فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي - صديق حسن خان  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

{ وَخُذْ } معطوف على اركض ، أو على وهبنا ، أو التقدير وقلنا له خذ { بِيَدِكَ ضِغْثًا } وهو عثكال النخل بشماريخه ، وقيل هو قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها ، وقيل الحزمة الكبيرة من القضبان ، وأصل المادة تدل على جمع المختلطات ، قال الواحدي الضغث ملء الكف من الشجر والحشيش والشماريخ ، وعن ابن عباس قال : الضغث هو الأسل ، وقال أيضا الضغث القبضة من المرعى الرطب ، وقال أيضا الحزمة .

{ فَاضْرِبْ بِهِ } أي بذلك الضغث { وَلَا تَحْنَثْ } في يمينك والحنث الإثم ويطلق على فعل ما حلف على تركه ، أو ترك ما حلف على فعله ، لأنهما سببان فيه ، وكان أيوب قد حلف في مرضه أن يضرب امرأته مائة جلدة ، واختلف في سبب ذلك فقال سعيد بن المسيب إنها جاءته بزيادة على ما كانت تأتيه به من الخبز فخاف خيانتها فحلف ليضربها .

وقال يحيى بن سلام وغيره ، إن الشيطان أغواها أن تحمل أيوب على أن يذبح سخلة تقربا إليه فإنه إذا فعل برئ . فحلف ليضربنها إذا عوفي مائة جلدة ، وقيل باعت ذؤابتها برغيفين إذ لم تجد شيئا وكان أيوب يتعلق بها إذا أراد القيام ، فلهذا حلف ليضربنها وأخرج أحمد في الزهد عن ابن عباس قال : إن إبليس قعد على الطريق وأخذ تابوتا يداوي الناس فقالت امرأة أيوب : يا عبد الله إن ههنا مبتلى من أمره كذا وكذا فهل لك أن تداويه ، قال نعم بشرط إن أنا شفيته أن يقول أنت شفيتني لا أريد منه أجرا غيره فأتت أيوب فذكرت له ذلك ، فقال : ويحك ذاك الشيطان ، لله عليّ إن شفاني الله أن أجلدك مائة جلدة ، فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا فيضربها به ، فأخذ عذقا فيه مائة شمراخ فضربها به ضربة واحدة .

وأخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال " حملت وليدة في بني ساعدة من زنا فقيل لها : ممن حملك ؟ قالت من فلان المقعد ، فسئل المقعد فقال : صدقت فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : خذوا عثكولا فيه مائة شمراخ فاضربوه ضربة واحدة . وله طرق أخرى .

وقد اختلف العلماء هل هذا خاص بأيوب أو عام للناس كلهم ؟ وأن من حلف خرج من يمينه بمثل ذلك ؟ قال الشافعي : إذا حلف ليضربن فلانا مائة جلدة أو ضربا ولم يقل ضربا شديدا ولم ينو بقلبه فيكفيه مثل هذا الضرب المذكور في الآية حكاه ابن المنذر عنه ، وعن أبي ثور وأصحاب الرأي ، وقال عطاء هو خاص بأيوب ، ورواه ابن القاسم عن مالك ، ثم أثنى الله سبحانه على أيوب فقال :

{ إِنَّا وَجَدْنَاهُ } أي علمناه { صَابِرًا } على البلاء الذي ابتليناه به فإنه ابتلي بالداء العظيم في جسده وذهاب ماله وولده وأهله فصبر وليس في شكواه إلى الله إخلال بذلك فإنه ليس جزعا تمني العافية وطلب الشفاء ، والشكاية المذمومة إنما هي إذا كانت للمخلوقين ، قال ابن مسعود أيوب رأس الصابرين يوم القيامة .

{ نِعْمَ الْعَبْدُ } أي أيوب { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي رجاع إلى الله تعالى بالاستغفار والتوبة .