معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

قوله تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده } . قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد ، قد أصابهم ما أصابهم ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فأنزل الله تعالى ( ولقد صدقكم الله وعده ) . بالنصر والظفر ، وذلك أن الظفر كان للمسلمين في الابتداء .

قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين ، وهو جبل عن يساره ، وأقام عليه الرماة ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال لهم " احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا " . وأقبل المشركون ، فأخذوا في القتال فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل ، والمسلمون يضربونهم بالسيوف ، حتى ولوا هاربين فذلك قوله تعالى ( إذ تحسونهم بإذنه ) أي تقتلونهم قتلاً ذريعاً بقضاء الله . قال أبو عبيدة : الحس : الاستئصال بالقتل .

قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } . أي إن جبنتم ، وقيل : معناه فلما فشلتم .

قوله تعالى : { وتنازعتم في الأمر وعصيتم } . فالواو زائدة في وتنازعتم ، يعني إذا فشلتم تنازعتم ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم ، ومعنى التنازع الاختلاف ، وكان اختلافهم أن الرماة اختلفوا حين انهزم المشركون ، فقال بعضهم : انهزم القوم فما مقامنا ؟ وأقبلوا على الغنيمة ، وقال بعضهم : لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة . فلما رأى خالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ذلك ، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريح فصارت دبوراً بعد ما كانت صباً ، وانقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضاً ما يشعرون من الدهش ، ونادى إبليس : أن محمداً قد قتل ، فكان ذلك سبب الهزيمة للمسلمين . قوله تعالى ( وعصيتم ) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفتم أمره .

قوله تعالى : { من بعد ما أراكم } . الله .

قوله تعالى : { ما تحبون } . يا معشر المسلمين من الظفر والغنيمة .

قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } . يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب .

قوله تعالى : { ومنكم من يريد الآخرة } . يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا ، قال عبد الله بن مسعود : ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، ونزلت هذه الآية .

قوله تعالى : { ثم صرفكم عنهم } . أي ردكم عنهم بالهزيمة .

قوله تعالى : { ليبتليكم } . ليمتحنكم ، وقيل : لينزل البلاء عليكم .

قوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } . فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة منكم لأمر نبيكم .

قوله تعالى : { والله ذو فضل على المؤمنين } .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }

أي : { ولقد صدقكم الله وعده } بالنصر ، فنصركم عليهم ، حتى ولوكم أكتافهم ، وطفقتم فيهم قتلا ، حتى صرتم سببا لأنفسكم ، وعونا لأعدائكم عليكم ، فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور { وتنازعتم في الأمر } الذي فيه ترك أمر الله بالائتلاف وعدم الاختلاف ، فاختلفتم ، فمن قائل نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قائل : ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو ، ولم يبق محذور ، فعصيتم الرسول ، وتركتم أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون وهو انخذال أعدائكم ؛ لأن الواجب على من أنعم الله عليه بما أحب ، أعظم من غيره .

فالواجب في هذه الحال خصوصًا ، وفي غيرها عموما ، امتثال أمر الله ورسوله .

{ منكم من يريد الدنيا } وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب ، { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا حيث أمروا .

{ ثم صرفكم عنهم } أي : بعدما وجدت هذه الأمور منكم ، صرف الله وجوهكم عنهم ، فصار الوجه لعدوكم ، ابتلاء من الله لكم وامتحانا ، ليتبين المؤمن من الكافر ، والطائع من العاصي ، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ما صدر منكم ، فلهذا قال : { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } أي : ذو فضل عظيم عليهم ، حيث منَّ عليهم بالإسلام ، وهداهم لشرائعه ، وعفا عنهم سيئاتهم ، وأثابهم على مصيباتهم .

ومن فضله على المؤمنين أنه لا يقدر عليهم خيرا ولا مصيبة ، إلا كان خيرا لهم . إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين ، وإن أصابتهم ضراء فصبروا ، جازاهم جزاء الصابرين .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعۡدَهُۥٓ إِذۡ تَحُسُّونَهُم بِإِذۡنِهِۦۖ حَتَّىٰٓ إِذَا فَشِلۡتُمۡ وَتَنَٰزَعۡتُمۡ فِي ٱلۡأَمۡرِ وَعَصَيۡتُم مِّنۢ بَعۡدِ مَآ أَرَىٰكُم مَّا تُحِبُّونَۚ مِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلدُّنۡيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلۡأٓخِرَةَۚ ثُمَّ صَرَفَكُمۡ عَنۡهُمۡ لِيَبۡتَلِيَكُمۡۖ وَلَقَدۡ عَفَا عَنكُمۡۗ وَٱللَّهُ ذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلۡمُؤۡمِنِينَ} (152)

القول في تأويل قوله تعالى :

{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّىَ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مّا تُحِبّونَ مِنكُم مّن يُرِيدُ الدّنْيَا وَمِنكُم مّن يُرِيدُ الاَخِرَةَ ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }

يعني بقوله تعالى ذكره : ولقد صدقكم الله أيها المؤمنون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بأُحد وعده الذي وعدهم على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم . والوعد الذي كان وعدهم على لسانه بأُحد قوله للرماة : «اثْبُتُوا مَكانَكُمْ وَلا تَبْرَحُوا وَإنْ رأيْتُمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ ، فإنّا لَنْ نَزاَلَ غالبينَ ما ثَبَتّمْ مَكانَكُمْ » ، وكان وعدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم النصر يومئذ إن انتهوا إلى أمره¹ كالذي :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : لما برز رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين بأُحد ، أمر الرماة ، فقاموا بأصل الجبل في وجوه خيل المشركين ، وقال : «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ إنْ رأيْتُمُونا قَدْ هَزَمْناهُمْ ، فإنّا لَنْ نَزَالَ غالِبِينَ ما ثَبَتّمْ مَكانَكُمْ » وأمّر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوّات بن جبير ، ثم إن طلحة بن عثمان صاحب لواء المشركين قام فقال : يا معشر أصحاب محمد ، إنكم تزعمون أن الله يعجلنا بسيوفكم إلى النار ، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنة ، فهل منكم أحد يعجله الله بسيفي إلى الجنة ، أو يعجلني بسيفه إلى النار ؟ فقام إليه عليّ بن أبي طالب ، فقال : والذي نفسي بيده ، لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النار ، أو يعجلني بسيفك إلى الجنة ! فضربه عليّ ، فقطع رجله فسقط ، فانكشفت عورته ، فقال : أنشدك الله والرحم يا ابن عم ! فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال لعليّ أصحابه : ما منعك أن تجهز عليه ؟ قال : إن ابن عمي ناشدني حين انكشفت عورته فاستحييت منه . ثم شدّ الزبير بن العوّام والمقداد بن الأسود على المشركين ، فهزماهم ، وحمل النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فهزموا أبا سفيان ، فلما رأى ذلك خالد بن الوليد وهو على خيل المشركين حمل ، فرمته الرماة ، فانقمع¹ فلما نظر الرماة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في جوف عسكر المشركين ينتهبونه ، بادروا الغنيمة ، فقال بعضهم : لا نترك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم . فانطلق عامتهم ، فلحقوا بالعسكر¹ فلما رأى خالد قلة الرماة ، صاح في خيله ، ثم حمل فقتل الرماة ، ثم حمل على أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم¹ فلما رأى المشركون أن خيلهم تقاتل ، تنادوا ، فشدّوا على المسلمين ، فهزموهم وقتلوهم .

حدثنا هارون بن إسحاق ، قال : حدثنا مصعب بن المقدام ، قال : حدثنا إسرائيل ، قال : حدثنا أبو إسحاق ، عن البراء ، قال : لما كان يوم أُحد ولقينا المشركين ، أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالاً بإزاء الرماة ، وأمّر عليهم عبد الله بن جبير أخا خوّات بن جبير ، وقال لهم : «لا تَبْرَحُوا مَكانَكُمْ ! إنْ رأيْتُمُونا ظَهَرْنا عَلَيْهِمْ فَلا تَبْرَحُوا ، وَإنْ رأيْتُمُوهُمْ ظَهَرُوا عَلَيْنا فَلا تُعِينُونا » فلما التقى القوم ، هُزم المشركون حتى رأيت النساء قد رفعن عن سوقهن ، وبدت خلاخلهن ، فجعلوا يقولون : الغنيمة الغنيمة ! قال عبد الله : مهلاً ، أما علمتم ما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأبوا ، فانطلقوا ، فلما أتوهم صرف الله وجوههم ، فأصيب من المسلمين سبعون قتيلاً .

حدثنا سفيان بن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن إسرائيل ، عن أبي أسحاق ، عن البراء ، بنحوه .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، ابن عباس قوله : { وَلَقَدْ صَدقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسّونهُمْ بإذْنِهِ } فإن أبا سفيان أقبل في ثلاث ليال خلون من شوّال ، حتى نزل أُحدا ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأذن في الناس ، فاجتمعوا ، وأمّر على الخيل الزبير بن العوّام ، ومعه يومئذ المقداد بن الأسود الكندي ، وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم اللواء رجلاً من قريش يقال له مصعب بن عمير ، وخرج حمزة بن عبد المطلب بالحُسّر ، وبعث حمزة بين يديه ، وأقبل خالد بن الوليد على خيل المشركين ومعه عكرمة بن أبي جهل ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الزبير ، وقال : «اسْتَقْبِلْ خَالِدَ بْنَ الوَلِيدِ فَكُنْ بإزَائِهِ حَتّى أوذِنْكَ ! » وأمر بخيل أخرى ، فكانوا من جانب آخر ، فقال : «لا تَبْرَحُوا حتى أوذِنَكُمْ ! » وأقبل أبو سفيان يحمل اللات والعزّى ، فأرسل النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى الزبير أن يحمل ، فحمل على خالد بن الوليد ، فهزمه ومن معه ، كما قال : { لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسّونَهُمْ بإذْنِهِ حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ في الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } وإن الله وعد المؤمنين أن ينصرهم ، وأنه معهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : ثني محمد بن مسلم بن عبيد الله الزهري ، أن محمد بن يحيى بن حبان ، وعاصم بن عمر بن قتادة ، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا في قصة ذكرها عن أُحد ، ذكر أن كلهم قد حدّث ببعضها ، وأن حديثهم اجتمع فيما ساق من الحديث ، فكان فيما ذكر في ذلك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الشعب من أحد في عُدْوة الوادي إلى الجبل ، فجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وقال : «لا تُقَاتِلُوا حَتّى نَأْمُرَ بالِقَتال » ، وقد سرحت قريش الظهر والكُراع في زروع كانت بالصّمْغة من قناة للمسلمين ، فقال رجل من الأنصار حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال : أتُرْعى زروع بني قيلة ولما نُضارب ! وصفّنا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال ، وهو في سبعمائة رجل ، وتصافّ قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس قد جَنَبُوها ، فجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد ، وعلى ميسرتها عكرمة بن أبي جهل . وأمّر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الرماة عبد الله بن جبير أخا بني عمرو بن عوف ، وهو يومئذ معلم بثياب بيض ، والرماة خمسون رجلاً ، وقال : «انْضَحْ عَنّا الخَيْلَ بالّنْبِل لا يَأْتُونَا مِنْ خَلْفِنَا ! إنْ كَانَتْ لنا أو عَلَيْنَا فاثْبُتْ مَكَانَكَ ، لا نُؤْتَيَنّ مِنْ قَبِلِكَ ! » فلما التقى الناس ، ودنا بعضهم من بعض ، واقتتلوا حتى حميت الحرب ، وقاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس ، وحمزة بن عبد المطلب ، وعليّ بن أبي طالب في رجال من المسلمين ، فأنزل الله عزّ وجلّ نصره ، وصدقهم وعده ، فحسّوهم بالسيوف حتى كشفوهم ، وكانت الهزيمة لا شك فيها .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن محمد بن إسحاق ، عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير ، عن أبيه ، عن جده ، قال : قال الزبير : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هند بنت عتبة وصواحبها مشمّرات هوازم ، ما دون إحداهن قليل ولا كثير ، إذ مالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه ، يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأُتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن محمدا قد قُتل ! فانكفأنا وأنكفأ علينا القوم بعد أن هزمنا أصحاب اللواء ، حتى ما يدنو منه أحد من القوم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق في قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ } : أي لقد وفيت لكم بما وعدتكم من النصر على عدوّكم .

حُدثت عن عمار ، قال : حدثنا ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمْ اللّهُ وَعْدَهُ } ، وذلك يوم أُحد ، قال لهم : «إنّكُمْ سَتَظْهَرُونَ فَلاَ تَأْخُذُوا ما أصَبْتُمْ مِنْ غَنائمهِمْ شَيْئا حتى تَفْرُغُوا » فتركوا أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ، وعصوا ، ووقعوا في الغنائم ، ونسوا عهده الذي عهده إليهم ، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به .

القول في تأويل قوله تعالى : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ } .

يعني تعالى ذكره بذلك : ولقد وفى الله لكم أيها المؤمنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وعدكم من النصر على عدوّكم بأحُد ، حين تحسّونهم ، يعني : حين تقتلونهم . يقال منه : حَسّهُ يَحُسّهُ حَسّا : إذا قتله . كما :

حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي ، قال : حدثنا يعقوب بن عيسى ، قال : ثني عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف ، عن محمد بن عبد العزيز ، عن الزهري ، عن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة ، عن أبيه ، عن عبد الرحمن بن عوف في قوله : { إذْ تَحُسّوَنهُمْ بإذْنِهِ } قال : الحَسّ : القتل .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرنا ابن أبي الزناد ، عن أبيه ، قال : سمعت عبيد الله بن عبد الله يقول في قول الله عزّ وجلّ : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ } قال : القتل .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { إذْ تَحُسّوَنهُمْ بإذْنِهِ } قال : تقتلونهم .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسّوَنهُمْ } أي قتلاً بإذنه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة في قوله : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ } يقول : إذ تقتلونهم .

حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ } والحَسّ القتل .

حدثنا محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إذْ تَحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ } يقول : تقتلونهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ } بالسيوف : أي بالقتل .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن : { إذْ تَحُسّونَهُمْ بإذْنِهِ } يعني : القتل .

حدثني عليّ بن داود ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : قوله : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ بإذْنِهِ } يقول : تقتلونهم .

وأما قوله : { بإذْنِهِ } فإنه يعني : بحكمي وقضائي لكم بذلك وتسليطي إياكم عليهم . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { إذْ تَحُسّوَنَهُمْ } بإذني وتسليطي أيديكم عليهم ، وكفي أيديهم عنكم .

القول في تأويل قوله تعالى : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أراكُمْ ما تُحِبّونَ } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ } : حتى إذا جبنتم وضعفتم ، { وتَنازَعتمْ في الأمْرِ } بقول : واختلفتم في أمر الله¹ يقول : وعصيتم وخالفتم بنيكم ، فتركتم أمره ، وما عهد إليكم . وإنما يعني بذلك الرماة الذين كان أمرهم صلى الله عليه وسلم بلزوم مركزهم ومقعدهم من فم الشعب بأُحد ، بإزاء خالد بن الوليد ومن كان معه من فرسان المشركين الذين ذكرنا قبلُ أمرهم .

وأما قوله : { مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } فإنه يعني بذلك : من بعد الذي أراكم الله أيها المؤمنون بمحمد من النصر والظفر بالمشركين ، وذلك هو الهزيمة التي كانوا هزموهم عن نسائهم وأموالهم قبل ترك الرماة مقاعدهم التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقعدهم فيها ، وقبل خروج خيل المشركين على المؤمنين من ورائهم .

وبنحو الذي قلنا تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل ، وقد مضى ذكر بعض من قال ، وسنذكر قول بعض من لم يذكر قوله فيما مضى . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ } أي اختلفتم في الأمر ، { وعصيتمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } وذاكم يوم أُحد ، عهد إليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأمرهم بأمر ، فنسوا العهد وجاوزوا وخالفوا ما أمرهم بنيّ الله صلى الله عليه وسلم ، فانصرف عليهم عدوّهم بعد ما أراهم من عدوّهم ما يحبون .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث ناسا من الناس يعني : يوم أُحد فكانوا من ورائهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كُونُوا هَهُنا فَرُدّوا وَجْهَ مَنْ قَدِمَنا ، وكُونُوا حَرَسا لَنا مِنْ قِبَلِ ظُهُورِنا » وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هزم القوم هو وأصحابه ، اختلف الذين كانوا جعلوا من ورائهم ، فقال بعضهم لبعض لما رأوا النساء مصعدات في الجبل ، ورأوا الغنائم ، قالوا : انطلقوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدركوا الغنيمة قبل أن تسبقوا إليها ! وقالت طائفة أخرى : بل نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم فنثبت مكاننا . فذلك قوله : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا } للذين أرادوا الغنيمة ، { وِمِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الاَخِرَةَ } للذين قالوا : نطيع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونثبت مكاننا . فأتوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، فكان فشلاً حين تنازعوا بينهم¹ يقول : { وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْد مَا أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } كانوا قد رأوا الفتح والغنيمة .

حُدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ } يقول : جبنتم عن عدوّكم ، { وَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ } يقول : اختلفتم وعصيتم ، { مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } وذلك يوم أُحد ، قال لهم : «إنّكَم سَتَظْهَرُونَ فلا أعَرِفنّ ما أصَبْتُمْ مِنْ غَنَائمهم شَيْئا حتى تفَرغُوا » ، فتركوا أمر نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ، ووقعوا في الغنائم ، ونسوا عهده الذي عهده إليهم ، وخالفوا إلى غير ما أمرهم به ، فانصرف عليهم عدوّهم من بعد ما أراهم فيهم ما يحبون .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ } قال ابن جريج : قال ابن عباس : الفشل : الجبن .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } من الفتح .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ } : أي تخاذلتم ، { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ } أي اختلفتم في أمري ، { وَعَصَيْتُمْ } : أي تركتم أمر نبيكم صلى الله عليه وسلم وما عهد إليكم ، يعني : الرماة . { مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } أي الفتح لا شكّ فيه ، وهزيمة القوم عن نسائهم وأموالهم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن المبارك ، عن الحسن : { مِنْ بَعْدِ ما أرَاكُمْ مَا تُحِبّونَ } يعني : من الفتح .

وقيل : معنى قوله : { حتى إذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْد ما أرَاكُمْ ما تُحِبّونَ } حتى إذا تنازعتم في الأمر فشلتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون أنه من المقدّم الذي معناه التأخير ، وإن الواو دخلت في ذلك ، ومعناها : السقوط كما قلنا في : { فَلَمّا أسْلَما وَتَلّهُ للْجَبِينِ وَنادَيْناهُ } معناه : ناديناه ، وهذا مقول في «حتى إذا » وفي «فلما أنْ » ، ومنه قول الله عزّ وجلّ : { حتى إذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمأجُوجُ } ثم قال : { وَاقْتَرَبَ الوَعْدُ الحَقّ } ومعناه : اقترب ، وكما قال الشاعر :

حتى إذَا قَمِلَتْ بُطُونُكُمُ *** وَرأيْتُمُ أبْناءَكُمْ شَبّوا

وَقلبْتُمْ ظَهْرَ المِجَنّ لنَا *** إنّ اللّئِيمَ العاجِزُ الخَبّ

القول في تأويل قوله تعالى : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } .

يعني جلّ ثناؤه بقوله : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا } : الذين تركوا مقعدهم الذي أقعدهم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب من أحد لخيل المشركين ، ولحقوا بمعسكر المسلمين طلب النهب إذ رأوا هزيمة المشركين { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } يعني بذلك : الذين ثبتوا من الرماة في مقاعدهم التي أقعدهم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واتبعوا أمره ، محافظة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وابتغاء ما عند الله من الثواب بذلك من فعلهم ، والدار الاَخرة . كما :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } فالذين انطلقوا يريدون الغنيمة ، هم أصحاب الدنيا والذين بقوا ، وقالوا : لا نخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أرادوا الاَخرة .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس مثله .

حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ ، قال : حدثنا عبيد بن سليمان ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : { مِنْكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } فإن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أمر يوم أُحد طائفة من المسلمين ، فقال : «كُونُوا مَسْلَحَةً للنّاسِ » بمنزلة أمرهم أن يثبوا بها ، وأمرهم أن لا يبرحوا مكانهم حتى يأذن لهم ، فلما لقي بنيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد أبا سفيان ومن معه من المشركين ، هزمهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم : فلما رأى المسلحةُ أن الله عزّ وجلّ هزم المشركين ، انطلق بعضهم وهم يتنادون : الغنيمة الغنيمة لا تفتكم ! وثبت بعضهم مكانهم ، وقالوا : لا نريم موضعنا حتى يأذن لنا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم . ففي ذلك نزل : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } فكان ابن مسعود يقول : ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعَرَضها حتى كان يوم أحد .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج : قال ابن عباس : لما هزم الله المشركين يوم أُحد ، قال الرماة : أدركوا الناس ونبيّ الله صلى الله عليه وسلم لا يسبقوكم إلى الغنائم فتكون لهم دونكم ! وقال بعضهم : لا نريم حتى يأذن لنا النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت : { مِنكُمْ مَنْ يُريدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } قال ابن جريج : قال ابن مسعود : ما علمنا أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذٍ .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن المبارك ، عن الحسن : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا } هؤلاء الذين يحوزون الغنائم ، { وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } الذين يتبعونهم يقتلونهم .

حدثنا الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ عن عبد خير ، قال : قال عبد الله : ما كنت أرى أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا ، حتى نزل فينا يوم أُحد : { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الاَخِرَةَ } .

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، عن عبد خير ، قال : قال ابن مسعود : ما كنت أظن أن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ أحدا يريد الدنيا حتى قال الله ما قال .

حدثت عن عمار ، عن ابن أبي جعفر ، عن أبيه ، عن الربيع ، قال : قال عبد الله بن مسعود لما رآهم وقعوا في الغنائم : ما كنت أحسب أن أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان اليوم .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قال : كان ابن مسعود يقول : ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وَعَرَضها حتى كان يومئذٍ .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق { مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدّنيْا } أي الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا وترك ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الاَخرة ، { وَمِنْكُمْ مَنْ يَرِيدُ الاَخرَةَ } : أي الذين جاهدوا في الله لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا رغبة في رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الاَخرة .

القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } .

يعني بذلك جلّ ثناؤه : ثم صرفكم أيها المؤمنون عن المشركين بعد ما أراكم ما تحبون فيهم ، وفي أنفسكم من هزيمتكم إياهم ، وظهوركم عليهم ، فردّ وجوهكم عنهم لمعصيتكم أمر رسولي ، ومخالفتكم طاعته ، وإيثاركم الدنيا على الاَخرة ، عقوبة لكم على ما فعلتم ، ليبتليكم ، يقول : ليختبركم ، فيتميز المنافق منكم من المخلص ، الصادق في إيمانه منكم . كما :

حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : ثم ذكر حين مال عليهم خالد بن الوليد : { ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَليكُمْ } .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن في قوله : { ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } قال : صرف القوم عنهم ، فقتل من المسلمين بعدّة من أسروا يوم بدر ، وقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وشجّ في وجهه ، وكان يمسح الدم عن وجهه ، ويقول : «كَيْفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ فَعَلُوا هَذَا بِنَبِيّهِمْ وَهُوَ يَدْعُوهُمْ إلى رَبّهِمْ ؟ »¹ فنزلت : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمْرِ شَيْءٌ } . . . الاَية ، فقالوا : أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدنا النصر ؟ فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ } إلى قوله : { ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلَيكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { ثُمّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلَيكُمْ } : أي صرفكم عنهم ليختبركم ، وذلك ببعض ذنوبكم .

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ على المُؤْمِنِين } .

يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ } : ولقد عفا الله أيها المخالفون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والتاركون طاعته ، فيما تقدم إليكم من لزوم الموضع الذي أمركم بلزومه عنكم ، فصفح لكم من عقوبة ذنبكم الذي أتيتموه عما هو أعظم مما عاقبكم به من هزيمة أعدائكم إياكم ، وصرف وجوهكم عنهم إذ لم يستأصل جمعكم . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن مبارك ، عن الحسن ، في قوله : { وَلَقَد عَفا عَنْكُمْ } قال : قال الحسن وصفق بيديه : وكيف عفا عنهم وقد قتل منهم سبعون ، وقتل عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وشجّ في وجهه ؟ قال : ثم يقول : قال الله عزّ وجلّ : قد عفوت عنكم إذ عصيتموني أن لا أكون استأصلتكم . قال : ثم يقول الحسن : هؤلاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي سبيل الله غضاب لله ، يقاتلون أعداء الله ، نهوا عن شيء فصنعوه ، فوالله ما تركوا حتى غموا بهذا الغمّ ، فأفسق الفاسقين اليوم يتجرأ على كل كبيرة ، ويركب كل داهية ، ويسحب عليها ثيابه ، ويزعم أن لا بأس عليه ، فسوف يعلم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قوله : { وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ } قال : لم يستأصلكم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ } : ولقد عفا الله عن عظيم ذلك لم يهلككم بما أتيتم من معصية نبيكم ، ولكن عُدْت بفضلي عليكم .

وأما قوله : { وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ على المُؤْمِنِينَ } فإنه يعني : والله ذو طول على أهل الإيمان به وبرسوله بعفوه لهم عن كثير ما يستوجبون به العقوبة عليه من ذنوبهم ، فإن عاقبهم على بعض ذلك ، فذو إحسان إليهم بجميل أياديه عندهم . كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : { وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ على المُؤْمِنِينَ } يقول : وكذلك منّ الله على المؤمنين أن عاقبهم ببعض الذنوب في عاجل الدنيا أدبا وموعظة ، فإنه غير مستأصل لكل ما فيهم من الحقّ له عليهم ، لما أصابوا من معصيته ، رحمة لهم ، وعائدة عليهم لما فيهم من الإيمان .