر عنه طبعه . وقد رأينا وسمعنا من هذا الجنس ما لا يأتي عليه الحصر . ولكن إذا وازن العاقل بعقله ، بين من اتبع أحد أئمة المذاهب في مسألة من مسائله التي رواها عنه المقلد- ولا مستند لذلك العالم فيها ، بل قالها بمحض الرأي لعدم وقوفه على الدليل- وبين من تمسك في تلك المسألة بخصوصها بالدليل الثابت في القرآن والسنة ؛ أفاده العقل بأن الأخذ به ، واتبع ما شرعه الشارع لجميع الأمة : أولها وآخرها ، / وحيها وميتها . . ! والعالم يمكنه الوقوف على الدليل من دون أن يرجع إلى غيره . والجاهل يمكنه الوقوف على الدليل بسؤال علماء الشريعة ، واسترواء النص ، وكيف حكم الله في محكم كتابه أو على لسان رسوله في تلك المسألة . فيفيدونه النص إن كان ممن يعقل الحجة إذا دل عليها ، أو يفيدونه مضمون النص بالتعبير عنه بعبارة يفهمها . فهم رواة وهو عامل بالرواية لا بالرأي ؛ والمقلد عامل بالرأي لا بالرواية . لأنه يقبل قول الغير من دون أن يطالبه بحجة . وذلك في سؤاله يطالب بالحجة لا بالرأي ، فهو قابل لرواية الغير لا لرأيه . وهما من هذه الحيثية متقابلان ؛ فانظر كم الفرق بين المنزلتين ؟ والكلام في ذلك يطول ويستدعي استغراق الأوراق الكثيرة ، وهو مبسوط في مواطنه ، وفيما ذكرناه مقنع وبلاغ ، وبالله التوفيق . انتهى .
الرابعة : قال بعض الزيدية : ثمرة الآية تعظيم هذا اليوم المذكور ، وأنه يلزم الشكر لله تعالى على التمسك بملة الإسلام .
وقوله تعالى : { فمن اضطر } متصل بذكر المحرمات . وما بينهما اعتراض بما يوجب أن يجتنب عنه . وهو أن تناولها فسوق ، وحرمتها من جملة الدين الكامل ، والنعمة التامة ، والإسلام المرضي . ومعناه : فمن اضطر إلى تناول شيء من هذه المحرمات : الميتة وما بعدها ، أي : أصيب بالضر الذي لا يمكنه الامتناع معه من الميتة وما بعدها { في مخمصة } أي : مجاعة يخاف معها الموت أو مبادئه- { المخمصة } : مصدر مثقل المغضبة والمعتبة . يقال : خمصه الجوع خمصا ومخمصة ، وخمص البطن ( مثلثة الميم ) خلا . { غير متجانف لإثم } أي : غير منحرف إليه بالأكل فوق الضرورة ، أو العصيان بالسفر . كقوله تعالى : { غير باغ ولا عاد }{[2787]} { فإن الله غفور رحيم } لتناوله الحرام- فلا يؤاخذه به { رحيم } أي : بإعطائه الرخصة فيه لعلمه بحاجة عبده المضطر ، وافتقاره إلى ذلك ، فيتجاوز عنه ويغفر له . وفي ( المسند ) {[2788]} و ( صحيح ) ابن حبان عن عمر- مرفوعا- قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته " . لفظ ابن حبان . وفي لفظ لأحمد : {[2789]} " من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة " . ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجبا في بعض الأحيان . وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها . وقد يكون مندوبا ، وقد يكون مباحا ، بحسب الأحوال . واختلفوا : هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أو له أن يشبع ويتزود ؟ على أقوال . وليس من شرط تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاما- كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم- بل متى اضطر إلى ذلك جاز له . وقد روى الإمام أحمد{[2790]} عن أبي واقد الليثي ؛ " أنهم قالوا : يا رسول الله ! إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة . فمتى تحل لنا بها / الميتة ؟ فقال : إذا لم تصطبحوا ولم تغتبقوا ولم تحتفئوا بقلا{[2791]} ، فشأنكم بها " . إسناده صحيح والاصطباح : شرب اللبن بالغداة فما دون القائلة ، وما كان منه بالعشي فهو الاغتباق ؛ ومعنى لم تحتفئوا : أي تقتلعوا . وفي اللفظة عدة روايات وروى أبو داود عن الفجيع العامري : {[2792]} " أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما يحل لنا من الميتة ؟ قال : ( ما طعامكم ؟ ) قلنا : نصطبح ونغتبق ! قال أبو نعيم : فسره لي عقبة : قدح غدوة وقدح عشية ، قال : ذاك ، وأبي ! الجوع . فأحل لهم الميتة على هذه الحال " . تفرد به أبو داود . وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئا لا يكفيهم . فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم . وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق ، والله أعلم .
وروى أبو داود{[2793]} عن جابر بن سمرة : " أن رجلا نزل الحرة ومعه أهله وولده . فقال رجل : / إن ناقة لي ضلت . فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها فلم يجد صاحبها فمرضت . فقالت له امرأته : انحرها ! فأبى ، فنفقت ، فقلت اسلخها حتى نقدد شحمها ولحمها ونأكله ، فقال : حتى أسال رسول الله صلى الله عليه وسلم . فاتاه ، فسأله ، فقال له : هل عندك غنى يغنيك ؟ قال : لا ! قال : فكلوها ! قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال : هلا كنت نحرتها ؟ قال : استحييت منك ! " تفرد به .
وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة ، يغلب على ظنه الاحتياج إليها . والله أعلم . أفاده ابن كثير . وقوله : ( فنفقت ) . أي ماتت . ( من باب نصر وفرح ) قال ابن بري : أنشد ثعلب{[2794]} .
فما أشياء نشريها بمال*** فإن نفقت فأكسد ما تكون ؟
تنبيه : قال بعض المفسرين : ليس في هذه الآية بيان لتقديم أحدها . والفقهاء يقولون : يقدم الأخف تحريما ، فميتة المأكول على ميتة غيره . انتهى .
وفي ( رحمة الأمة ) أن المضطر إذا وجد ميتة وطعام الغير ، ومالكه غائب ، أن له أكله بشرط الضمان ، دون الميتة . عند مالك وأكثر أصحاب الشافعي وجماعة من الحنفية . وعند أحمد وآخرين : يأكل الميتة .
قال ابن كثير : قد استدل بقوله تعالى : { غير متجانف لإثم } من يقول بأن العاصي بسفره لا يرخص بشيء من رخص السفر ، لأن الرخص لا تنال بالمعاصي . والله أعلم .