البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي - أبو حيان  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

{ ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله } قيل المراد : بمن ، غير معنى ، بل هي في كل من باع نفسه لله تعالى في جهاد ، أو صبر على دين ، أو كلمة حق عند جائر ، أو حمية لله ، أو ذب عن شرعه ، أو ما أشبه هذا .

وقيل : هي في معين ، فقيل في : الزبير والمقداد بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليحطا خبيباً من خشبته ، وقيل : في صهيب الرومي خرج مهاجراً فلحقته قريش ، فنشل كنانته ، وكان جيد الرمي شديد البأس محذوره ، وقالوا : لا نترك حتى تدلنا على مالك ، فدلهم على موضه ، فرجعوا عنه ، وقيل : عذب ليترك دينه فافتدي من ماله وخرج مهاجراً ، وقيل : في علي حين خلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة لقضاء ديونه ورد الودائع ، وأمره بمبيته على فراشه ليلة خرج مهاجراً صلى الله عليه وسلم .

وقال الحسن : نزلت في المسلم يلقى الكافر فيقول : قل : لا إله إلا الله ، فلا يقول ، فيقول : والله لأشرين ، فيقاتل حتى يقتل .

وقال ابن عباس : في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقيل : في صهيب ، وأبي ذر ، وكان أبو ذر قد أخذه أهله فانقلب ، فخرج مهاجراً .

وقيل : في المهاجرين والأنصار ، وذكر المفسرون غير هذا ، وقصصاً طويلاً في أخبار هؤلاء المعينين الذين قيل نزلت فيهم الآية .

والذي ينبغي أن يقال : إنه تعالى لما ذكر { ومن الناس من يعجبك قوله } وكان عاماً في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر ، ناسب أن يذكر قسيمه عاماً من : يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان ، فكذلك المنافق مدارٍ عن نفسه بالكذب والرياء ، وحلاوة المنطق ، وهذا باذلٌ نفسه لله ولمرضاته .

وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين ، ويكون ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على نحو من ضرب المثال ، ولا يبعد أن يكون السبب خاصاً ، والمراد عموم اللفظ ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني ، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه ، فقال : { ومن الناس من يشري } بخلاف قوله : { ومنهم من يقول ربنا آتنا في الدنيا حسنة } فانه لما قرب ذكر أحد القسمين من القسم ، أضمر في الثاني المقسم .

ومعنى يشري : يبيع ، وهو سائغ في اللسان ، قال تعالى : { وشروه بثمن بخس دراهم } قال الشاعر :

وشريت بُرداً ليتني***

من بعد بُردٍ كنت هامة

ويشري : عبارة عن أن يبذل نفسه في الله ، ومنه تسمى الشراة ، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله ، وقال قوم : شرى ، بمعنى : اشترى ، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها .

وانتصاب : ابتغاء ، على أنه مفعول من أجله ، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم ، إنما هو طلب رضى الله تعالى ، وهو مستوفٍ لشروط المفعول من أجله من كونه مصدراً متحد الفاعل والوقت ، وهذه الإضافة ، أعنى : إضافة المفعول من أجله ، هي محضة ، خلافاً للجرمي ، والرياشي ، والمبرّد ، وبعض المتأخرين ، فانهم يزعمون أنها إضافة غير محضة ، وهذا مذكور في كتب النحو .

ومرضاة : مصدر بني على التاء : كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ، كما تقول : مرمى ومغزى ، وأمال الكسائي : مرضات ، وعن ورش خلاف في إمالة : مرضات ، وقرأنا له بالوجهين ، ووقف حمزة عليها بالتاء ، ووقف الباقون بالهاء .

فأمّا وقف حمزة بالتاء فيحتمل وجهين .

أحدهما : أن يكون على مذهب من يقف من العرب على : طلحة ، وحمزة ، بالتاء ، كالوصل ، وهو كان القياس دون الإبدال .

قال :

دار لسلمى بعد حول قد عفت***

بل جوز تيهاء كظهر الحجفت

وقد حكى هذه اللغة سيبويه .

والوجه الآخر : أن تكون على نية الإضافة ، كأنه نوى تقدير المضاف إليه ، فأراد أن يعلم أن الكلمة مضافة ، وأن المضاف إليه مراد : كإشمام من أشم الحرف المضموم في الوقف ليعلم أن الضمة مرادة ، وفي قوله : { ابتغاء مرضات الله } إشارة إلى حصول أفضل ما عند الله للشهداء ، وهو رضاه تعالى .

وفي الحديث الصحيح ، في مجاورة أهل الجنة ربهم تعالى ، حين يسألهم : هل رضيتم ؟ فيقولون : يا ربنا كيف لا نرضى وقد أدخلتنا جنتك وباعدتنا من نارك ؟ فيقول : ولكم عندي أفضل من ذلك ، فيقولون : يا ربنا ، وما أفضل من ذلك ؟ فيقول : أحل عليكم رضائي فلا أسخط عليكم بعده .

{ والله رؤوف بالعباد } حيث كلفهم بالجهاد فعرضهم لثواب الشهداء ، قاله الزمخشري ؛ وقال ابن عطية : ترجئة تقتضي الحض على إمتثال ما وقع به المدح في الآية ، كما في قوله : { فحسبه جهنم } تخويف يقتضي التحذير مما وقع به الذمّ ، وتقدّم أن الرأفة أبلغ من الرحمة .

والعباد إن كان عاماً ، فرأفته بالكافرين إمهالهم إلى انقضاء آجالهم ، وتيسير أرزاقهم لهم ، ورأفته بالمؤمنين تهيئته إياهم لطاعته ، ورفع درجاتهم في الجنة .

وإن كان خاصاً ، وهو الأظهر ، لأنه لما ختم الآية بالوعيد من قوله : { فحسبه جهنم } وكان ذلك خاصاً بأولئك الكفار ، ختم هذه بالوعد المبشر لهم بحسن الثواب ، وجزيل المآب ، ودل على ذلك بالرأفة التي هي سبب لذلك ، فصار ذلك كناية عن إحسان الله إليهم ، لأن رأفته بهم تستدعي جميع أنواع الإحسان ، ولو ذكر أي نوع من الإحسان لم يفد ما أفاده لفظ الرأفة ، ولذلك كانت الكناية أبلغ ، ويكون إذ ذاك في لفظ : العباد ، التفاتاً ، إذ هو خروج من ضمير غائب مفرد إلى اسم ظاهر ، فلو جرى على نظم الكلام السابق لكان : والله رؤوف به أو بهم ، وحسن الالتفات هنا بهذا الاسم الظاهر شيئان .

أحدهما : أن لفظ : العباد ، له في استعمال القرآن تشريف واختصاص ، كقوله : { إن عبادي ليس لك عليهم سلطان } { سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً } { ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفينا من عبادنا } { بل عباد مكرمون }

والثاني : مجيء اللفظة فاصلة ، لأن قبله : { والله لا يحب الفساد ، فحسبه جهنم ولبئس المهاد } فناسب : { والله رؤوف بالعباد } .

207

/خ212