الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (86)

قوله تعالى : { كَيْفَ يَهْدِي } كقولِهِ : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ } [ البقرة : 28 ] وقيل الاستفهامُ هنا معناه النفي ، وأنشد :

كيفَ نومي على الفراشِ وَلمَّا *** تَشْمَلِ الشامَ غارةٌ شَعْواءُ

وقول الآخر :

فهذي سيوفٌ يا صُدَّيُّ بنُ مالكٍ *** كثيرٌ ولكن كيف بالسيفِ ضارِبُ

قوله : { وَشَهِدُواْ } في هذه الجملة ثلاثةُ أوجه :

أحدها : أنها معطوفةٌ على " كفروا " و " كفروا " في محلِّ نصبٍ نعتاً لقوماً ، أي : كيف يهدي مَنْ جَمَعَ بين هذين الأمرين ، وإلى هذا ذهب ابنُ عطية والحوفي وأبو البقاء ، إلا أنَّ مكيّاً قد رَدَّ هذا الوجهَ فقال : " لا يجوزُ عطفُ " شهدوا " على " كفروا " لفسادِ المعنى " ، ولم يُبَيِّن جهةَ الفسادِ فكأنه فَهِمَ الترتيبَ بين الكفر والشهادة ، فلذلك فَسَدَ المعنى ، وهذا غير لازمٍ ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً ، ولذلك قال ابن عطية : " المعنى مفهومٌ أنَّ الشهادةَ قبل الكفرِ والواوُ لا تُرَتِّب " .

الثاني : أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من واو " كفروا " ، والعاملُ فيها الرافعُ لصاحبِها ، و " قد " مضمرةٌ معها على رأي ، أي : كفروا وقد شهدوا ، وإليه ذهب جماعة كالزمخشري وأبي البقاء وغيرهما ، قال أبو البقاء : " ولا يجوز أن يكون العامل " يَهْدي " لأنه يهدي مَنْ شَهِدَ أن الرسول حق ، يعني أنه لا يجوزُ أَنْ يكونَ حالاً من " قوماً " ، والعاملُ في الحال " يَهْدِي " لِما ذَكَر من فساد المعنى .

الثالث : أن يكونَ معطوفاً على " إيمانهم " لما تضمَّنه من الانحلال لجملةٍ فعلية ، إذ التقدير : بعد أن آمنوا وشهدوا ، وإلى هذا ذهب جماعة ، قال الزمخشري : " أن يُعْطف على ما في " إيمانهم " من معنى الفعل ، لأن معناه : بعد أن آمنوا ، كقولِهِ تعالَى : { فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن } [ المنافقون : 10 ] وقوله :

مشائيمُ ليسوا مُصْلِحين عشيرةً *** ولا ناعبٍ إلا بِبَيْنٍ غرابُها

انتهى . وجهُ تنظيره ذلك بالآية والبيت تَوَهُّمُ وجودِ ما يُسَوِّغُ العطفَ عليه في الجملة ، كذا يقول النحاة : جُزِم على التوهم أي : لسقوط الفاء ، إذ لو سقطت لانجزم في جوابِ التحضيض ، وكذا يقولون : تَوَهَّم وجودَ الباءِ فجَرَّ ، وفي العبارة بالنسبة إلى القرآن سوءُ أدبٍ ، ولكنهم لم يقصِدوا ذلك حاش لله ، وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أَوْلى كقوله : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُواْ } [ الحديد : 18 ] ، إذ هو في قوة : إن الذين صدقوا وأقرضوا ، وفي هذه الآيةِ بحثٌ سيمر بك إن شاء الله تعالى .

وقال الواحدي : " عُطِف الفعلُ على المصدر ؛ لأنه أراد بالمصدر الفعلَ تقديرُه : كفروا بالله بعد أَنْ آمنوا ، فهوعطفٌ على المعنى كما قال :

لَلُبْسُ عباءةٍ وتَقَرَّ عيني *** أَحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشفوفِ

معناه : لأِنْ ألبس وتقرَّ عيني " فظاهرُ عبارة الزمخشري والواحدي أن الأولَ يُؤَوَّل لأجل الثاني ، وهذا ليس بظاهر ، لأنَّا إنما نحتاج إلى ذلك لكونِ الموضع يطلبُه فعلاً كقوله : { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ } لأنَّ الموصول يَطْلُبُ جملةً فعلية فاحتْجنا أَنْ نتأوَّل اسمَ الفاعل بفعلٍ ، وعَطَفْنا عليه " وأقرضوا " ، وإما " بعد إيمانهم " وقوله " للبس عباءة " فليس مكانُ الاسمِ محتاجاً إلى فعل ، فالذي ينبغي : أن نتأول الثاني باسمٍ ليصِحَّ عطفُه على الاسم الصريح قبله ، وتأويلُه بأن نأتي معه ب " أن " المصدرية مقدرةً ، وتقديرُه : بعد إيمانهم وأَنْ شَهِدوا ، أي : وشهادتهم ، ولهذا تأوَّل النحويون قولَها :

" لَلُبْسُ عباءةٍ وتقرَّ " : وأَنْ تقرَّ ، إذ التقدير : وقرةُ عيني ، وإلى هذا الذي ذكرته ذهب أبو البقاء فقال " التقدير : بعد أَنْ آمنوا وأن شهدوا ، فيكونُ في موضعِ جَرٍّ " .

انتهى ، يعني أنه على تأويلِ مصدرٍ معطوفٍ على المصدرِ الصريح المجرور بالظرف ، وكلام الجرجاني فيه ما يَشْهد لهذا ويَشْهَدُ لتقدير الزمخشري فإنه قال : قوله " وشَهِدوا " منسوقٌ على ما يُمكنُ في التقدير ، وذلك أنَّ قولَه " بعد إيمانهم " يمكن أن يكونَ بعد " أن آمنوا " وأَنْ الخفيفة مع الفعلِ بمنزلةِ المصدرِ كقولهِ : { وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ }[ البقرة : 184 ] أي : والصوم ، ومثلُه مِمَّا حُمِل فيه على المعنى قولُه تعالى : { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ } [ الشورى : 51 ] فهو عطفٌ على قوله : { إِلاَّ وَحْياً } ، ويمكن فيه : إلا أن يُوحى إليه ، فلما كان قوله { إِلاَّ وَحْياً } بمعنى : إلا أنْ يُوحَى إليه حَمَله على ذلك ، ومثله من الشعر قوله :

فَظَلَّ طُهاةُ اللحم من بين مُنْضِجٍ *** صَفيفَ شِواءٍ أو قديرٍ مُعَجَّلٍ

خَفَضَ قولَه " قدير " لأنه عَطْفٌ على ما يمكن في قوله " منضجٍ " لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف فَحَمَله على ذلك قلت : فإتْيانُه بهذا البيت نظيرُ إتيان الزمخشري بالآية الكريمة والبيت المتقدمين ، لأنه جَرَّ " قدير " هنا على التوهم ، كأنه تَوَهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله تخفيفاً فَجَرَّ على التوهم ، كما تَوَهَّم الآخرُ وجودَ الباءِ في قوله : " ليسوا مصلحين " ، لأنها كثيراً ما تزاد في خبر ليس . وقوله : { أَنَّ الرَّسُولَ } الجمهورُ على أنه وصف بمعنى المُرْسَل ، وقيل : هو بمعنى الرسالة فيكون مصدراً وقد تقدَّم ذلك .