روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي - الآلوسي  
{كَيۡفَ يَهۡدِي ٱللَّهُ قَوۡمٗا كَفَرُواْ بَعۡدَ إِيمَٰنِهِمۡ وَشَهِدُوٓاْ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقّٞ وَجَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا يَهۡدِي ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ} (86)

{ كَيْفَ يَهْدِى الله } إلى الدين الحق { قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إيمانهم } أخرج عبد بن حميد وغيره عن الحسن أنهم أهل الكتاب من اليهود والنصارى رأوا نعت محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقروا وشهدوا أنه حق فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب على ذلك فأنكروه وكفروا بعد إقرارهم حسداً للعرب ، حين بعث من غيرهم . وأخرج ابن أبي حاتم من طريق العوفي عن ابن عباس مثله ، وقال عكرمة : هم أبو عامر الراهب والحرث بن سويد في اثني عشر رجلاً رجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش ثم كتبوا إلى أهلهم هل لنا من توبة ؟ فنزلت الآية فيهم ، وأكثر الروايات على هذا والمراد من الآية استبعاد أن يهديهم أي يدلهم دلالة موصولة لا مطلق الدلالة قاله بعضهم ، وقيل : إن المعنى كيف يسلك بهم سبيل المهديين بالإثابة لهم والثناء عليهم وقد فعلوا ما فعلوا ، وقيل : إن الآية على طريق التبعيد كما يقال : كيف أهديك إلى الطريق وقد تركته أي لا طريق يهديهم به إلى الإيمان إلا من الوجه الذي هداهم به وقد تركوه ولا طريق غيره ، وقيل : إن المراد كيف يهديهم إلى الجنة ويثيبهم والحال ما ترى ؟ا

{ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرسول } وهو محمد صلى الله عليه وسلم { حَقّ } لا شك في رسالته { وَجَاءهُمُ البينات } أي البراهين والحجج الناطقة بحقية ما يدعيه ، وقيل : القرآن ، وقيل : ما في كتبهم من البشارة به عليه الصلاة والسلام ، { وَشَهِدُواْ } عطف على ما في إيمانهم من معنى الفعل لأنه بمعنى آمنوا ، والظاهر أنه عطف على المعنى كما في قوله تعالى : { إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله } [ الحديد : 18 ] لا على التوهم كما توهم ؛ واختار بعضهم تأويل المعطوف ؛ ليصح عطفه على الاسم الصريح قبله بأن يقدر معه أن المصدرية أي : وإن شهدوا أي وشهادتهم على حد قوله :

ولبس عباءة وتقرّ عيني *** أحب إليّ من لبس الشفوف

وإلى هذا ذهب الراغب وأبو البقاء ، وجوز عطفه على { كَفَرُواْ } وفساد المعنى يدفعه أن العطف لا يقتضي الترتيب فليكن المنكر الشهادة المقارنة بالكفر أو المتقدمة عليه ، واعترض بأن الظاهر تقييد المعطوف بما قيد به المعطوف عليه وشهادتهم هذه لم تكن بعد إيمانهم بل معه أو قبله ؛ وأجيب بالمنع لأنه لا يلزم تقييد/ المعطوف بما قيد به المعطوف عليه ولو قصد ذلك لأخر ، وقيل : يمنع من ذلك العطف أنهم ليسوا جامعين بين الشهادة والكفر ، وأجيب بالمنع ، بل هم جامعون وإن لم يكن ذلك معاً ، ومن الناس من جعله معطوفاً على { كَفَرُواْ } ولم يتكلم شيئاً مما ذكر ، وزعم أن ذلك في المنافقين وهو خلاف المنقول والمعقول ، والأكثرون من المحققين على اختيار الحالية من الضمير في { كَفَرُواْ } وقد معه مقدرة ، ولا يجوز أن يكون العامل يهدي لأنه يهدي من شهد أن الرسول حق وعليه ، وعلى تقدير العطف على الإيمان استدل على أن الإقرار باللسان خارج عن حقيقة الإيمان ، ووجه ذلك أن العطف يقتضي بظاهره «المغايرة » بين المعطوف والمعطوف عليه وأن الحالية تقتضي التقييد ولو كان الإقرار داخلاً في حقيقة الإيمان لخلا ذكره عن الفائدة ، ولو كان عينه يلزم تقييد الشيء بنفسه ولا يخفى ما فيه ، وادعى بعضهم أن المراد من الإيمان الإيمان بالله ، ومن الشهادة المذكورة الإيمان برسول صلى الله عليه وسلم ، والأمر حينئذ واضح فتدبر { والله لاَ يَهْدِى القوم * الظالمين } أي الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر ، ووضع الكفر موضع الإيمان ، فكيف من جاءه الحق وعرفه ثم أعرض عنه ؛ ويجوز حمل الظلم مطلقه فيدخل فيه الكفر دخولاً أولياً ، والجملة اعتراضية أو حالية .

ومن باب الإشارة :{ كَيْفَ يَهْدِى الله قَوْمًا } [ آل عمران : 86 ] الآية استبعاد لهداية من فطره الله على غير استعداد المعرفة ، وحكم عليه بالكفر في سابق الأزل فإن من لم يكن له استعداد لم يقع في أنوار التجلي ، ومن خاض في بحر القهر ولزم قعر بعد البعد لم يكن له سبيل إلى ساحل قرب القرب والله غالب على أمره ولله در من قال :

إذ المرء لم يخلق سعيداً تحيرت *** ظنون مربيه وخاب المؤمل

فموسى الذي رباه جبريل كافر *** وموسى الذي رباه فرعون مرسل

هذا والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل .