إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{حُرِّمَتۡ عَلَيۡكُمُ ٱلۡمَيۡتَةُ وَٱلدَّمُ وَلَحۡمُ ٱلۡخِنزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيۡرِ ٱللَّهِ بِهِۦ وَٱلۡمُنۡخَنِقَةُ وَٱلۡمَوۡقُوذَةُ وَٱلۡمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيۡتُمۡ وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ وَأَن تَسۡتَقۡسِمُواْ بِٱلۡأَزۡلَٰمِۚ ذَٰلِكُمۡ فِسۡقٌۗ ٱلۡيَوۡمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمۡ فَلَا تَخۡشَوۡهُمۡ وَٱخۡشَوۡنِۚ ٱلۡيَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِينَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَيۡكُمۡ نِعۡمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَٰمَ دِينٗاۚ فَمَنِ ٱضۡطُرَّ فِي مَخۡمَصَةٍ غَيۡرَ مُتَجَانِفٖ لِّإِثۡمٖ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٞ رَّحِيمٞ} (3)

{ حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميْتة } شروعٌ في بيان المُحرَّمات التي أشير إليها بقوله تعالى : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } والميتة ما فارقه الروحُ من غير ذبح { والدم } أي المسفوحُ منه لقوله تعالى : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } وكان أهلُ الجاهلية يصُبّونه في الأمعاء ويشْوونه ، ويقولون : لم يُحرَّمْ مِنْ فَزْدٍ له أي من فصْدٍ له { وَلَحْمُ الخنزير وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } أي رفعُ الصوت لغير الله عند ذبحِه ، كقولهم : باسم اللات والعزى { والمُنخنقة } أي التي ماتت بالخنق { والموقوذة } أي التي قُتلت بالضرب بالخشب ونحوِه ، مِنْ وَقَذْتُه إذا ضربته { والمتردّية } أي التي تردّت مِنْ علوٍّ أو إلى بئرٍ فماتت { والنطيحة } أي التي نطحتها أخرى فماتت بالنطح ، والتاء للنقل ، وقرئ والمنطوحة { وَمَا أَكَلَ السّبع } أي وما أكل منه السبُعُ فمات ؛ وقرئ بسكون الباء ، وقرئ وأكيلُ السبع ، وفيه دليلٌ على أن جوارحَ الصيد إذا أكلت مما صادته لم يحِلّ { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } إلا ما أدركتم ذَكاتَه وفيه بقيةُ حياةٍ يضطرِبُ اضطرابَ المذبوح . وقيل : الاستثناء مخصوص بما أكل السبع . والذكاةُ في الشرع بقطع الحُلقومِ والمَرِيء بمُحدَّد { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصب } قيل : هو مفردٌ ، وقيل : جمع نِصاب ، وقرئ بسكون الصاد ، وأياً ما كان فهو واحد الأنصاب ، وهي أحجار كانت منصوبةً حول البيت يَذبَحون عليها ويعدّون ذلك قُربة ، وقيل : هي الأصنام { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بالأزلام } جمع زَلَم وهو القدح أي وحرم عليكم الاستقسام بالقِداح وذلك أنهم إذا قصدوا فعلاً ضربوا ثلاثة قداحٍ مكتوب على أحدها أمرني ربي ، وعلى الثاني نهاني ربي ، وعلى الثالث غُفْل ، فإن خرج الآمرُ مضَوا ذلك ، وإن خرج الناهي اجتنبوا عنه ، وإن خرج الغافل أجالوها مرة أخرى ، فمعنى الاستقسام طلبُ معرفةِ ما قُسِم لهم بالأزلام ، وقيل : هو استقسامُ الجَزورِ بالأقداح على الأنْصِباء المعهودة { ذلكم } إشارة إلى الاستقسام بالأزلام ، ومعنى البعد فيه للإشارة إلى بُعد منزلتِه في الشر { فِسْقٌ } تمرّدٌ وخروجٌ عن الحد ودخولٌ في علم الغيب ، وضلال باعتقاد أنه طريق إليه ، وافتراء على الله سبحانه إن كان هو المراد بقولهم ربي ، وشركٌ وجهالة إن كان هو الصنم ، وقيل : ذلكم إشارةٌ إلى تناول المحرَّماتِ المعدودةِ لأن معنى تحريمها تحريمُ تناولِها . { اليوم } اللام للعَهْد ، والمراد به الزمان الحاضرُ وما يتصل به من الأزمنة الماضية والآتية وقيل : يومُ نزولِها ، وقد نزلت بعد عصر الجمعةِ يومَ عَرَفةَ في حَجةِ الوداع والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعَرَفاتٍ على العضباء ، فكادت عضُدُ الناقة تندق لثقلها فبرَكَت ، وأياً ما كان فهو منصوب على أنه ظرف لقوله تعالى : { يَئِسَ الذين كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ } أي من إبطالِه ورُجوعِكم عنه بتحليل هذه الخبائِثِ أو غيرِها ، أو مِنْ أن يغلِبوكم عليه لِمَا شاهدوا من أن الله عز وجل وفي بوعدِه حيث أظهره على الدين كلِّه وهو الأنسب بقوله تعالى : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ } أي أنْ يظهرَوا عليكم { واخشونِ } أي وأخْلِصوا إليّ الخشية { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد ، والتوقيفِ على أصول الشرائع وقوانين الاجتهاد . وتقديمُ الجار والمجرور للإيذان من أول الأمرِ بأن الإكمالَ لمنفعتهم ومصلحتهم ، كما في قوله تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [ الشرح ، الآية 1 ] وعليكم في قوله تعالى : { وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } متعلِّقٌ بأتممت لا بنعمتي لأن المصدرَ لا يتقدم عليه معمولُه ، وتقديمه على المفعول الصريح لما مرّ مراتٍ ، أي أتممتُها بفتح مكةَ ودخولِها آمنين ظاهرين ، وهدمِ منارِ الجاهلية ومناسكِها والنهْي عن حجِّ المشرك وطوافِ العُرْيان ، أو بإكمال الدينِ والشرائع ، أو بالهداية والتوفيق ، قيل : معنى أتممت عليكم نعمتي أنجزتُ لكم وعدي بقولي : { وَلأُتمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } [ البقرة ، الآية 150 ] { وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } أي اخترتُه لكم من بين الأديان وهو الدينُ عند الله لا غيرُ . عن عمرَ بنِ الخطاب رضي الله تعالى عنه أن رجلاً من اليهود قال له : يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشرَ اليهود نزلت لاتخذْنا ذلك اليوم عيداً ، قال : أي آية ؟ قال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } الآية . قال عمر رضي الله تعالى عنه : قد عرفنا ذلك اليومَ والمكانَ الذي أنزلت فيه على النبي عليه الصلاة والسلام وهو قائم بعرفَةَ يومَ الجمعة ، أشار رضي الله تعالى عنه إلى أن ذلك اليومَ عيدٌ لنا ، ورُوي أنه لما نزلت هذه الآيةُ بكى عمرُ رضي الله تعالى عنه فقال له النبي عليه الصلاة والسلام : «ما يُبكيك يا عمر ؟ » قال : أبكاني أنا كنا في زيادةٍ من دينِنا ، فإذا كَمَلَ فإنه لا يكملُ شيءٌ إلا نقَصَ ، فقال عليه الصلاة والسلام : «صدقت » فكانت هذه الآيةُ نعْيَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، فما لبِثَ بعد ذلك إلا أحداً وثمانين يوماً . { فَمَنِ اضطُرّ } متصلٌ بذكر المحرمات ، وما بينهما اعتراضٌ بما يوجبُ أن يُجتنَبَ عنه ، وهو أن تناوُلَها فسوقٌ ، وحرمتُها من جملة الدينِ الكاملِ والنعمةِ التامةِ والإسلامِ المَرْضِيِّ ، أي فمن اضطُر إلى تناول شيءٍ من هذه المحرمات { في مَخْمَصَةٍ } أي في مجاعة يَخافُ معها الموتَ أو مبادِيَه { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } قيل : غيرَ مائلٍ ومنحرفٍ إليه ، بأن يأكُلَها تلذُّذاً أو مُجاوِزٍ حدَّ الرُّخصة أو ينتزِعَها من مضطرٍ آخَرَ كقوله تعالى : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لا يؤاخذه بذلك .