لباب التأويل في معاني التنزيل للخازن - الخازن  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

قوله عز وجل : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في سرية الرجيع وكانت بعد أحد ( خ ) عن أبي هريرة قال بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا الحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتفوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا هذا تمر يثرب ، فتبعوا أثرهم حتى لحقوهم .

فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد ، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا : لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً ، فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر اللهم أخبر عنا رسولك فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق . فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهم : هذا أول الغدر ، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة ، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل ، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيراً حتى إذا اجتمعوا على قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدَّ بها فأعارتها ، فقالت : فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى ، فقال : أتخشين مني أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك إن شاء الله تعالى وكانت تقول : ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذٍ تمرة ، وإنه لموثق في الحديد . وما كان إلاّ رزقاً رزقه الله خبيباً ، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه قال : دعوني أصلي ركعتين ، فصلى ركعتين ثم انصرف فقال : لولا ترون أن ما بي جزع من الموت لزدت ، فكان أول من سن ركعتين عند القتل ، وقال : اللهم أحصهم عدداً وقال :

فلست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع

ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله ، وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء من جسده بعد موته وكان قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر ، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم ، فلم يقدروا منه على شيء زاد في رواية وأخبر يعني النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أصيبوا خبرهم . الفدفد : الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع . وقوله عالجوه : أي مارسوه ، وأراد به أنهم يخدعونه ليتبعهم فأبى . وقوله ليستحد الاستحداد حلق العانة . والقطف العنقود من العنب : قوله على أوصال شلو . الشلو العضو من أعضاء الإنسان . والممزع : المفرق . والظلة : الشيء الذي يظل من فوق الإنسان . والدبر : جماعة النحل والزنابير . وقال أهل التفسير : إن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلمونا دينك ، وكان ذلك مكراً منهم فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكر وعبد الله بن طارق بن شهاب البلوي وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي أفلح الأنصاري ، وذكر نحو حديث البخاري ، زاد عليه : فقالوا : نصلب خبيباً حياً ، فقال : اللهم إنك تعلم أنه ليس لي أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي ، فقام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله ويقال كان رجل من المشركين يقال له أبو ميسرة سلامان معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيب : اتق الله ، فما زاده ذلك إلاّ عتواً فطعنه فأنفذه فذلك قوله تعالى : { وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم } يعني سلامان . وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله في الحل ، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل أنشدك الله يا زيد أتحب محمداً عندنا الآن مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك قال زيد والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان : ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ثم قتله نسطاس ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال لأصحابه أيكم ينزل خبيباً عن خشبته وله الجنة فقال الزبير : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود ، فخرجنا يمشيان الليل ويكمنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلاً ، فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نشاوى وهم نيام ، فأنزلاه عن خشبته ، فإذا هو رطب ينثني ولم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً ويده على جراحته وهي تبض دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك ، فحمله الزبير على فرسه وسار فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيباً فأخبروا قريشاً فركب معهم سبعون فارساً فلما لحقوهم قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليغ الأرض وقال الزبير ما أجرأكم علينا يا معشر قريش ثم رفع العمامة عن رأسه وقال : أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما . فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا إلى مكة ، وقدم الزبير وصاحبه المقداد على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده فقال يا محمد إن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك ، ونزل في الزبير والمقداد : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } حين شريا أنفسهما بإنزال خبيب عن خشبته . وقال أكثر المفسرين : نزلت في صهيب ابن سنان الرومي ، وإنما نسب إلى الروم لأن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارت الروم على تلك الناحية فسبوه وهو غلام صغير فنشأ بالروم ، وإنما كان من العرب ابن النمر بن قاسط قال سعيد بن المسيب وعطاء أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته وقال : والله لا تصلوا إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ، وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي .

فقالوا نعم ، ففعل ، فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ربح البيع أبا يحيى " ، وتلا عليه هذه الآية . وقال الحسن : أتدرون فيم نزلت هذه الآية ؟ نزلت في المسلم يلقي الكافر فيقول له قل : لا إله إلاّ الله فيأبى أن يقولها فيقولها المسلم والله لأشرين نفسي لله فتقدم فقاتل وحده حتى قتل ، نزلت هذه الآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال ابن عباس : رضي الله عنهما : أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم فيأمر هذا بتقوى الله فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم قال وأنا أشري نفسي لله فقاتله ، وكان علي كرم الله وجهه إذا قرأ هذه الآية يقول اقتتلا ورب الكعبة . وسمع عمر رجلاً يقرأ هذه الآية : { ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله } فقال عمر : إنا لله وإنا إليه راجعون قام رجل فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقتل . عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر " أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب . وأما تفسير الآية فذكر المفسرون أن المراد بهذا الشراء البيع ومنه قوله :

{ وشروه بثمن } أي باعوه والمعنى أن المسلم باع نفسه بثواب الله تعالى في الدار الآخرة ، وهذا البيع هو أن يبذل نفسه في طاعة الله من صلاة وصيام ، وحج وجهاد وأمر بمعروف ونهي عن المنكر ، فكان ما يبذله من نفسه كالسلعة فصار كالبائع ، والله تعالى المشتري ، والثمن هو ثواب الله تعالى في الآخرة ابتغاء مرضاة الله أي طلب رضا الله { والله رؤوف بالعباد } أي من رأفة الله بعباده أن جعل النعيم الدائم في الجنة جزاء على العمل القليل المنقطع ، ومن رأفته أنه يقبل توبة عبده ومن رأفته أن نفس العباد وأموالهم له ، ثم إنه تعالى يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً .