ثم قال تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ }
هذا من باب الاستبعاد ، أي : من الأمر البعيد أن يهدي الله قوما اختاروا الكفر والضلال بعدما آمنوا وشهدوا أن الرسول حق بما جاءهم به من الآيات البينات والبراهين القاطعات { والله لا يهدي القوم الظالمين } فهؤلاء ظلموا وتركوا الحق بعدما عرفوه ، واتبعوا الباطل مع علمهم ببطلانه ظلما وبغيا واتباعا لأهوائهم ، فهؤلاء لا يوفقون للهداية ، لأن الذي يرجى أن يهتدي هو الذي لم يعرف الحق وهو حريص على التماسه ، فهذا بالحري أن ييسر الله له أسباب الهداية ويصونه من أسباب الغواية .
وبعد أن عظم - سبحانه - شأن الإسلام ، وبين أنه هو الدين المقبول عنده ، أتبع ذلك ببيان أن سنته جرت فى خلقه بأن يزيد الذين اهتدوا هدى ، أما الجاحدون للحق عن علم ، والمتبعون لأهوائهم وشهواتهم فهم بعيدون عن هداية الله ، ولن يقبلهم - سبحانه - إلا إذا تابوا عن ضلالهم ، وأصلحوا ما فسد منهم ، استمع إلى القرآن وهو يصور هذا المعنى بأسلوبه البليغ المؤثر فيقول : { كَيْفَ يَهْدِي . . . }
روى المفسرون روايات فى سبب نزول هذه الآيات الكريمة منها ما أخرجه النسائي عن ابن عباس قال . إن رجلا من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ثم ندم ؛ فأرسل إلى قومه : سلوا لى رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لى من توبة ؟ فجاء قومه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا . هل له من توبة ؟ فنزلت هذه الآيات ، فأرسل إليه قومه فأسلم .
وعن مجاهد قال : جاء الحارث بن سويد فأسلم مع النبى صلى الله عليه وسلم ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه فأنزل الله هذه الآيات . قال : فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه . فقال الحارث : إنك والله - ما علمت - لصدوق ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدق منك ، وإن الله - عز وجل - لأصدق الثلاثة ، قال : فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه وعن الحسن البصرى أنه قال : إنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، رأوا نعت النبى صلى الله عليه وسلم فى كتابهم وأقروا به ، وشهدوا أنه حق ، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسداً للعرب حين بعث من غيرهم .
هذه بعض الروايات التى وردت فى سبب نزول هذه الآيات ، ويبدو لنا أن أقربها إلى سياق الآيات هى الرواية التى جاءت عن الحسن البصرى بأن المقصود بالآيات أهل الكتاب ، وذلك لأن الحديث معهم من أول السورة ولأن القرآن قد ذكر فى غير موضع أن أهل الكتاب كانوا يعرفون صدق النبى صلى الله عليه وسلم كما يعرفون أبناءهم ، وأنهم كانوا يستفتحون به { عَلَى الذين كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } ومع هذا فليس هناك ما يمنع من أن يكون حكم هذه الآيات شاملا لكل من ذكرتهم الروايات ولكل من يشابههم ، إن العبرة لعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قال ابن جرير - بعد أن ساق هذه الروايات - ما ملخصه : وأشبه هذه الأقوال بظاهر التنزيل ما قاله الحسن : من أن هذه الآيات معنى بها أهل الكتاب على ما قال ، وجائز أن يكون الله - تعالى - أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا ارتدوا عن الإسلام ، فجمع قصتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم فى ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم فى هذه الآيات ، ثم عرف عباده سنته فيهم فيكون داخلا فى ذلك كل من كان مؤمنا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ثم كفى به بعد أن بعث ، وكل من كان كافرا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم ثم ارتد وهو حى عن إسلامه ، فيكون معينا بالآيات جميع هذين الصنفين وغيهرما ممن كان بمثل معناهما ، بل ذلك كذلك إن شاء الله .
والاستفهام فى قوله - تعالى - { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } للنفى ولاستبعاد هدايتهم إلى الصراط المستقيم وهم على هذا الحال من الارتكاس فى الكفر والضلال ، مع علمهم بالحق ، وإيمانهم به لفترة من الوقت .
والمعنى : أن الله - تعالى - جرت سنته فى خلقه ألا يهدى إلى الصراط المستقيم ، قوما { كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ } أى ارتدوا إلى الكفر بعد أن آمنوا ، وبعد أن { شهدوا أَنَّ الرسول } وهو محمد صلى الله عليه وسلم " حق " وأنه صادق فيما يبلغه عن ربه ، وبعد أن { جَآءَهُمُ البينات } أى البراهين والحجج الناطقة بحقيقة ما يدعيه ، من قرآن كريم عجز البشر عن الإتيان بسورة من مثله ، ومن معجزات باهرة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم .
فأنت ترى أن حالهم التى أوجبت هذا النفى والاستبعاد تتمثل فى أنهم كانوا مؤمنين ، وكانوا يشهدون بأن الرسول حق ، وجاءتهم البينات اليقينية الملزمة التى تؤيد إيمانهم وشهادتهم ، ومع كل ذلك استحبوا العمى على الهدى ، واختاروا الكفر على الإيمان ، واستولى عليهم التعصب بالباطل فأرداهم وحرمهم من هداية الله حتى يغيروا ما بأنفسهم ويتوبوا عن غيهم ، ويصلحوا ما أفسدوه ، ويخلصوا وينيبوا إلى خالقهم وبارئهم .
قال صاحب الكشاف : " قوله { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً } أى كيف يلطف بهم وليسوا من أهل اللطف ، لما علم الله من تصميمهم على كفرهم ، ودل على تصميمهم بأنهم كفروا بعد إيمانهم ، وبعد ما شهدوا بأن الرسول حق وبعد ما جاءته الشواهد من القرآن وسائر المعجزات التى تثبت بمثلها النبوة - وهم اليهود - كفروا بالنبى صلى الله عليه وسلم بعد أن كانوا مؤمنين به ، وذلك حين عاينوا ما يوجب قوة إيمانهم من البينات .
فإن قلت : علام عطف قوله { وشهدوا } ؟ قلت : فيه وجهان : أن يعطف على ما فى إيمانهم من معنى الفعل ، لأن معناه بعد أن آمنوا . ويجوز أن تكون الواو للحال بإضمار " قد " . بمعنى كفروا وقد شهدوا أن الرسول حق " .
وقوله - تعالى - { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } جملة حالية أو معترضة .
والمعنى : أنه - سبحانه - قد مضت سنته فى خلقه أنه لا يهدى إلى الحق أولئك الذين آثروا الكفر على الإيمان ، عن تعمد وإصرار ، ووضعوا الشىء فى غير موضعه مع علمهم بسوء صنيعهم .
وفى تذييل الآية الكريمة بهذه الجملة مع إطلاق لفظ الظلم ، إشعار بأنهم قد ظلموا أنفسهم بإيقاعها فى مهاوى الردى والعذاب وظلموا الرسول الذى شهدوا له بأن ما جاء به هو الحق ثم كفروا به ، وظلموا الحقائق والبراهين التى نطقت بأحقية الإيمان وببطلان الكفر ثم تركوا هذه الحقائق والبراهين وانقادوا لأهوائهم وشهواتهم ومطامعهم .
وإن الظلم متى سيطر على النفوس أفقدها رشدها وإدراكها للأمور إدراكا سليما ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول : " اتقوا الظلم فإنه ظلمات يوم القيامة " .
{ كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءهم البينات } استبعاد لأن يهديهم الله فإن الحائد عن الحق بعد ما وضح له منهمك في الضلال بعيد عن الرشاد . وقيل نفي وإنكار له وذلك يقتضي أن لا تقبل توبة المرتد ، { وشهدوا } عطف على ما في { إيمانهم } من معنى الفعل ونظيره فأصدق وأكن ، أو حال بإضمار قد من كفروا وهو على الوجهين دليل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان . { والله لا يهدي القوم الظالمين } الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ووضع الكفر موضع الإيمان فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه .
استئناف ابتدائي يناسب ما سبقه من التنويه بشرف الإسلام .
{ وكيف } استفهام إنكاري والمقصود إنكار أن تحصل لهم هداية خاصة وهي إما الهداية الناشئة عن عناية الله بالعبد ولطفه به ، وإسنادها إلى الله ظاهر ؛ وإما الهداية الناشئة عن إعمال الأدلة والاستنتاج منها ، وإسنادُها إلى الله لأنّه موجد الأسباب ومسبّباتها . ويجوز أن يكون الاستفهام مستعملاً في الاستبعاد ، فإنهم آمنوا وعلموا ما في كتب الله ، ثمّ كفروا بعد ذلك بأنبيائهم ، إذ عبدَ اليهود الأصنام غير مرة ، وعبد النصارى المسِيح ، وقد شهدوا أنّ محمداً صادق لقيام دلائل الصدق ، ثم كابروا ، وشككوا الناس . وجاءتهم الآيات فلم يتعظوا ، فلا مطمع في هديهم بعد هذه الأحوال ، وإنما تسري الهداية لمن أنصف وتهيّأ لإدراك الآيات دون القوم الذين ظلموا أنفسهم . وقيل نزلت في اليهود خاصّة . وقيل نزلت في جماعة من العرب أسلموا ثم كفروا ولحقوا بقريش ثم ندموا فراسلوا قومهم من المسلمين يسألونهم هل من توبة فنزلت ، ومِنهم الحارث بن سويد ، وأبو عامر الراهب ، وطُعيمة بن أُبَيْرِق .
وقوله : { وشهدوا } عطف على { إيمانهم } أي وشهادتهم ، لأنّ الاسم الشبيه بالفعل في الاشتقاق يحسن عطفه على الفعل وعطفُ الفعل عليه .