معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

قوله تعالى : { من قبل أن يأتيكم العذاب بغتةً وأنتم لا تشعرون أن تقول نفس } يعني : لئلا تقول نفس كقوله :{ وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم } ( النحل-15 ) يعني : لئلا تميد بكم . قال المبرد : أي : بادروا واحذروا أن تقول نفس ، وقال الزجاج : خوف أن تصيروا إلى حال تقولون هذا القول . { يا حسرتي } يا ندامتا ، والتحسر الاغتمام على ما فات ، وأراد يا حسرتي على الإضافة . لكن العرب تحول ياء الكناية ألفاً في الاستغاثة ، فتقول : يا ويلتي ويا ندامتا ، وربما ألحقوا بها الياء بعد الألف ليدل على الإضافة ، وكذلك قرأ أبو جعفر " يا حسرتاي " وقيل : معنى قوله : { يا حسرتا } يا أيتها الحسرة هذا وقتك { على ما فرطت في جنب الله } ، قال الحسن : قصرت في طاعة الله . وقال مجاهد : في أمر الله ، وقال سعيد بن جبير : في حق الله ، وقيل : ضيعت في ذات الله : وقيل : معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضاء الله ، والعرب تسمي الجنب جانباً . { وإن كنت لمن الساخرين } المستهزئين بدين الله ، وكتابه ، ورسوله ، والمؤمنين . قال قتادة : لم يكفه أن ضيع طاعة الله حتى جعل يسخر بأهل طاعته .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

ثم حذرهم { أَن } يستمروا على غفلتهم ، حتى يأتيهم يوم يندمون فيه ، ولا تنفع الندامة . و { تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ } أي : في جانب حقه . { وَإِنْ كُنْت } في الدنيا { لَمِنَ السَّاخِرِينَ } في إتيان الجزاء ، حتى رأيته عيانا .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

وقوله : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله . . . } أى : بسبب تفريطى وتقصيرى فى طاعة الله ، وفى حقه - تعالى - .

وأصل الجنب والجانب : الجهة المحسوسة للشئ ، وأطلق على الطاعة على سبيل المجاز ، حيث شبهت بالجهة . بجامع تعلق كل منهما - أى الجانب والطاعة - بصاحبه . إذ الطاعة لها تعلق بالله - تعالى - . كما أن الجهة لها تعلق بصاحبها .

قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم نكرت " نفس " ؟ قلت : لأن المراد بها بعض الأنفس وهى نفس الكافر . ويجوز أن يكون نفس متميزة من الأنفس : إما بلجاج فى الكفر شديد ، أو بعذاب عظيم ، ويجوز أن يراد التكثير ، كما قال الأعشى :

دعا قومه حولى فجاءوا لنصره . . . وناديت قوما بالمسناة غيبا

ورب بقيع لو هتفت بجوه . . . أتانى كريم ينفض الرأس مغضبا

وهو يريد : أفواجا من الكرام ينصرونه ، لا كريما واحدا . .

وجملة { وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين } فى محل نصب على الحال . أى : فرطت فى جنب الله وطاعته ، والحال أنى لم أكن إلا من الساخرين بدينه ، المستهزئين بأتباع هذا الدين الحق .

قال قتادة : لم يكفه أنه ضيع طاعة الله حتى سخر من أهلها .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَن تَقُولَ نَفۡسٞ يَٰحَسۡرَتَىٰ عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنۢبِ ٱللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ ٱلسَّـٰخِرِينَ} (56)

{ أن تقول } تعليل للأوَامر في قوله : { وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } [ الزمر : 54 ] { واتبعوا أحسن ما أنزل } [ الزمر : 55 ] على حذف لام التعليل مع ( أَنْ ) وهو كثير .

وفيه حذف لا } النافية بعد { أن ، وهو شائع أيضاً كقوله تعالى : { وهذا كتاب أنزلناه مبارك فاتبعوه واتقوا لعلكم ترحمون أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم } [ الأنعام : 155 - 157 ] ، وكقوله : { فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا } [ النساء : 135 ] . وعادة صاحب « الكشاف » تقدير : كراهية أن تفعلوا كذا . وتقدير ( لا ) النافية أظهر لكثرة التصرف فيها في كلام العرب بالحذف والزيادة .

والمعنى : لئلا تقول نفس يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله . وظاهر القول إنه القول جهرة وهو شأن الذي ضاق صَبْره عن إخفاء ندامته في نفسه فيصرخ بما حدَّث به نفسه فتكون هذه الندامة المصرح بها زائدة على التي أسرّها ، ويجوز أن يكون قولاً باطناً في النفس . وتنكير { نَفْسٌ } للنوعية ، أي أن يَقول صنف من النفوس وهي نفوس المشركين فهو كقوله تعالى : { علمت نفس ما أحضرت } [ التكوير : 14 ] . وقول لبيد :

أو يعتلق بعض النفوس حمامها

يريد نفسه .

وحرف ( يا ) في قوله : { يا حسرتي } استعارة مكنية بتشبيه الحسرة بالعاقل الذي ينادي ليقبل ، أي هذا وقتك فاحضري ، والنداء من روادف المشبه به المحذوف ، أي يا حسرتي احضري فأنا محتاج إليك ، أي إلى التحسر ، وشاع ذلك في كلامهم حتى صارت هذه الكلمة كالمثل لشدة التحسر .

والحسرة : الندامة الشديدة . والألفُ عوض عن ياء المتكلم .

وقرأ أبو جعفر وحْده { يا حسرتاي } بالجمع بين ياء المتكلم والألف التي جُعلت عوضاً عن الياء في قولهم : { يا حسرتي } . والأشهر عن أبي جعفر أن الياء التي بعد الألف مفتوحة . وتعدية الحسرة بحرف الاستعلاء كما هو غالبها للدلالة على تمكن التحسر من مدخول { على } .

وما في { ما فَرَّطتُ } صدرية ، أي على تفريطي في جنب الله .

والتفريط : التضييع والتقصير ، يقال : فَرَّطَه . والأكثر أن يقال : فرّط فيه . والجنب والجانب مترادفان ، وهو ناحية الشيء ومكانه ومنه { والصاحبِ بالجنْب } [ النساء : 36 ] أي الصاحب المجاور .

وحرف في هنا يجوز أن يكون لتعدية فعل { فَرَّطتُ } فلا يكون للفعل مفعول ويكون المفرط فيه هو جنب الله ، أي جهته ويكون الجنب مستعاراً للشأن والحقِّ ، أي شأن الله وصفاته ووصاياه تشبيهاً لها بمكان السيد وحِماه إذا أُهمل حتى اعتُدي عليه أو أَقْفَرَ ، كما قال سابق البربري :

أما تتقين الله في جنب وامق *** له كبد حرَّى عليكِ تَقَطَّعُ

أو تكون جملة { فَرَّطت في جَنب الله } تمثيلاً لحال النفس التي أُوقفت للحساب والعقاببِ بحال العبد الذي عهد إليه سيّده حراسةَ حماهُ ورعايةَ ماشيته فأهملها حتى رُعي الحِمى وهَلكت المواشي وأحضر للثقاف فيقول : يا حسرتا على ما فرطت في جنْب سيدي .

وعلى هذا الوجه يجوز إبقاء الجنب على حقيقته لأن التمثيل يعتمد تشبيه الهيئة بالهيئة . ويجوز أن تكون { ما } موصولة وفعل { فَرَّطتُ } متعدياً بنفسه على أحد الاستعمالين ، ويكون المفعول محذوفاً وهو الضمير المحذوف العائد إلى الموصول ، وحذفه في مثله كثير ، ويكون المجرور ب { في } حالاً من ذلك الضمير ، أي كائناً ما فرطتُه في جانب الله .

وجملةُ { وإن كنت لَمِن الساخرين } خبر مستعمل في إنشاء الندامة على ما فاتها من قبول ما جاءها به الرسول من الهُدى فكانت تسخر منه ، والجملة حال من فاعل فرطت ، أي فرطت في جنب الله تفريطَ الساخر لا تفريط الغافل ، وهذا إقرار بصورة التفريط . و { إنْ } مخففة من { إنّ } المشددة ، واللام في { لَمِنَ الساخرين } فارقة بين { إنْ } المخففة و ( إنْ ) النافية .

و { من الساخرين } أشد مبالغةً في الدلالة على اتصافهم بالسخرية من أن يقال : وإن كنتُ لَساخرة ، كما تقدم غير مرة منها عند قوله تعالى : { قال أعوذ باللَّه أن أكون من الجاهلين } في سورة [ البقرة : 67 ] .