{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا } أي حزمة شماريخ { فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } : قال المفسرون : وكان في مرضه وضره ، قد غضب على زوجته في بعض الأمور ، فحلف : لئن شفاه اللّه ليضربنها مائة جلدة ، فلما شفاه اللّه ، وكانت امرأته صالحة محسنة إليه ، رحمها اللّه ورحمه ، فأفتاه أن يضربها بضغث فيه مائة شمراخ ضربة واحدة ، فيبر في يمينه .
{ إِنَّا وَجَدْنَاهُ } أي : أيوب { صَابِرًا } أي : ابتليناه بالضر العظيم ، فصبر لوجه اللّه تعالى . { نِعْمَ الْعَبْدُ } الذي كمل مراتب العبودية ، في حال السراء والضراء ، والشدة والرخاء .
{ إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي : كثير الرجوع إلى اللّه ، في مطالبه الدينية والدنيوية ، كثير الذكر لربه والدعاء ، والمحبة والتأله .
بين - سبحانه - منة أخرى من المنن التى من بها على عبده أيوب فقال : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } . والجملة الكريمة معطوف على قوله قبل ذلك : { اركض } أو على { وهبنا } بتقدير : وقلنا له .
والضغث فى اللغة : القبضة من الحشيش اختلط فيها الرطب باليابس . وقيل : هى قبضة من عيدان مختلفة يجمعها أصل واحد .
والحنث : يطلق على الإِثم وعلى الخُلْفِ فى اليمين .
والآية الكريمة تفيد أن أيوب - عليه السلام - قد حلف أن يضرب شيئا وأن عدم الضرب يؤدى إلى حنثه فى يمينه ، أى : إلى عدم وفائه فيما حلف عليه ، فنهاه الله - تعالى - عن الحنث فى يمينه ، وأوجد له المخرج الذى يترتب عليه البر فى يمينه دون أن يتأذى المضروب بأى أذى يؤلمه .
وقد ذكروا فيمن وقع عليه الضرب وسبب هذا الضرب ، روايات لعل أقربها إلى الصواب ، أن أيوب أرسل امرأته فى حاجة له فأبطأت عليه ، فأقسم أنه إذا برئ من مرضه ليضربنها مائة ضربه ، وبعد شفائه رخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة - وهى المعبر عنها بالضغث - وبها مائة عود ، ثم يضرب بها مرة واحدة ، وبذلك يكون قد جمع بين الوفاء بيمينه ، وبين الرحمة بزوجته التى كانت تحسن خدمته خلال مرضه ، وتقوم بواجبها نحوه خير قيام .
والمعنى : وهبنا له بفضلنا ورحمتنا أهله ومثلهم معهم ، وقلنا له بعد شفائه خذ بيدك حزمة صغيرة من الحشيش فيها مائة عود ، فاضرب بها من حلفت أن تضربه مائة ضربة ، وبذلك تكون غير حانث فى يمينك .
هذا وقد تكلم العلماء عن هذه الرخصة . أهى خاصة بأيوب ، أم هى عامة للناس ؟ .
فقال بعضهم : إذا حلف الشخص أن يضرب فلانا مائة جلدة ، أو أن يضربه ضربا غير شديد ، فيكفيه مثل هذا الضرب المكذور الذى جاء فى الآية ؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا .
وقال آخرون : هذه الرخصة خاصة بأيوب - عليه السلام - ولا تنسحب إلى غيره ، لأن الخطاب إليه وحده . ولأن الله - تعالى - لم يبين لنا فى الآية كيفية اليمين ، ولا من يقع عليه الضرب .
ثم بين - سبحانه - أنه جعل لعبده أيوب هذا المخرج لصبره وكثرة رجوعه إلى ما يرضيه - تعالى - فقال : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } .
أى : إنا وجدنا عبدنا أيوب صابرا على ما أصبناه به من بلاء ، ونعم العبد هو . إنه كثير الرجوع إلينا فى كل أحواله .
وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من فضائل أيوب - عليه السلام - ومن النعم التى أنعم الله - تعالى - بها عليه جزاء صبره وطاعته لربه .
{ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } مقول لقول محذوف دلّت عليه صيغة الكلام ، والتقدير : وقلنا خذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث ، وهو قول غيرُ القول المحذوف في قوله : { اركض برجلك } [ ص : 42 ] لأن ذلك استجابة دعوة وهذا إفتاء برخصة ، وذلك له قصته ، وهذا له قصة أخرى أشارت إليها الآية إجمالاً ولم يرد في تعيينها أثر صحيح ومجملها أن زوج أيوب حاولت عملاً ففسد عليه صبره من استعانة ببعض الناس على مواساته فلما علم بذلك غضب وأقسم ليضربنّها عدداً من الضرب ثم ندم وكان محبّاً لها ، وكانت لائذة به في مدة مرضه فلما سُرِّي عنه أشفق على امرأته من ذلك ولم يكن في دينهم كفارة اليمين فأوحى الله إليه أن يضربها بحُزمة فيها عددٌ من الأعواد بعدد الضربات التي أقسم عليها رفقاً بزوجه لأجله وحفظاً ليمينه من حنثه إذ لا يليق الحنث بمقام النبوءة . وليست هذه القضية ذات أثر في الغرض الذي سيقت لأجله قصة أيوب من الأسوة وإنما ذكرت هنا تكملة لمظهر لطف الله بأيوب جزاء على صبره .
ومعاني الآية ظاهرة في أن هذا الترخيص رفق بأيوب ، وأنه لم يكن مثله معلوماً في الدّين الذي يدين به أيوبُ إبقاء على تقواه ، وإكراماً له لحبه زوجه ، ورفقاً بزوجه لبرّها به ، فهو رخصة لا محالة في حكم الحنث في اليمين .
فجاء علماؤنا ونظروا في الأصل المقرر في المسألة المفروضة في أصول الفقه وهي : أن شرع من قبلنا هل هو شرع لنا إذا حكاه القرآن أو السنة الصحيحة ، ولم يكن في شرعنا ما ينسخه من نص أو أصل من أصول الشريعة الإسلامية . فأما الذين لم يروا أن شرع من قبلنا شرع لنا وهم أبو بكر الباقلاني من المالكية وجهورُ الشافعية وجميعُ الظاهرية فشأنهم في هذا ظاهر ، وأما الذين أثبتوا أصل الاقتداء بشرع مَن قبلنا بقيوده المذكورة وهم مالك وأبو حنيفة والشافعي فتخطَّوا للبحث في أن هذا الحكم الذي في هذه الآية هل يقرر مثلُه في فقه الإِسلام في الإِفتاء في الأيمان وهل يتعدى به إلى جعله أصلاً للقياس في كل ضَرب يتعين في الشرع له عدد إذا قام في المضروب عذر يقتضي الترخيص بعد البناء على إثبات القياس على الرخص ، وهل يتعدّى به إلى جعله أصلاً للقياس أيضاً لإِثبات أصل مماثل وهو التحيّل بوجه شرعي للتخلص من واجب تكليففٍ شرعي ، واقتحموا ذلك على ما في حكاية قصة أيوب من إجمال لا يتبصر به الناظر في صفة يمينه ولا لفظه ولا نيته إذ ليس من مقصد القصة .
فأما في الأيمان فقد كفانا الله التكلّف بأن شرع لنا كفارات الأيمان .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " إني والله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يميني فعلت الذي هو خير " ، فصار ما في شرعنا ناسخاً لما شرع لأيوب فلا حاجة إلى الخوض فيها ، ومذهب الحنفية العمل بذلك استناداً لكونه شرعاً لمن قبلنا وهو قول الشافعي .
وقال مالك : هذه خاصة بأيوب أفتى الله بها نبيئاً . وحكى القرطبي عن الشافعي أنه خصه بما إذا حلف ولم تكن له نية كأنه أخرجه مُخرج أقل ما يصدق عليه لفظ الضرب والعدد . وأما القياس على فتوى أيوب في كلّ ضرب معيّن بعدد في غير اليمين ، أي في باب الحدود والتعزيرات فهو تطوح في القياس لاختلاف الجنس بين الأصل والفرع ، ولاختلاف مقصد الشريعة من الكفارات ومقصدها من الحدود والتعزيرات ، ولترتب المفسدة على إهمال الحدود والتعزيرات دون الكفارات . ولا شك أن مثل هذا التسامح في الحدود يفضي إلى إهمالها ومصيرها عبثاً . وما وقع في « سنن أبي داود » من حديث أبي أمامة عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار « أنّ رجلاً منهم كان مريضاً مضنى فدخلت عليه جارية فهشّ لها فوقع عليها فاستفتوا له رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظْم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربةً واحدة . ورواه غير أبي داود بأسانيد مختلفة وعبارات مختلفة . وما هي إلا قصة واحدة فلا حجة فيه لأنه تطرقته احتمالات .
أولها : أن ذلك الرجل كان مريضاً مضنى ولا يُقام الحد على مثله .
الثاني : لعلّ المرض قد أخل بعقله إخلالاً أقدمه على الزنا فكان المرض شبهة تدْرأ الحدَّ عنه .
الثالث : أنه خبر آحاد لا ينقض به التواتر المعنوي الثابتُ في إقامة الحدود .
الرابع : حمله على الخصوصية . ومذهب الشافعي أنه يعمل بذلك في الحد للضرورة كالمرض وهو غريب لأن أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وأقوال السلف متضَافرة على أن المريض والحامل يُنتظران في إقامة الحد عليهما حتى يبرآ ، ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأن تضرب الحامل بشماريخ ، فماذا يفيد هذا الضرب الذي لا يزجر مُجرماً ، ولا يدفع مأثماً ، وفي « أحكام الجصّاص » عن أبي حنيفة مثل ما للشافعي . وحكى الخطابي أن أبا حنيفة ومالكاً اتفقا على أنه لا حدّ إلا الحد المعروف . فقد اختلف النقل عن أبي حنيفة .
{ إِنَّا وجدناه صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أواب } .
علة لجملة { اركض برجلِكَ } [ ص : 42 ] وجملة { ووهبنا له أهلهُ } [ ص : 43 ] ، أي أنعمنا عليه بجبر حاله ، لأنا وجدناه صابراً على ما أصابه فهو قدوة للمأمور بقوله : { اصبر على ما يقولون } [ المزمل : 10 ] صلى الله عليه وسلم فكانت ( إِنَّ ) مغنية عن فاء التفريع .
ومعنى { وجدناهُ } أنه ظهر في صبره ما كان في علم الله منه .
وقوله : { نِعم العبد إنَّهُ أوَّابٌ } مثل قوله في سليمان { نِعم العبد إنَّه أوَّابٌ } [ ص : 30 ] ، فكان سليمان أوَّاباً لله من فتنة الغنى والنعيم ، وأيوب أوَّاباً لله من فتنة الضرّ والاحتياج ، وكان الثناء عليهما متماثلاً لاستوائهما في الأوبة وإن اختلفت الدواعي . قال سفيان : أثنى الله على عبدين ابتليا : أحدهما صابر ، والآخر شاكر ، ثناءً واحداً . فقال لأَيوب ولسليمان { نِعْمَ العبد إنَّه أوَّابٌ } .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وخذ بيدك ضغثا} يعني بالضغث القبضة الواحدة، فأخذ عيدانا رطبة، وهي الأسل مائة عود عدد ما حلف عليه، وكان حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة.
{فاضرب به ولا تحنث} ولا تأثم في يمينك التي حلفت عليها...
{إنا وجدناه صابرا} على البلاء إضمار.
{نعم العبد إنه أواب} مطيعا لله تعالى.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَخُذْ بِيَدِكَ ضغْثا" يقول: وقلنا لأيوب: خذ بيدك ضغثا، وهو ما يجمع من شيء مثل حزمة الرّطْبة، وكملء الكفّ من الشجر أو الحشيش والشماريخ ونحو ذلك مما قام على ساق... عن ابن عباس، قوله: "وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثا فاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ "قال: أمر أن يأخذ ضغثا من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضرب به...
عن قتادة: "وَخُذْ بِيَدكَ ضِغْثا..." الآية، قال: كانت امرأته قد عَرَضت له بأمر، وأرادها إبليس على شيء، فقال: لو تكلمت بكذا وكذا، وإنما حملها عليها الجزع، فحلف نبيّ الله: لئِن اللّهُ شفاه ليجلِدّنها مئة جلدة قال: فأُمِر بغصن فيه تسعة وتسعون قضيبا، والأصل تكملة المِئَة، فضربها ضَربة واحدة، فأبرّ نبيّ الله، وخَفّف الله عن أمَتِهِ، والله رحيم...
وقوله: "إنّا وَجَدْناهُ صَابِرا نِعْمَ العَبْدُ" يقول: إنا وجدنا أيوب صابرا على البلاء، لا يحمله البلاء على الخروج عن طاعة الله والدخول في معصيته، "نَعْمَ العَبْدُ إنّهُ أوّابٌ" يقول: إنه على طاعة الله مقبل، وإلى رضاه رَجّاع.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال بعضهم: قضبان وأغصان ونحو ذلك لأيوب خاصة، وقال بعضهم: هو له وسائر الناس: أن من حلف أن يضرب كذا خشبة أو سوطا، فجمع قضبانا أو أغصانا فضرب بها، بر في يمينه، وليس في الآية أنه ضرب به مرة أو مرارا حتى يخرج بضربه المرأة عن يمينه.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف وجده صابراً وقد شكا إليه ما به واسترحمه؟ قلت: الشكوى إلى الله عزّ وعلا لا تسمى جزعاً، ولقد قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] وكذلك شكوى العليل إلى الطبيب، وذلك أن أصبر الناس على البلاء لا يخلو من تمني العافية وطلبها، فإذا صحّ أن يسمى صابراً مع تمني العافية وطلب الشفاء، فليسم صابراً مع اللجإ إلى الله تعالى، والدعاء بكشف ما به ومع التعالج ومشاورة الأطباء، على أن أيوب عليه السلام كان يطلب الشفاء خيفة على قومه من الفتنة، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم كما كان يوسوس إليه أنه لو كان نبياً لما ابتلي بمثل ما ابتلي به، وإرادة القوة على الطاعة، فقد بلغ أمره إلى أن لم يبق منه إلاّ القلب واللسان...
فإن قيل كيف وجده صابرا وقد شكى إليه، والجواب من وجوه:
الأول: أنه شكى من الشيطان إليه وما شكى منه إلى أحد.
الثاني: أن الألم حين كان على الجسد لم يذكر شيئا فلما عظمت الوساوس خاف على القلب والدين فتضرع.
الثالث: أن الشيطان عدو، والشكاية من العدو إلى الحبيب لا تقدح في الصبر...
{نعم العبد إنه أواب} وهذا يدل على أن تشريف نعم العبد، إنما حصل لكونه أوابا، وسمعت بعضهم قال: لما نزل قوله تعالى: {نعم العبد} في حق سليمان عليه السلام تارة، وفي حق أيوب عليه السلام أخرى عظم الغم في قلوب أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقالوا إن قوله تعالى: {نعم العبد} في حق سليمان تشريف عظيم، فإن احتجنا إلى اتفاق مملكة مثل مملكة سليمان حتى بحد هذا التشريف لم نقدر عليه، وإن احتجنا إلى تحمل بلاء مثل أيوب لم نقدر عليه، فكيف السبيل إلى تحصيله، فأنزل الله تعالى قوله: {نعم المولى ونعم النصير} والمراد أنك إن لم تكن {نعم العبد} فأنا {نعم المولى} وإن كان منك الفضول فمني الفضل، وإن كان منك التقصير، فمني الرحمة والتيسير...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{ولا تحنث} فهذا تخفيف على كل منهما لصبره، ولعل الكفارة لم تكن فيهم وخصنا الله بها مع شرعه فينا ما أرخصه له تشريفاً لنا، وكل هذا إعلاماً بأن الله تعالى ابتلاه صلى الله عليه وسلم في بدنه وولده وماله، ولم يبق له إلا زوجة فوسوس لها الشيطان طمعاً في إيذائهما كما آذى آدم وحواء عليهما السلام، إلى أن قارب منها بعض ما يريد، والمراد بالإعلام به تذكير النبي صلى الله عليه وسلم بأنه إن كان مكن الشيطان من الوسوسة لأقاربه والإغواء والإضلال فقد منّ عليه بزوجه أعظم وزراء الصدق وكثير من أقاربه الأعمام وبني الأعمام وغيرهم، وحفظ له بدنه وماله ليزداد شكره لله تعالى، وفي القصة إشارة إلى أنه قادر على أن يطيع له من يشاء، فإنه قادر على التصرف في المعاني كقدرته على التصرف في الذوات، وأنه سبحانه يهب لهذا النبي الكريم قومه العرب الذين هم الآن أشد الناس عليه وغيرهم فيطيعه الكل.
ولما كان الصبر والأفعال المرضية عزيزة في العباد لا تكاد توجد فلا يكاد يصدق بها، علل سبحانه هذا الإكرام له صلى الله عليه وسلم وأكده، فقال على سبيل الاستنتاج مما تقدم إشارة إلى أن السر في التذكير به التأسي في الصبر: {إنا} أي على ما لنا من العظمة {وجدناه} أي في عالم الشهادة طبق ما كان لنا في عالم الغيب ليتجدد للناس من العلم بذلك ما كنا به عالمين.
ولما كان السياق للحث على مطلق الصبر في قوله تعالى {واصبر على ما يقولون}
[المزمل: 10] أتى باسم الفاعل مجرداً على مبالغة فقال: {صابراً} ثم استأنف قوله: {نعم العبد} ثم علل بقوله مؤكداً لئلا يظن أن بلاءه قادح في ذلك:
{إنه أواب} أي رجاع بكليته إلى الله سبحانه على خلاف ما يدعو إليه طبع البشر...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
مقول لقول محذوف دلّت عليه صيغة الكلام، والتقدير: وقلنا خذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث، وهو قول غيرُ القول المحذوف في قوله: {اركض برجلك}؛ لأن ذلك استجابة دعوة وهذا إفتاء برخصة، وذلك له قصته، وهذا له قصة أخرى أشارت إليها الآية إجمالاً ولم يرد في تعيينها أثر صحيح، ومجملها أن زوج أيوب حاولت عملاً ففسد عليه صبره، من استعانة ببعض الناس على مواساته، فلما علم بذلك غضب وأقسم ليضربنّها عدداً من الضرب ثم ندم وكان محبّاً لها، وكانت لائذة به في مدة مرضه، فلما سُرِّي عنه أشفق على امرأته من ذلك ولم يكن في دينهم كفارة اليمين فأوحى الله إليه أن يضربها بحُزمة فيها عددٌ من الأعواد بعدد الضربات التي أقسم عليها رفقاً بزوجه لأجله وحفظاً ليمينه من حنثه إذ لا يليق الحنث بمقام النبوءة. وليست هذه القضية ذات أثر في الغرض الذي سيقت لأجله قصة أيوب من الأسوة؛ وإنما ذكرت هنا تكملة لمظهر لطف الله بأيوب جزاء على صبره.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الذي يلفت النظر في هذه الآية أنّها أعطت ثلاثة أوصاف لأيّوب، كلّ واحد منها إن توفّر في أي إنسان فهو إنسان كامل.
ثالثاً: إنابته المتكرّرة إلى الله...
رغم أنّ قصّة هذا النّبي الصابر أدرجت في أربع آيات في هذه السورة، إلاّ أنّها وضّحت حقائق مهمّة، منها:
أ- الامتحان الإلهي واسع وكبير جدّاً ويشمل حتّى الأنبياء الكبار، إذ يكون امتحانهم أشدّ وأصعب من الآخرين؛ لأنّ طبيعة الحياة في هذه الدنيا بنيت على هذا الأساس، ومن دون هذا الامتحان فإنّ الإمكانيات والطاقات الكامنة في الإنسان لا تتفجّر.
ب -الفرج بعد الشدّة نقطة أخرى تكمن في مجريات هذه القصّة، فعندما تشتدّ أمواج الحوادث والبلاء على الإنسان وتحيط به من كلّ جانب، عليه أن لا ييأس ويفقد الأمل، وإنّما عليه أن يدرك أنّها بداية تفتح أبواب الرحمة الإلهية عليه...
ه- أحياناً يكون امتحان شخص ما، هو امتحان في نفس الوقت لأصدقائه وللمحيطين به، كي يعرف حجم صداقتهم ومحبّتهم إيّاه، ومقدار وفائهم له، فعندما فقد أيّوب أمواله وثرواته وصحّته تفرّق عنه أصحابه، ولم يكتفوا بالابتعاد عنه، وإنّما اتّحدت ألسنتهم مع ألسنة أعدائه في الشماتة به وإلقاء اللائمة عليه، وكشفوا بفعلتهم هذه عن حقيقة أنفسهم، وكما لاحظنا فإنّ أيّوب كان يتألّم من جراح ألسنتهم أكثر من تألّمه من مرضه. و أحبّاء الله ليسوا من يذكر الله عند الرخاء، وإنّما أحبّاء الله الواقعيون هم أولئك الذين يذكرون الله دائماً في السرّاء والضرّاء، وفي المرض والعافية... وإنّ تأثيرات الحياة الماديّة لا تترك على إيمانهم وأفكارهم أدنى أثر...
ز- هذه القصّة أكّدت مرّة أخرى حقيقة أنّ فقدان الإمكانات الماديّة، ونزول المصائب، وحلول المشاكل والفقر، لا تعني عدم شمول الإنسان بلطف البارئ عز وجل، كما أنّ امتلاك الإمكانات الماديّة ليس دليلا على بُعد الإنسان عن الله سبحانه وتعالى، وإنّما يمكن أن يكون الإنسان عبداً مقرّباً لله مع امتلاكه للكثير من الإمكانات الماديّة، بشرط أن لا يكون عبداً لأمواله وأولاده ومقامه الدنيوي، وإنّ فقدها لا يفقد الصبر معها...
إطلاق صفة (أوّاب) على الأنبياء الكبار ثلاثة أنبياء كبار اُطلقت عليهم صفة:
(أوّاب) في هذه السورة، وهم: داود وسليمان وأيّوب، وفي سورة (ق) في الآية (32) أطلق هذا الوصف على كلّ أهل الجنّة، قوله تعالى: (هذا ما توعدون لكلّ أوّاب حفيظ) هذه العبارات تبيّن أنّ مقامه في المقام الأعلى، وعندما نرجع إلى مصادر اللغة نشاهد أنّ كلمة (أوّاب) مشتقّة من كلمة (أوب) وتعني الرجوع والعودة، وهذا الرجوع والعودة (خاصّة وأنّ كلمة (أوّاب) هي اسم مبالغة تعني كثرة الرجوع وتكراره، يشير إلى أنّ الأوّابين حسّاسون جدّاً تجاه الأسباب والعوامل التي تبعدهم عن الله، كالرزق وبريق الزخارف الدنيوية في أعينهم، ووساوس النفس والشيطان، وإن ابتعدوا لحظة واحدة عن الله عادوا إليه بسرعة، وإن غفلوا عنه لحظة تذكروه وسعوا في جبرانها...