معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (155)

قوله تعالى : { إن الذين تولوا } . انهزموا .

قوله تعالى : { منكم } . يا معشر المسلمين .

قوله تعالى : { يوم التقى الجمعان } . جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أحد ، وكان قد انهزم أكثر المسلمين ولم يبق مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا ثلاثة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وهم أبو بكر وعمر وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهم .

قوله تعالى : { إنما استزلهم الشيطان } . أي طلب زلتهم كما يقال : استعجلت فلاناً إذا طلبت عجلته ، وقيل : حملهم على الزلة وهي الخطيئة ، وقيل : أزل واستزل بمعنى واحد .

قوله تعالى : { ببعض ما كسبوا } . أي بشؤم ذنوبهم ، قال بعضهم : بتركهم المركز ، وقال الحسن ما كسبوا هو قبولهم من الشيطان ما وسوس إليهم من الهزيمة .

قوله تعالى : { ولقد عفا الله عنهم إن الله غفور حليم } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (155)

ثم قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم " أحد " وما الذي أوجب لهم الفرار ، وأنه من تسويل الشيطان ، وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم . فهم الذين أدخلوه على أنفسهم ، ومكنوه بما فعلوا من المعاصي ، لأنها مركبه ومدخله ، فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان .

قال تعالى : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } ثم أخبر أنه عفا عنهم بعدما فعلوا ما يوجب المؤاخذة ، وإلا فلو واخذهم لاستأصلهم .

{ إن الله غفور } للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والاستغفار ، والمصائب المكفرة ، { حليم } لا يعاجل من عصاه ، بل يستأني به ، ويدعوه إلى الإنابة إليه ، والإقبال عليه .

ثم إن تاب وأناب قبل منه ، وصيره كأنه لم يجر منه ذنب ، ولم يصدر منه عيب ، فلله الحمد على إحسانه .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (155)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ إِنّ الّذِينَ تَوَلّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ إِنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

يعني بذلك جلّ ثناؤه : إن الذين ولوا عن المشركين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وانهزموا عنهم ، وقوله : { تَوَلّوْا } : تفّعَلوا ، من قولهم : ولّى فلان ظهره . وقوله : { يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } يعني : يوم التقى جمع المشركين والمسلمين بأُحد ، { إنّمَا اسْتَنزَلّهُمْ الشّيْطانُ } : أي إنما دعاهم إلى الزلة الشيطان . وقوله استزلّ : استفعل ، من الزلة ، والزلة : هي الخطيئة . { بِبَعْضِ ما كَسَبُوا } يعني : ببعض ما عملوا من الذنوب . { وَلَقَدْ عَفا اللّهُ عَنْهُمْ } يقول : ولقد تجاوز الله عن عقوبة ذنوبهم فصفح لهم عنه . { إنّ اللّهَ غَفُورٌ } يعني به : مغطّ على ذنوب من آمن به واتبع رسوله بعفوه عن عقوبته إياهم عليها . { حَلِيمٌ } يعني : أنه ذو أناة ، لا يعجل على من عصاه وخالف أمره بالنقمة .

ثم اختلف أهل التأويل في أعيان القوم الذين عنوا بهذه الاَية ، فقال بعضهم : عني بها كلّ من ولى الدبر عن المشركين بأُحد . ذكر من قال ذلك :

حدثنا أبو هشام الرفاعي ، قال : حدثنا أبو بكر بن عياش ، قال : حدثنا عاصم بن كليب ، عن أبيه ، قال : خطب عمر يوم الجمعة ، فقرأ آل عمران ، وكان يعجبه إذا خطب أن يقرأها ، فلما انتهى إلى قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } قال : لما كان يوم أحد هزمناهم ، ففررت حتى صعدت الجبل ، فلقد رأيتني أنزو كأنني أَرْوَى ، والناس يقولون : قتل محمد ! فقلت : لا أجد أحدا يقول قتل محمد إلا قتلته . حتى اجتمعنا على الجبل ، فنزلت : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } . . . الاَية كلها .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } . . . الاَية ، وذلك يوم أُحد ، ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تولوا عن القتال وعن نبيّ الله يومئذٍ ، وكان ذلك من أمر الشيطان وتخويفه ، فأنزل الله عزّ وجلّ ما تسمعون أنه قد تجاوز لهم عن ذلك ، وعفا عنهم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : ثني عبد الله بن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع في قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمَعانِ } . . . الاَية ، فذكر نحو قول قتادة .

وقال آخرون : بل عني بذلك خاصّ ممن ولى الدبر يومئذٍ ، قالوا : وإنما عنى به الذين لحقوا بالمدينة منهم دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما انهزوا يومئذٍ تفرّق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فدخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم فوق الجبل إلى الصخرة ، فقاموا عليها ، فذكر الله عزّ وجلّ الذين انهزموا ، فدخلوا المدينة ، فقال : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } . . . الاَية .

وقال آخرون : بل نزل ذلك في رجال بأعيانهم معروفين . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة ، قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ } قال : نزلت في رافع بن المعلى وغيره من الأنصار وأبي حذيفة بن عتبة ، ورجل آخر . قال ابن جريج : وقوله : { إنّمَا اسْتَزلّهُمُ الشّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفا اللّهُ عَنْهُمْ } إذ لم يعاقبهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : فرْ عثمان بن عفان ، وعقبة بن عثمان ، وسعد بن عثمان رجلان من الأنصار حتى بلغوا الجَلَعْب ، جبل بناحية المدينة مما يلي الأعوص . فأقاموا به ثلاثا ، ثم رجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لهم : «لقد ذَهَبْتُمْ فيها عَرِيضَةً » .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قوله : { إنّ الّذِينَ تَوَلّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الجَمْعانِ إنّمَا اسْتَزَلّهُمُ الشّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا } . . . الاَية ، والذين استزلهم الشيطان : عثمان بن عفان ، وسعد بن عثمان ، وعقبة بن عثمان الأنصاريان ، ثم الزّرَقيان .

وأما قوله : { ولَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } فإن معناه : ولقد تجاوز الله عن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان ، أن يعاقبهم ، بتوليهم عن عدوّهم . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قوله : { وَلَقَدْ عَفا اللّهُ عَنْهُمْ } يقول : ولقد عفا الله عنهم إذ لم يعاقبهم .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله في توليهم يوم أُحد : { وَلَقَدْ عَفَا اللّهُ عَنْهُمْ } فلا أدري أذلك العفو عن تلك العصابة ، أم عفو عن المسلمين كلهم .

وقد بينا تأويل قوله : { إنّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } فيما مضى .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ} (155)

استئناف لبيان سبب الهزيمة الخفيّ ، وهي استزلال الشيطان إيّاهم ، وأراد بـ { يوم التقى الجمعان } يومَ أُحُد ، و( استزلّهم ) بمعنى أزلّهم أي جعلهم زالّين ، والزلل مستعار لفعل الخطيئة ، والسين والتاء فيه للتأكيد ، مثل استفاد واستبشر واستنشق وقول النَّابغة :

وهم قتلوا الطائي بالجوّ عنوة *** أبا جابر فاسْتَنْكحوا أم جابر

أي نكحوا . ومنه قوله تعالى : { واستغنى اللَّه } [ التغابن : 6 ] وقوله : { أبى واستكبر } [ البقرة : 34 ] . ولا يحسن حمل السين والتاء على معنى الطلب لأنّ المقصود لومهم على وقوعهم في معصية الرسول ، فهو زلل واقع .

والمراد بالزّلل الانهزام ، وإطلاق الزلل عليه معلوم مشهور كإطلاق ثبات القدم على ضدّه وهو النَّصر قال تعالى : { وثبت أقدامنا } [ آل عمران : 147 ] .

( والباء في { ببعض ما كسبوا } للسببية وأريد { ببعض ما كسبوا } مفارقة موقفهم ، وعصيان أمر الرّسول ، والتنازع ، والتعجيل إلى الغنيمة ، والمعنى أن ما أصابهم كان من آثار الشيطان ، رماهم فيه ببعض ما كسبوا من صنيعهم ، والمقصد من هذا إلقاء تبعة ذلك الانهزام على عواتقهم ، وإبطال ما عرّض به المنافقون من رمى تبعته على أمر الرسول عليه الصلاة والسّلام بالخروج ، وتحريض الله المؤمنين على الجهاد . وذلك شأن ضعاف العقول أن يشتبه عليهم مقارن الفعل بسببه ، ولأجل تخليص الأفكار من هذا الغلط الخفيّ وضع أهل المنطق باب القضيّة اللزوميّة والقضيّة الاتفاقية .

ومناسبةُ ذكر هذه الآية عقب الَّتي قبلها أنَّه تعالى بعد أن بيَّن لهم مرتبة حقّ اليقين بقوله : { قل لو كنتم في بيوتكم } انتقل بهم إلى مرتبة الأسباب الظاهرة ، فبيّن لهم أنَّه إن كان للأسباب تأثير فسبب مصيبتهم هي أفعالهم الَّتي أملاها الشيطان عليهم وأضلّهم ، فلم يتفطّنوا إلى السبب ، والتبس عليهم بالمقارن ، ومن شأن هذا الضلال أن يحول بين المخطىء وبين تدارك خطئه ولا يخفى ما في الجمع بين هذه الأغراض من العلم الصّحيح ، وتزكية النفوس ، وتحبيب الله ورسوله للمؤمنين ، وتعظيمه عندهم ، وتنفيرهم من الشيطان ، والأفعالِ الذميمة ، ومعصية الرسول ، وتسفيه أحلام المشركين والمنافقين . وعلى هذا فالمراد من الذين تولّوا نفس المخاطبين بقوله : { ثم صرفكم عنهم . . . } [ آل عمران : 152 ] الآيات . وضمير { منكم } راجع إلى عامّة جيش أُحُد فشمل الذين ثبتوا ولم يفرّوا . وعن السديّ أنّ الذين تولّوا جماعة هربوا إلى المدينة .

وللمفسّرين في قوله : { استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا } احتمالات ذكرها صاحب « الكشاف » والفخر ، وهي بمعزل عن القصد .

وقوله : { ولقد عفا الله عنهم } أعيد الإخبار بالعفْو تأنيساً لهم كقوله : { ولقد عفا عنكم } .