محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

{ وخذ بيدك ضغثا } أي حزمة صغيرة { فاضرب به ولا تحنث إنا وجدناه صابرا } أي في كل ما ابتليناه به { نعم العبد إنه أواب } أي كثير الرجوع إلى الله تعالى ، بالإنابة والابتهال والعبادة .

تنبيهات :

الأول- كان أيوب عليه السلام نبيا غنيا من أرباب العقار والماشية . وكان أميرا في قومه . وكانت أملاكه ومنزله في الجنوب الشرقي من البحر الميت ، بين بلاد أدوم وصحراء العربية . وكانت إذ ذاك خصيبة رائعة التربة كثيرة المياه المتسلسلة . وكان زمنه بعد زمن إبراهيم وقبل زمن موسى عليهم السلام . هذا ما حققه بعض الباحثين . والله أعلم .

الثاني- يذكر كثير من المفسرين ههنا مرويات وقصصا إسرائيلية في ابتلائه عليه السلام . ولا وثوق من ذلك كله إلا بمجمله . وهو ما أشار له التنزيل الكريم ، لأنه المتيقن . وهو أنه عليه الصلاة والسلام أصابته بلوى عظيمة في نفسه وماله وأهله . وأنه صبر على ذلك صبرا صار يضرب به المثل لثباته وسعة صدره وشجاعته . وأنه جوزي بحسنة صبره أضعافها المضاعفة .

الثالث - قال الزمخشري : فإن قلت : لم نسب المسّ إلى الشيطان ولا يجوز أن يسلطه الله على أنبيائه ، ليقضي من إتعابهم وتعذيبهم وطره ، ولو قدر على ذلك لم يدع صالحا إلا وقد نكبه وأهلكه . وقد تكرر في القرآن أنه لا سلطان له إلا الوسوسة فحسب ؟

قلت : لما كانت وسوسته إليه ، له فيما وسوس ، سببا فيما مسّه الله به من النصب والعذاب- نسبه إليه . وقد راعا الأدب في ذلك حيث لم ينسبه إلى الله في دعائه ، مع أنه فاعله ولا يقدر عليه إلا هو . وقيل : أراد ما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء ، ويغريه على الكراهة والجزع فالتجأ إلى الله تعالى في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء ، أو بالتوفيق في دفعه ورده بالصبر الجميل . انتهى .

الرابع- دلّ قوله تعالى : { وخذ بيدك ضغثا } الآية ، على تقدم يمين منه عليه السلام . وقد رووا هنا آثارا في المحلوف عليه ، لم يصح منها شيء . فالله أعلم به ولا ضرورة لبيانه . إذ القصد الإعلام برحمة أخرى ونعمة ثانية عليه ، صلوات الله عليه . وهي الدلالة إلى المخرج من الحنث ، برخصة وطريقة سهلة سمحة ترفع الجرح . ونحن نورد هنا أمثل ما كتب في الآية ، إيقافا للقارئ عليه ، قال السيوطي في ( الإكليل ) : أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن عباس وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرهم ، ( أن أيوب حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة . فلما كشف الله عنه البلاء أمر أن يأخذ ضغثا فيضربها به . فأخذ شماريخ مائة ثم ضربها ضربة واحدة ) . قال سعيد بن جبير : وهي لهذه الأمة لمن حلف على مثل ما حلف عليه أيوب . ثم أخرج أيضا عن عطاء قال : هي للناس عامة . وعن مجاهد قال : كانت لأيوب خاصة قال الكيا الهراسي : ذهب الشافعي وأبو حنيفة وزفر ، إلى أن من فعل ذلك فقد برّ في يمينه . وخالف مالك ورآه خاصا بأيوب .

قال : وفي الآية دليل على أن للزوج ضرب زوجته ، وأن يحلف ولا يستثني . انتهى .

واستدل بهذه الآية على أن الاستثناء شرطه الاتصال . إذ لو لم يشترط لأمره تعالى بالاستثناء ولم يحتج إلى الضرب بالضغث . واستدل عطاء بالآية على مسألة أخرى . فأخرج سعيد بن منصور عنه بسند صحيح ، أن رجلا قال له : إني أردت ألا أكسي امرأتي ذراعا حتى تقف بعرفة . فقال : احملها على حمار ثم اذهب فقف بها بعرفة . فقال : إنما عنيت يوم عرفة . فقال عطاء : وأيوب حين حلف ليجلدن امرأته مائة جلدة ، ما نوى أن يضربها بالضغث ، إنما أمره الله تعالى أن يأخذ ضغثا فيضربها به . قال عطاء : إنما القرآن عبر . انتهى كلام ( الإكليل ) .

وقد رد الإمام ابن القيم في كتابه ( إغاثة اللهفان ) الاستدلال بهذه الآية على جواز الحيلة . وعبارته : وأما قوله تعالى : لأيوب عليه السلام { وخذ بيدك ضغثا فاضرب به ولا تحنث } فمن العجب أن يحتج بهذه الآية على من يقول : إنه لو حلف ليضربنه عشرة أسواط فجمعها وضربه بها / ضربة واحدة لم يبرّ في يمينه . وإن علم أنها لم تمسه ، لم يبر . وإن شك لم يحنث . ولو كان هذا موجبا لبرّ الحالف ، لسقط عن الزاني والقاذف والشارب بعدد الضرب ، بأن يجمع له مائة سوط أو ثمانين ويضربه بها ضربة واحدة . وهذا إنما يجري في المرض كما قال الإمام أحمد ، في المريض عليه الحدّ ، ويضرب بعثكال يسقط عنه الحد . واحتج بما رواه عن أبي أمامة بن سهل ، عن سعيد بن سعد بن عبادة قال : ( كان بين أبنائنا إنسان مخدج ضعيف ، لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها . وكان مسلما . فرفع شأنه سعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : اضربوه حده ، قالوا : يا رسول الله  ! إنه أضعف من ذلك إن ضربناه مائة قتلناه . فقال : فخذوا له عثكالا فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة ، وخلو سبيله ) .

وأما قصة أيوب فلها فقه دقيق . فإن امرأته كانت لشدة حرصها على عافيته وخلاصه من دائه ، تلتمس له الدواء بما تقدر عليه ، فلما لقيها الشيطان وقال ما قال ، أخبرت أيوب عليه السلام بذلك ، فقال : إنه الشيطان . ثم حلف لئن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة سوط فكانت معذورة محسنة في شأنه ، ولم يكن في شرعهم كفارة . فإنه لو كان في شرعهم كفارة ، لعدل إلى التكفير ، ولم يحتج إلى ضربها . فكانت اليمين موجبة عندهم كالحدود . وقد ثبت أن المحدود إذا كان معذورا خفف عنه ، بأن يجمع له مائة شمراخ أو مائة سوط فيضرب بها ضربة واحدة . وامرأة أيوب كانت معذورة ، لم تعلم أن الذي خاطبها الشيطان ، وإنما قصدت الإحسان . فلم تكن تستحق العقوبة ، فأفتى الله نبيه أيوب عليه السلام أن يعاملها معاملة المعذور ، هذا مع رفقها به وإحسانها إليه فجمع له بين البر في يمينه والرفق بامرأته المحسنة المعذورة ، التي لا تستحق العقوبة . فظهر موافقة نص القرآن في قصة أيوب عليه السلام ، لنص السنة ، في شأن الضعيف الذي زنى . فلا يتعدى بهما عن محلهما .

/ فإن قيل : فقولوا هذا في نظير ذلك ممن حلف ليضربن امرأته أو أمته مائة ، وكانتا معذورتين لا ذنب لهما ، إنه يبرّ بجمع ذلك في ضربها بمائة شمراخ . قيل : قد جعل له الله مخرجا بالكفارة ويجب عليه أن يكفر يمينه ، ويقضي الله بالبر في يمينه هاهنا ، ولا يحل له أن يبرّ فيها ، بل بره فيها هو حنثه مع الكفارة . ولا يحل له أن يضربها لا مفرقا ولا مجموعا .

فإن قيل : فإذا كان الضرب واجبا كالحد ، هل تقولون ينفعه ذلك ؟ قيل : إما أن يكون العذر مرجوّ الزوال كالحر والبرد الشديد ، والمرض اليسير ، فهذا ينتظر زواله . ثم يحدّ الحد الواجب . كما روى مسلم في ( صححيه ) عن عليّ رضي الله عنه ، ( أن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت . فأمرني أن أجلدها . فأتيتها فإذا هي حديثة عهد بنفاس . فخشيت إن جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : أحسنت . اتركها حتى تماثل ) . انتهى . كلام ابن القيم .