قوله تعالى : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } . أي لطلب رضاء الله تعالى .
قوله تعالى : { والله رؤوف بالعباد } . روي عن ابن عباس والضحاك : أن هذه الآية نزلت في سرية الرجيع ، وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة ، إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك ، وكان ذلك مكراً منهم ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدي الأنصاري ، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي ، وخالد بن بكير ، وعبد الله بن طارق بن شهاب البلوي ، وزيد بن الدثنة ، وأمر عليهم عاصم ابن ثابت بن أبي الأفلح الأنصاري .
قال أبو هريرة : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري ، فساروا فنزلوا ببطن مكة والمدينة ومعهم تمر عجوة فأكلوا فمرت عجوز فأبصرت النوى فرجعت إلى قومها بمكة وقالت : قد سلك هذا الطريق أهل يثرب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فركب سبعون رجلاً ، منهم معهم الرماح حتى أحاطوا بهم ، قال أبو هريرة رضي الله عنه : ذكروا لحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان ، فتبعوهم بقريب من مائة رجل رام فاقتفوا آثارهم حتى وجدوا مأكلهم التمر في منزل نزلوه فقالوا : تمر يثرب ، فاتبعوا آثارهم ، فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد ، فأحاط بهم القوم فقتلوا مرثدا ، ً وخالداً وعبد الله بن طارق ، ونثر عاصم بن ثابت كنانته وفيها سبعة أسهم ، فقتل بكل سهم رجلاً من عظماء المشركين ثم قال : اللهم إني حميت دينك صدر النهار فاحك لحمي آخر النهار ، ثم أحاط به المشركون فقتلوه ، فلما قتلوه أرادوا حز رأسه ليبيعوه من سلافة بنت سعد بن شهيد ، وكانت قد نذرت حين أصاب ابنها يوم أحد ، لئن قدرت على رأس عاصم لتشرين في قحفه الخمر ، فأرسل الله رجلاً من الدبر ، وهي الزنابير ، فحمت عاصماً فلم يقدروا عليه فسمي حمي الدبر ، فقالوا دعوه حتى تمسي فتذهب عنه فنأخذه فجاءت سحابة سوداء وأمطرت مطراً كالعزالي ، فيعث الله الوادي غديراً فاحتمل عاصماً به فذهب به إلى الجنة ، وحمل خمسين من المشركين إلى النار .
وكان عاصم قد أعطى الله تعالى عهداً أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً . وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول حين بلغه أن الدبر منعته يقول : عجباً لحفظ الله المؤمن . أن عاصم نذر أن لا يمسه مشرك ولا يمس مشركاً أبداً فمنعه الله بعد وفاته ، كما امتنع عاصم في حياته . وأسر المشركون خبيب بن عدي الأنصاري ، وزيد بن الدثنة ، فذهبوا بهما إلى مكة ، فأما خبيب فابتاعه بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف لقتلوه بأبيهم ، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيراً حتى أجمعوا على قتله . فاستعار من بنات الحارث موسى ليستحد بها فأعارته ، فدرج بني لها وهي غافلة فما راع المرأة إلا خبيب قد أجلس الصبي على فخذه ، والموسى بيده ، فصاحت المرأة فقال خبيب : أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل ذلك ، إن الغدر ليس من شأننا ، فقالت المرأة بعد : والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب ، والله لقد وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثق بالحديد ، وما بمكة من ثمرة ، إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً ، ثم إنهم خرجوا من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه ، فقال لهم خبيب : دعوني أصلي ركعتين ؟ فتركوه فكان خبيب هو أول من سن لكل مسلم قتل صبراً الصلاة ، فركع ركعتين ، ثم قال : لولا أن يحسبوا أن ما بي جزع لزدت ، اللهم أحصهم عدداً ، واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول :
فلست أبالي حين أقتل مسلماً *** على أي شق كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع
فصلبوه حياً ، فقال اللهم : إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي ، ثم قام أبو سروعة عقبة بن الحرث فقتله . ويقال : كان رجل من المشركين يقال له ، سلامان أبو ميسرة ، معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب ، فقال له خبيب : اتق الله فما زاده ذلك إلا عتواً فطعنه ، فأنفذه وذلك قوله عز وجل ( وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ) يعني سلامان .
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف ، فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله بأبيه ، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب ، فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل : أنشدك الله يا زيد ، أتحب أن محمداً عندنا الآن بمكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ فقال : والله ما أحب أن محمداً صلى الله عليه وسلم الآن في مكانه الذي هو فيه يصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي . فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً يحب أصحاب محمد محمداً ، ثم قتله نسطاس . فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه " أيكم ينزل خبيباً عن خشبته وله الجنة ؟ فقال الزبير : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود ، فخرجا يمشيان بالليل ويكمنان بالنهار حتى أتيا التنعيم ليلاً ، وإذا حول الخشبة أربعون رجلاً من المشركين نائمون نشاوى ، فأنزلاه فإذا هو رطب ينثي لم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً ، ويده على جراحته وهي تبض دماً ، اللون لون دم والريح ريح المسك ، فحمله الزبير على فرسه وساروا ، فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيباً ، فأخبروا قريشاً ، فركب منهم سبعون ، فلما لحقوهم قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض ، فسمي بليع الأرض . فقال الزبير : ما جرأكم علينا يا معشر قريش ؟ ثم رفع العمامة عن رأسه وقال : أنا الزبير بن العوام ، وأمي صفية بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، أسدان رابضان يدفعان عن شبليهما فإن شئتم ناضلتكم ، وإن شئتم نازلتكم ، وإن شئتم انصرفتم ، فانصروا إلى مكة ، وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده فقال يا محمد : إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك ، فنزل في الزبير والمقداد بن الأسود ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) حين شريا أنفسهما لإنزال خبيب عن خشبته .
وقال أكثر المفسرين : نزلت في صهيب بن سنان الرومي حين أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم ، فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير ، لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم ، فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟ ففعلوا ، وكان شرط عليهم راحلة ونفقة ، فأقام بمكة ما شاء الله ثم خرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال ، فقال له أبو بكر : ربح بيعك يا أبا يحيى ، فقال له صهيب : وبيعك فلا تتحسر ، قال صهيب : ما لي ؟ فقال : قد أنزل الله فيك ، وقرأ هذه الآية . وقال سعيد بن المسيب وعطاء : أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من مشركي قريش ، فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته ، ثم قال : يا معشر قريش ، لقد علمتم أني لمن أرماكم رجلاً ، والله لا أضع سهماً مما في كنانتي إلا في قلب رجل منكم ، وايم الله ! لا تصلون إلي حتى أرمي بكل سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي بمكة وخليتم سبيلي ، قالوا : نعم . ففعل ذلك ، فأنزل الله هذه الآية .
وقال الحسن : أتدرون فيمن نزلت هذه الآية ؟ نزلت في المسلم ، يلقى الكافر فيقول له قل : لا إله إلا الله ، فيأبى أن يقولها ، فقال المسلم : والله لأشرين نفسي لله . فتقدم فقاتل وحده حتى قتل . وقيل نزلت الآية في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر .
قال ابن عباس : أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، يقوم فيأمر هذا بتقوى الله ، فإذا لم يقبل ، وأخذته العزة بالإثم ، قال : وأنا أشري نفسي لله فقاتله فاقتتل الرجلان لذلك . . وكان علي إذا قرأ هذه الآية يقول : اقتتلا ورب الكعبة ، وقال أبو الخليل : سمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه الآية ( ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ) فقال عمر ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل . أخبرنا عبد الواحد المليحي ، أخبرنا عبد الرحمن بن شريح ، أخبرنا أبو القاسم البغوي ، أخبرنا علي بن الجعد أخبرني حماد بن سلمه عن أبي غالب عن أبي أمامه أن رجلاً قال : يا رسول الله أي الجهاد أفضل ؟ قال : أفضل الجهاد من قال كلمة حق عند سلطان جائر .
{ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه ، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفي الرءوف بالعباد ، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك ، وقد وعد الوفاء بذلك ، فقال : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ } إلى آخر الآية . وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها ، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا ، وبذل ما به رغبوا ، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم ، وما ينالهم من الفوز والتكريم{[134]} .
أما النوع الثاني من الناس وهم الأخيار الصادقون فقد عبر عنهم القرآن بقوله- تعالى - : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بالعباد }
{ مَن يَشْرِي } أي : يبيعها ببذلها في طاعة الله وإعلاء كلمته ، وتحقيقه أن المكلف قد بذل نفسه بمعنى أنه أطاع الله - تعالى - وحافظ على فرائضه ، وجاهد في سبيله ، من أجل أن ينال ثواب الله ومرضاته ، فكان ما بذله من طاعات بمثابة السلعة ، وكان هو بمنزلة البائع ، وكان قبول الله - تعالى - منه ذلك وإثابتهخ عليه في معنى الشراء .
وقوله : { ابتغآء مَرْضَاتِ الله } الابتغاء الطلب الشديد للشيء ، والرغبة القوية في الحصول عليه ، وهو في الآية مفعول لأجله .
أي : ومن الناس نوع آخر قد باع نفسه وبذلها في طاعة الله طلباً لرضوانه ، وأملا في مثوبته وغفرانه .
فهذالنوع التقي المخلص من الناس ، يقابل النوع المنافق المفسد الذي سبق الحديث عنه .
قال بعضهم : وكان مقتضى هذه المقابلة أن يوصف هذا الفريق الثاني بالعمل الصالح مع عدم التعويض والتبجح بالقول ، أو مع مطابقة قوله لعمله وموافقة لسانه لما في قلبه . والآية قد تضمنت هذا الوصف وإن لم تنطق به ، فإن من يبيع نفسه لله لا يبغى ثمناً لها سوى مرضاته لا يتحرى إلا العمل الصالح وقول الحق مع الإِخلاص في القلب فلا يتكلم بلسانين ولا يقابل الناس بوجهين . ويكون هو المؤمن الذي يعتد القرآن بإيمانه " .
وقال أحد العلماء : ومرضاة مصدر ميمي بمعنى الرضا . ولا شك أن التعبير بالمصدر الميمي دون المصدر الأصلي له معنى يدركه السامع بذوقه ، ولم نجد النحويين ولا البلاغيين تعرضوا لبيان التفرقة بين المصدر الميمي وغيره والذي يتبدى لنا ونظنه تفرقة بينهما ، أن المصدر الميمي يصور المعنى المصدري واقعاً قائماً متحققاً في الوجود ، أما المصدر غير الميمي فيصور المعنى مجرداً فإذا كانت كلمة مقال بمعنى القول ، فإن التعبير بالقول يصور معنى مجرداً من غير نظر إلى كونه تحقق وجوده أولا . أما كلمة مقال فتصور معنى وجد وتحقق ، أو في صورة الموجود المتحقق ، وعلى ذلك { ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله } أنهم يبيعون أنفسهم طالبين طلباً موثقاً رضا الله - سبحانه - حقيقة واقعة مؤكدة ، ويتصورون رضاه - سبحانه - حقيقة قائمة قد حلت بهم ، فيشتد طلبهم وافتداؤهم للحق بأموالهم وأنفسهم " .
ثم ختم - سبحانه - الآية بقوله - : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } أي ، رفيق رحيم بهم ، ومن مظاهر ذلك أنه لم يبكلفهم بما هو فوق طاقتهم ، وإنما كلفهم بما تطيقه نفوسهم ، وأنه أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة في الدنيا مع تقصيرهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه ، وأنه كافأهم بالنعيم المقيم على العمل القليل ، وأنه جعل العاقبة للمتقين لا للمفسدين ، إلى غير ذلك من مظاهر رأفته التي لا تحصى .
هذا ، وقد أورد المفسرون روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية منها أنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، وذلك لأنه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة منعه المشركون أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر أذنوا له ، فنخلص منهم وأعطاهم ماله فأنزل الله فيه هذه الآية . فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة فقالوا له : ربح البيع يا صهيب ، فقال لهم وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم وما ذاك ؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية . ويروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال له عندما رآه : " ربح البيع ، ربح البيع " مرتين .
وهناك روايات أنها نزلت في وفي عمار بن ياسر وفي خباب بن الأرت وفي غيرهم من المؤمنين المجاهدين .
والذي نراه - كما سبق أن بينا - أن الآية الكريمة تتناول كل من أطاع الله - تعالى - وبذل نفسه في سبيل إعلاء كلمته ، ويدخل في ذلك دخولا أولياً من نزلت فيهم الآية ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما يرى جمهور العلماء .
وبذلك نرى أن الآيات قد بينت لنا نوعين من الناس : أحدهما خاسر ، والآخر رابح ، لكي نتبع طريق الرابحين ، ونهجر طريق الخاسرين ( وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ وَإِلَى الله المصير ) .
وقوله : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ } لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ، ذَكَر صفات المؤمنين الحميدة ، فقال : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ }
قال ابن عباس ، وأنس ، وسعيد بن المسيب ، وأبو عثمان النّهدي ، وعكرمة ، وجماعة : نزلت في صُهيب بن سنَان الرومي ، وذلك أنَّه لما أسلم بمكة وأراد الهجرة ، منعه الناس أن يهاجر بماله ، وإنْ أحب أن يتجرّد منه ويهاجر ، فَعَل . فتخلص منهم وأعطاهم ماله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرّة . فقالوا{[3715]} : رَبح البيع . فقال : وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم ، وما ذاك ؟ فأخبروه أنّ الله أنزل فيه هذه الآية . ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : " ربِح البيع صهيب ، ربح البيع صهيب " .
قال ابن مَرْدُويه : حدثنا محمد بن إبراهيم ، حدثنا محمد بن عبد الله بن رُسْتَة ، حدثنا سليمان ابن داود ، حدثنا جعفر بن سليمان الضَبَعي ، حدثنا عوف ، عن أبي عثمان النهدي ، عن صهيب قال : لما أردتُ الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش : يا صهيبُ ، قَدمتَ إلينا ولا مَالَ لك ، وتخرج أنت ومالك ! والله لا يكون ذلك أبدًا . فقلت لهم : أرأيتم إن دَفَعْتُ إليكم مالي تُخَلُّون عني ؟ قالوا : نعم . فدفعتُ إليهم مالي ، فخلَّوا عني ، فخرجت حتى قدمتُ المدينة . فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : " رَبح صهيبُ ، ربح صهيب " مرتين{[3716]} .
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب قال : أقبل صهيب مهاجرًا نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نَفَر من قريش ، فنزل عَنْ راحلته ، وانتثل ما في كنانته . ثم قال{[3717]} يا معشر قريش ، قد علمتم أنّي من أرماكم رجلا وأنتم والله لا تصلون إلي حتى أرمي كُلّ سهم في كنانتي ، ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي منه شَيْء ، ثم افعلوا ما شئتم ، وإن شئتم دللتكم على مالي وقُنْيتي بمكة وخلَّيتم سبيلي ؟ قالوا : نعم . فلما قَدم على النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ربح البيع ، ربح البيع " . قال : ونزلت : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ }
وأما الأكثرون فحمَلوا ذلك على أنها نزلت في كل مُجَاهد في سبيل الله ، كما قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : 111 ] . ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين ، أنكر عليه بعضُ الناس ، فردّ عليهم عُمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما ، وتلوا هذه الآية : { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ } .
{ ومن الناس من يشري نفسه } يبيعها أي يبذلها في الجهاد ، أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل { ابتغاء مرضاة الله } طلبا لرضاه . قيل إنها نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، أخذه المشركون وعذبوه ليرتد فقال : إني شيخ كبير لا ينفعكم إن كنت معكم ولا يضركم إن كنت عليكم فخلوني وما أنا عليه وخذوا مالي فقبلوه منه وأتى المدينة . { والله رؤوف بالعباد } حيث أرشدهم إلى مثل هذا الشراء وكلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الغزاة والشهداء .