الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{وَخُذۡ بِيَدِكَ ضِغۡثٗا فَٱضۡرِب بِّهِۦ وَلَا تَحۡنَثۡۗ إِنَّا وَجَدۡنَٰهُ صَابِرٗاۚ نِّعۡمَ ٱلۡعَبۡدُ إِنَّهُۥٓ أَوَّابٞ} (44)

وقوله تعالى : { وخذ بيد ضغثا } الضغث : ما يجمع من شيء من الرطب ويحمل الكف من الحشيش أو الشماريخ ونحو ذلك . قال ابن عباس ، أُمر أن يأخذ حزمة من رطبة بقدر ما حلف عليه فيضربها به{[58416]} .

قال الحسن مكث أيوب مطرحا على كناسة سبع سنين وأشهرا ، ما يسأل الله أن يكشف ما به . قال : وما على الأرض أكرم على الله من أيوب . فقال بعض الناس : لو كان لرب هذا فيه حاجة ما ضيع هذا . قال : فعند ذلك / دعا أيوب ربه فكشف ما به{[58417]} .

قال قتادة : كان إبليس قد تعرض لامرأته فقال لها : لو تكلمت كذا وكذا شفيته . فحلف أيوب لئن شفاه الله{[58418]} ليجلدنها مائة جلدة . فأمر أن يأخذ أصلا فيه تسعة وتسعون{[58419]} قضيبا ، والأصل تكملة{[58420]} المائة ، فيضربها به ضربة واحدة فيبر من يمينه ويخفف الله بذلك عن امرأته{[58421]} .

قال الضحاك : ضغثا ، يعني : من الشجر الرطب . كان حلف على يمين فأخذ من الشجر عدد م حلف عليه فضرب ضربة واحدة فَبَرَّت يمينه ، وهو في الناس اليوم : يمين أيوب . من أخذ بها فهو أحسن{[58422]} .

قال عطاء : هذا لجميع الناس{[58423]} ، وقال مجاهد وغيره : هو خاص لأيوب ، لا يعمل به غيره ولا يجزيه . وهو قول مالك ، وهو قول جماعة العلماء إلا الشافعي فإنه أجاز لمن حلف على عشر ضربات فضرب بشمراخ فيه عشر قضبان مرة فأصابت المضروب أنه يبر{[58424]} قال ابن جبير : يعني بالضغث قبضة من المكانس{[58425]} .

ثم قال تعالى : { إنا وجدناه صابرا } أي : على البلاء .

{ نعم العبد إنه أواب } أي : رجاع عن معصية الله إلى طاعته .

قال ابن عباس : اتخذ إبليس تابوتا وقعد{[58426]} على الطريق يداوي الناس ، فأتته امرأة أيوب ، فقالت : إن هاهنا إنسانا{[58427]} مبتلى من أمره كذا ، هل لك أن تداويه ؟ قال : نعم على أني إن شفيته أن يقول كلمة واحدة . يقول : أنت شفيتني ، لا أريد منه أجرا غيرها . فأخبرت بذلك أيوب . فقال : ويحك ! ذلك الشيطان ! لله علي إن شفاني الله{[58428]} أن أجلدك مائة جلدة . فلما شفاه الله أمره أن يأخذ ضغثا ( فيضربها به ){[58429]} . فأخذ شماريخ قدر ماشة فضربها به{[58430]} ضربة واحدة{[58431]} .

وقال غير ابن عباس ، إنما نذر أن يضربها حين باعت شعرها بالطعام فافتقده وخافها على نفسها .

ويروى أن أيوب عليه السلام{[58432]} لم يدع في بلائه ، وصبر حتى نال ثلاثة أشياء ، فعند ذلك دعا الله عز وجل : وذلك أن صديقين له بالشام بلغهما خبره فتزودا ومضيا لزيارته فوجداه في منزله{[58433]} لم يبق منه إلا عيناه ، فقالا له : أنت أيوب ! فقال : نعم فقالا له : لو كان عملك – الذي رأيناه – يُفْضَى به إلى الله عز وجل ما لقيت الذي نرى . فقال لهما : وأنتما تقولان ذلك لي ! فَبَلَغَ ذلك منه .

والثانية أن امرأته قطعت ثلاثة ذوائب لها وباعتها في طعامه . فلما علم ذلك ، عَظُمَ عليه ، وبلغ ذلك منه . فهذه ثانية والثالثة : قبول امرأته من إبليس إذا أراد أن يحتال عليها ، فعند ذلك تواعدها ، وأقسم لئن شفاه الله ليضربنها مائة ضربة . وعند ذلك دعا إلى الله فشفاه الله{[58434]} .


[58416]:انظر: جامع البيان 23/108.
[58417]:رد جماعة من العلماء بأن أيوب ألقي على كناسة، وذلك لأن الله أكرم من أن يبتلي نبيه وصفيه على خلقه بهذا. واعتبره مجرد إسرائيليات لا سند صحيحا لها. انظر: أحكام ابن العربي 4/1652، وروح المعاني 23/208، والإسرائيليات والموضوعات 280.
[58418]:ساقط من (ح).
[58419]:(ع): وتسعين.
[58420]:(ح): تكملته.
[58421]:انظر: جامع البيان 23/108. وورد في المحرر الوجيز 14/39 مع بعض الزيادات ومجهول القائل.
[58422]:انظر: جامع البيان 23/108.
[58423]:انظر: أحكام الجصاص 3/382، والمُحَلَّى 11/174 والدر المنثور 7/195.
[58424]:انظر: الإيضاح 392، وتفسير الثوري 260. وأضاف الشافعي في أحكام القرآن أنه إذا شك في إصابة المضروب بها جميعا، لم يحنث، ويحنث في الورع. 2/117. وفي أحكام القرآن للجصاص 2/382 يقول: (قال أبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد: إذا ضربه ضربة واحدة بعد أن يصيبه كل واحدة منه فقد بَرَّ في يمينه. وقال مالك والليث: لا يبر. وهذا القول خلاف الكتاب، لأن الله تعالى قد أخبر أن فاعل ذلك لا يحنث). وانظر: المحلى 11/173، وأحكام القرآن للهراسي 2/361، وناسخ ابن العربي 2/345 حيث ذكر ابن العربي أن مالكا ركَّب اليمين على النية، فلعل أيوب عليه السلام اقتضت نيته ما أمر به من جمع الضغث. وفي أحكام ابن العربي 4/1652 وجامع القرطبي 15/213 أنه روي عن مجاهد أنها للناس عامة، وانظر: المحرر الوجيز 14/40، وروح المعاني 23/209.
[58425]:انظر: الدر المنثور 7/195 لكن بلفظ: (الكبائس) عوض (المكانس).
[58426]:في طرة (ح).
[58427]:(ع): إنسان.
[58428]:ساقط من (ح).
[58429]:(ح) فيضرب بها.
[58430]:ساقط من (ح).
[58431]:انظر: أحكام القرآن لابن العربي 4/1651، وجامع القرطبي 15/212.
[58432]:ساقط من (ح).
[58433]:(ح): مزبلة.
[58434]:(ح): دوايب بدال مهملة.