التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

بين - سبحانه - منة أخرى من المنن التى من بها على عبده أيوب فقال : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } . والجملة الكريمة معطوف على قوله قبل ذلك : { اركض } أو على { وهبنا } بتقدير : وقلنا له .

والضغث فى اللغة : القبضة من الحشيش اختلط فيها الرطب باليابس . وقيل : هى قبضة من عيدان مختلفة يجمعها أصل واحد .

والحنث : يطلق على الإِثم وعلى الخُلْفِ فى اليمين .

والآية الكريمة تفيد أن أيوب - عليه السلام - قد حلف أن يضرب شيئا وأن عدم الضرب يؤدى إلى حنثه فى يمينه ، أى : إلى عدم وفائه فيما حلف عليه ، فنهاه الله - تعالى - عن الحنث فى يمينه ، وأوجد له المخرج الذى يترتب عليه البر فى يمينه دون أن يتأذى المضروب بأى أذى يؤلمه .

وقد ذكروا فيمن وقع عليه الضرب وسبب هذا الضرب ، روايات لعل أقربها إلى الصواب ، أن أيوب أرسل امرأته فى حاجة له فأبطأت عليه ، فأقسم أنه إذا برئ من مرضه ليضربنها مائة ضربه ، وبعد شفائه رخص له ربه أن يأخذ حزمة صغيرة - وهى المعبر عنها بالضغث - وبها مائة عود ، ثم يضرب بها مرة واحدة ، وبذلك يكون قد جمع بين الوفاء بيمينه ، وبين الرحمة بزوجته التى كانت تحسن خدمته خلال مرضه ، وتقوم بواجبها نحوه خير قيام .

والمعنى : وهبنا له بفضلنا ورحمتنا أهله ومثلهم معهم ، وقلنا له بعد شفائه خذ بيدك حزمة صغيرة من الحشيش فيها مائة عود ، فاضرب بها من حلفت أن تضربه مائة ضربة ، وبذلك تكون غير حانث فى يمينك .

هذا وقد تكلم العلماء عن هذه الرخصة . أهى خاصة بأيوب ، أم هى عامة للناس ؟ .

فقال بعضهم : إذا حلف الشخص أن يضرب فلانا مائة جلدة ، أو أن يضربه ضربا غير شديد ، فيكفيه مثل هذا الضرب المكذور الذى جاء فى الآية ؛ لأن شرع من قبلنا شرع لنا .

وقال آخرون : هذه الرخصة خاصة بأيوب - عليه السلام - ولا تنسحب إلى غيره ، لأن الخطاب إليه وحده . ولأن الله - تعالى - لم يبين لنا فى الآية كيفية اليمين ، ولا من يقع عليه الضرب .

ثم بين - سبحانه - أنه جعل لعبده أيوب هذا المخرج لصبره وكثرة رجوعه إلى ما يرضيه - تعالى - فقال : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } .

أى : إنا وجدنا عبدنا أيوب صابرا على ما أصبناه به من بلاء ، ونعم العبد هو . إنه كثير الرجوع إلينا فى كل أحواله .

وبذلك نرى الآيات الكريمة قد ساقت لنا جانبا من فضائل أيوب - عليه السلام - ومن النعم التى أنعم الله - تعالى - بها عليه جزاء صبره وطاعته لربه .