قوله تعالى : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين } وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أرى في المنام بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام آمنين ، ويحلقون رؤوسهم ويقصرون ، فأخبر بذلك أصحابه ، ففرحوا حسبوا أنهم داخلوا مكة عامهم ذلك ، فلما انصرفوا ولم يدخلوا شق عليهم ذلك ، فأنزل الله هذه الآية .
وروي عن مجمع بن حارثة الأنصاري : " قال شهدنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعضهم : ما بال الناس ؟ فقالوا : أوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال فخرجنا نوجف ، فوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً على راحلته عند كراع الغميم ، فلما اجتمع إليه الناس قرأ : { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً } فقال عمر : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : نعم والذي نفسي بيده " . ففيه دليل على أن المراد بالفتح صلح الحديبية ، وتحقق الرؤيا كان في العام المقبل ، فقال جل ذكره : { لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق } أخبر أن الرؤية التي أراها إياها في مخرجه إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام صدق وحق . قوله : { لتدخلن } يعني : وقال : لتدخلن من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه ، فأخبر الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذلك ، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى ، تأدباً بآداب الله ، حيث قال له : { ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا * إلا أن يشاء الله } ( الكهف-23 ) . وقال أبو عبيدة : " إن " بمعنى " إذ " ، مجازه : إذ شاء الله ، كقوله : { إن كنتم مؤمنين } . وقال الحسين بن الفضل : يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول ، لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ، ومات في تلك السنة ناس فمجاز الآية : لتدخلن المسجد الحرام كلكم إن شاء الله . وقيل الاستثناء واقع على الأمر لا على الدخول ، لأن الدخول لم يكن فيه شك ، كقول النبي صلى الله عليه وسلم عند دخول المقبرة : " وإنا إن شاء الله بكم لاحقون " ، فالاستثناء راجع إلى اللحوق بأهل لا إله إلا الله لا إلى الموت . { محلقين رؤوسكم } كلها ، { ومقصرين } بأخذ بعض شعورها ، { لا تخافون فعلم ما لم تعلموا } أن الصلاح كان في الصلح وتأخير الدخول ، وهو قوله تعالى : { ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات } ( الفتح-25 ) . { فجعل من دون ذلك } أي من قبل دخولكم المسجد الحرام ، { فتحاً قريباً } وهو صلح الحديبية عند الأكثرين ، وقيل : فتح خيبر .
{ 27-28 } { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا }
يقول تعالى : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المدينة رؤيا أخبر بها أصحابه ، أنهم سيدخلون مكة ويطوفون بالبيت ، فلما جرى يوم الحديبية ما جرى ، ورجعوا من غير دخول لمكة ، كثر في ذلك الكلام منهم ، حتى إنهم قالوا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ألم تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به ؟ فقال : " أخبرتكم أنه العام ؟ " قالوا : لا ، قال : " فإنكم ستأتونه وتطوفون به " قال الله هنا : { لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ } أي : لا بد من وقوعها وصدقها ، ولا يقدح في ذلك تأخر تأويلها ، { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } أي : في هذه الحال المقتضية لتعظيم هذا البيت الحرام ، وأدائكم للنسك ، وتكميله بالحلق والتقصير ، وعدم الخوف ، { فَعَلِمَ } من المصلحة والمنافع { مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ } الدخول بتلك الصفة { فَتْحًا قَرِيبًا }
ولما كانت هذه الواقعة مما تشوشت بها قلوب بعض المؤمنين ، وخفيت عليهم حكمتها ، فبين تعالى حكمتها ومنفعتها ، وهكذا سائر أحكامه الشرعية ، فإنها كلها ، هدى ورحمة .
القول في تأويل قوله تعالى : { لّقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللّهُ آمِنِينَ مُحَلّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ لاَ تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } .
يقول تعالى ذكره : لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين ، لا يخافون أهل الشرك ، مقصّرا بعضهم رأسه ، ومحلّقا بعضهم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ لَتَدْخُلُنّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شاءَ اللّهِ آمِنِينَ قال هو دخول محمد صلى الله عليه وسلم البيت والمؤمنون ، محلقين رؤوسهم ومقصرين .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : الرّؤْيا بالحَقّ قال : أُرِيَ بالحدُيبية أنه يدخل مكة وأصحابه محلقين ، فقال أصحابه حين نحر بالحُديبية : أين رؤيا محمد صلى الله عليه وسلم ؟
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يطوف بالبيت وأصحابه ، فصدّق الله رؤياه ، فقال : لَتَدْخُلُنّ المَسّجِدَ الحَرَام إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ . . . حتى بلغ لا تَخافُونَ .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ قال : أُرِيَ في المنام أنهم يدخلون المسجد الحرام ، وأنهم آمنون محلّقين رؤوسهم ومقصّرين .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ . . إلى آخر الآية . قال : قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّي قَدْ رأيْتُ أنّكُمْ سَتَدْخُلُونَ المَسْجِدَ الحَرَام مُحَلّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ » فلما نزل بالحُديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك ، فقالوا : أين رؤياه ؟ فقال الله لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ فقرأ حتى بلغ وَمُقَصّرِينَ لا تَخافُونَ إني لم أره يدخلها هذا العام ، وليكوننّ ذلك .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ . . . إلى قوله : إنْ شاءَ اللّهُ آمِنِينَ لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أُرِيَها أنه سيدخل مكة آمنا لا يخاف ، يقول : محلقين ومقصرين لا تخافون .
وقوله : فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا يقول تعالى ذكره : فعلم الله جلّ ثناؤه ما لم تعلموا ، وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين ، الذين لم يعلمهم المؤمنون ، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرّجل ، فأصابتهم منهم معرّة بغير علم ، فردّهم الله عن مكة من أجل ذلك وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلمُوا قال : ردّه لمكان من بين أظهرهم من المؤمنين والمؤمنات ، وأخره ليدخل الله في رحمته من يشاء من يريد أن يهديه .
وقوله : فجَعَلَ مِنْ دُون ذلكَ فَتْحا قَرِيبا اختلف أهل التأويل في الفتح القريب ، الذي جعله الله للمؤمنين دون دخولهم المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين ، فقال بعضهم : هو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال : النحر بالحُديبية ، ورجعوا فافتتحوا خَيبر ، ثم اعتمر بعد ذلك ، فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن الزهريّ ، قوله : فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا يعني : صلح الحُديبية ، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه ، إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة وضعت الحرب ، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا ، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة ، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه ، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال : صلح الحُديبية .
وقال آخرون : عنى بالفتح القريب في هذا الموضع : فتح خيبر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا قال : خيبر حين رجعوا من الحُديبية ، فتحها الله عليهم ، فقسمها على أهل الحديبية كلهم إلا رجلاً واحدا من الأنصار ، يقال له : أبو دجانة سماك بن خرشة ، كان قد شهد الحُديبية وغاب عن خَيبر .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال : إن الله أخبر أنه جعل لرسوله والذين كانوا معه من أهل بيعة الرضوان فتحا قريبا من دون دخولهم المسجد الحرام ، ودون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلح الحُديبية وفتح خيبر دون ذلك ، ولم يخصص الله تعالى ذكره خبره ذلك عن فتح من ذلك دون فتح ، بل عمّ ذلك ، وذلك كله فتح جعله الله من دون ذلك .
والصواب أن يعم كما عمه ، فيقال : جعل الله من دون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله وأصحابه المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين ، لا يخافون المشركين صلح الحُديبية وفتح خيبر .
روي في تفسير هذه الآية ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه ، بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون . وقال مجاهد : أرى ذلك بالحديبية ، فأخبر الناس بهذه { الرؤيا } ، ووثق الجميع بأن ذلك يكون في وجهتهم تلك ، وقد كان سبق في علم الله تعالى أن ذلك يكون . لكن ليس في تلك الجهة . وروي أن رؤياه إنما كانت أن ملكاً جاءه فقال له : { لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين } ، وإنه بهذا أعلم الناس فلما قضى الله في الحديبية بأمر الصلح ، وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصدر{[10428]} ، وقال المنافقون : وأين الرؤيا ؟ ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك ، فأنزل الله تعالى : { لقد صدق الله ورسوله الرؤيا بالحق } . و : { صدق } هذه تتعدى إلى مفعولين ، تقول صدقت زيداً الحديث . واللام في : { لتدخلن } لام القسم الذي تقتضيه { صدق } لأنها من قبيل تبين وتحقق ، ونحوها مما يعطي القسم .
واختلف الناس في معنى الاستثناء في هذه الآية ، فقال بعض المتأولين هو استثناء من الملك المخبر للنبي عليه السلام في نومه ، فذكر الله تعالى مقالته كما وقعت ، وقال آخرون هو أخذ من الله تعالى عباده بأدبه في استعماله في كل فعل يوجب وقوعه ، كان ذلك مما يكون ولا بد ، أو كان مما قد يكون وقد لا يكون ، وقال بعض العلماء : إنما استثنى من حيث كل واحد من الناس متى رد هذا الوعد إلى نفسه أمكن أن يتم الوعد فيه وأن لا يتم ، إذ قد يموت الإنسان أو يمرض أو يغيب ، وكل واحد في ذاته محتاج إلى الاستثناء ، فلذلك استثنى عز وجل في الجملة ، إذ فيهم ولا بد من يموت أو يمرض . وقال آخرون : استثنى لأجل قوله : { آمنين } لأجل إعلامه بالدخول ، فكأن الاستثناء مؤخر عن موضعه ، ولا فرق بين الاستثناء من أجل الأمن أو من أجل الدخول ، لأن الله تعالى قد أخبر بهما ووقت الثقة بالأمرين ، فالاستثناء من أيهما كان فهو استثناء من واجب . وقال قوم : { إن } بمعنى إذ فكأنه قال : إذ شاء الله .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن في معناه ، ولكن كون { إن } بمعنى إذ غير موجود في لسان العرب ، وللناس بعد في هذه الاستثناء أقوال مخلطة غير هذه ، اختصرت ذكرها ، لأنها لا طائل فيها .
وقرأ ابن مسعود : «إن شاء الله لا تخافون » بدل { آمنين } .
ولما نزلت هذه الآية ، علم المسلمون أن تلك الرؤيا فيما يستأنفون من الزمن ، واطمأنت قلوبهم بذلك وسكنت ، وخرجت في العام المقبل ، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة في ذي القعدة سنة سبع ، ودخلها ثلاثة أيام هو وأصحابه ، وصدقت رؤياه صلى الله عليه وسلم .
وقوله : { فعلم ما لم تعلموا } يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدة ودخول الناس فيه ، وما كان أيضاً بمكة من المؤمنين دفع الله تعالى{[10429]} بهم . وقوله تعالى : { من دون ذلك } ، أي من قبل ذلك وفيما يدنو إليكم .
واختلف الناس في الفتح القريب ، فقال كثير من الصحابة : هو بيعة الرضوان وروي عن مجاهد وابن إسحاق . أنه الصلح بالحديبية . وقد روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم : أو فتح هو يا رسول الله ؟ قال : «نعم » وقال ابن زيد : الفتح القريب : خيبر حسبما تقدم من ذكر انصراف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتحها . وقال قوم : الفتح القريب : فتح مكة ، وهذا ضعيف ، لأن فتح مكة لم يكن من دون دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، بل كان بعد ذلك بعام ، لأن الفتح كان سنة ثمان من الهجرة ويحسن أن يكون الفتح هنا اسم جنس يعم كل ما وقع مما للنبي صلى الله عليه وسلم فيه ظهور وفتح عليه . وقد حكى مكي في ترتيب أعوام هذه الأخبار عن قطرب قولاً خطأ جعل فيه الفتح سنة عشر ، وجعل حج أبي بكر قبل الفتح ، وذلك كله تخليط وخوض فيما لم يتقنه معرفة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قوله: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق} وذلك أن الله عز وجل أرى النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وهو بالمدينة قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه وأصحابه حلقوا وقصروا، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك أصحابه ففرحوا واستبشروا وحبسوا أنهم داخلوه في عامهم ذلك، وقالوا: إن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، فردهم الله عز وجل عن دخول المسجد الحرام إلى غنيمة خيبر... فأنزل الله تعالى: {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق}. {لتدخلن المسجد الحرام} يعني العام المقبل {إن شاء الله} يستثنى على نفسه مثل قوله: {سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله} ويكون ذلك تأديبا للمؤمنين ألا يتركوا الاستثناء، في رد المشيئة إلى الله تعالى {آمنين} من العدو {محلقين رءوسكم ومقصرين} من أشعاركم {لا تخافون} عدوكم {فعلم} الله أنه يفتح عليهم خيبر قبل ذلك فعلم {ما لم تعلموا} فذلك قوله: {فجعل من دون ذلك} يعني قبل ذلك الحلق والتقصير {فتحا قريبا} يعني غنيمة خيبر وفتحها، فلما كان في العام المقبل بعدما رجع من خيبر أدخله الله هو وأصحابه المسجد الحرام، فأقاموا بمكة ثلاثة أيام فحلقوا وقصروا تصديق رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: لقد صدق الله رسوله محمدا رؤياه التي أراها إياه أنه يدخل هو وأصحابه بيت الله الحرام آمنين، لا يخافون أهل الشرك، مقصّرا بعضهم رأسه، ومحلّقا بعضهم... قال ابن زيد، في قوله:"لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ "إلى آخر الآية. قال: قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إنّي قَدْ رأيْتُ أنّكُمْ سَتَدْخُلُونَ المَسْجِدَ الحَرَام مُحَلّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصّرِينَ» فلما نزل بالحُديبية ولم يدخل ذلك العام طعن المنافقون في ذلك، فقالوا: أين رؤياه؟ فقال الله "لَقَدْ صَدَقَ اللّهُ رَسُولَهُ الرّؤْيا بالحَقّ" فقرأ حتى بلغ "وَمُقَصّرِينَ لا تَخافُونَ" إني لم أره يدخلها هذا العام، وليكوننّ ذلك...
وقوله: "فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا" يقول تعالى ذكره: فعلم الله جلّ ثناؤه ما لم تعلموا، وذلك علمه تعالى ذكره بما بمكة من الرجال والنساء المؤمنين، الذين لم يعلمهم المؤمنون، ولو دخلوها في ذلك العام لوطئوهم بالخيل والرّجل، فأصابتهم منهم معرّة بغير علم، فردّهم الله عن مكة من أجل ذلك...
وقوله: "فجَعَلَ مِنْ دُون ذلكَ فَتْحا قَرِيبا" اختلف أهل التأويل في الفتح القريب، الذي جعله الله للمؤمنين دون دخولهم المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين؛ فقال بعضهم: هو الصلح الذي جرى بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين مشركي قريش... عن مجاهد، قوله: "مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا" قال: النحر بالحُديبية، ورجعوا فافتتحوا خَيبر، ثم اعتمر بعد ذلك، فكان تصديق رؤياه في السنة القابلة...
عن الزهريّ، قوله: فجعَلَ مِنْ دُونِ ذلكَ فَتْحا قَرِيبا يعني: صلح الحُديبية، وما فتح في الإسلام فتح كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس فلما كانت الهدنة وضعت الحرب، وأمن الناس كلهم بعضهم بعضا، فالتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئا إلا دخل فيه، فلقد دخل في تينك السنتين في الإسلام مثل من كان في الإسلام قبل ذلك وأكثر...
وقال آخرون: عنى بالفتح القريب في هذا الموضع: فتح خيبر... وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر أنه جعل لرسوله والذين كانوا معه من أهل بيعة الرضوان فتحا قريبا من دون دخولهم المسجد الحرام، ودون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان صلح الحُديبية وفتح خيبر دون ذلك، ولم يخصص الله تعالى ذكره خبره ذلك عن فتح من ذلك دون فتح، بل عمّ ذلك، وذلك كله فتح جعله الله من دون ذلك.
والصواب أن يعم كما عمه، فيقال: جعل الله من دون تصديقه رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدخوله وأصحابه المسجد الحرام محلّقين رؤوسهم ومقصّرين، لا يخافون المشركين صلح الحُديبية وفتح خيبر.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{لتدخلُنّ المسجد الحرام إن شاء الله آمنين} هذا يخرّج على وجهين:
أحدهما: على الأمر أن ادخلوا المسجد الحرام...
والثاني: أن يكون قوله: {لتدخلنّ المسجد الحرام} على الوعد، فتُخرّج الثُّنيا المذكورة على وجهين:
أحدهما: على التبرُّك والتيمُّن كما يُتبرّك بذكر اسمه في فعل يُفعَل، والله أعلم. والثاني: على الأمر لكل في نفسه إذا أخبر غيره أنه يدخل أن يقول {إن شاء الله} كما يؤمر بالثّنيا من أخبر آخر شيئا أنه يفعله لقوله تعالى عز وجل: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا} {إلا أن يشاء الله} [الكهف: 23 و24]...
{محلّقين رؤوسكم ومقصِّرين} يخبر أنهم يدخلون المسجد الحرام محلّقين ومقصّرين...
فإن قيل: ما الحكمة في أمره رسوله صلى الله عليه وسلم بالخروج للحج عام الحديبية على علم منه أنه لا يصل إلى مكة، وأنه يحال بينه وبين دخول مكة وقضاء النُّسك، إذ لا يُحمَل على ذلك إلا بأمر من الله تعالى، ليس هو كغيره من الناس: إنهم يفعلون أفعالا بلا أمر، ثم يُمنعون، أو يُنهون عن ذلك. فأما رسول الله صلى لله عليه وسلم فلا يفعل شيئا إلا عن أمر منه له بذلك؟ قيل: يحتمل أن ما أمره بذلك مع علمه بأنهم يُمنعون ذلك تعليما منه رسوله وأمته حكم الإحصار أن من حُصِر عن الحج، ومُنع عن دخول مكة لقضاء النّسُك ماذا يلزمه؟ وكيف يخرج منه؟ ولله تعالى أن يعلّم خلقه أحكام شريعته، أو يخبره بأمر يأمرهم بذلكن أو يخبر بخبرهم، ومرة بفعل النبي صلى الله عليه وسلم يمتحنهم بما شاء إذ له الحكم والأمر في الخلق، والله أعلم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{لقد}. ولما كان للنظر إلى الرؤيا اعتباران: أحدهما من جهة الواقع وهو غيب عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين: والآخر من جهة الإخبار وهو مع الرؤيا شهادة بالنسبة إليه سبحانه وتعالى، عبر بالصدق والحق فقال تعالى: {صدق الله} أي الملك الذي لا كفوء له المحيط بجميع صفات الكمال {رسوله} صلى الله عليه وسلم الذي هو أعز الخلائق عنده...
{الرؤيا} التي هي من الوحي لأنه سبحانه يرى الواقع ويعلم مطابقتها في أنكم تدخلون المسجد الحرام آمنين يحلق بعض ويقصر آخرون...
{بالحق} لأن مضمون الخبر إذا وقع فطبق بين الواقع وبينه، وكان الواقع يطابقه لا يخرم شيء منه عن شيء منه، والحاصل أنك إذا نسبتها للواقع طابقته فكان صدقاً، وإذا نسبت الواقع إليها طابقها فكانت حقاً... {لا تخافون} أي لا يتجدد لكم خوف بعد ذلك إلى أن تدخلوا عليهم عام الفتح قاهرين لهم بالنصر...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد مر بنا أن بعض المؤمنين الذين خرجوا مستبشرين برؤيا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] قد هالهم ألا تتحقق الرؤيا هذا العام؛ وأن يردوا عن المسجد الحرام. فالله يؤكد لهم صدق هذه الرؤيا، وينبئهم أنها منه، وأنها واقعة ولا بد. وأن وراءها ما هو أكبر من دخول المسجد الحرام أيضا:
(لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق: لتدخلن المسجد الحرام -إن شاء الله- آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين لا تخافون. فعلم ما لم تعلموا، فجعل من دون ذلك فتحا قريبا. هو الذي أرسل رسوله بالهدى) (ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيدا)..
فأما البشرى الأولى. بشرى تصديق رؤيا رسول الله [صلى الله عليه وسلم] ودخولهم المسجد الحرام آمنين، وتحليقهم وتقصيرهم بعد انتهاء شعائر الحج أو العمرة، لا يخافون.. فأما هذه فقد تحققت بعد عام واحد. ثم تحققت بصورة أكبر وأجلى بعد عامين اثنين من صلح الحديبية. إذ تم لهم فتح مكة، وغلبة دين الله عليها.
ولكن الله سبحانه يؤدب المؤمنين بأدب الإيمان؛ وهو يقول لهم: "لتدخلن المسجد الحرام -إن شاء الله -".. فالدخول واقع حتم، لأن الله أخبر به. ولكن المشيئة يجب أن تظل في نفوس المسلمين في صورتها الطليقة لا يقيدها شيء، حتى تستقر هذه الحقيقة في القلوب، وتصبح هي قاعدة التصور للمشيئة الإلهية. والقرآن يتكئ على هذا المعنى، ويقرر هذه الحقيقة، ويذكر هذا الاستثناء في كل موضع، حتى المواضع التي يذكر فيها وعد الله. ووعد الله لا يخلف. ولكن تعلق المشيئة به أبدا طليق. إنه أدب يلقيه الله في روع المؤمنين، ليستقر منهم في أعماق الضمير والشعور.
ونعود إلى قصة تحقيق هذا الوعد؛ فقد ذكرت الروايات أنه لما كان ذو القعدة من سنة سبع- أي العام التالي لصلح الحديبية -خرج رسول الله [صلى الله عليه وسلم] إلى مكة معتمرا هو وأهل الحديبية. فأحرم من ذي الحليفة، وساق معه الهدي- كما أحرم وساق الهدي في العام قبله -وسار أصحابه يلبون. فلما كان [صلى الله عليه وسلم] قريبا من مر الظهران بعث محمد بن مسلمة بالخيل والسلاح أمامه. فلما رآه المشركون رعبوا رعبا شديدا، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم، وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين، فذهبوا فأخبروا أهل مكة. فلما جاء رسول الله [صلى الله عليه وسلم] فنزل بمر الظهران حيث ينظر إلى أنصاب الحرم، بعث السلاح من القسي والنبل والرماح إلى بطن يأجج، وسار إلى مكة بالسيوف مغمدة في قربها كما شارطهم عليه. فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش مكرز بن حفص، فقال: يا محمد، ما عرفناك تنقض العهد. فقال [صلى الله عليه وسلم]: " وما ذاك؟ " قال: دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح. فقال [صلى الله عليه وسلم]: " لم يكن ذلك، وقد بعثنا به إلى يأجج " فقال: بهذا عرفناك، بالبر والوفاء!
وخرجت رؤوس الكفار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وإلى أصحابه- رضي الله عنهم -غيظا وحنقا. وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله [صلى الله عليه وسلم] وأصحابه. فدخلها [صلى الله عليه وسلم] وبين يديه أصحابه يلبون، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى، وهو راكب ناقته القصواء التي كان راكبها يوم الحديبية، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخذ بزمام الناقة يقودها.