السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

{ ومن الناس من يشري } أي : يبيع { نفسه } أي : يبذلها في الجهاد أو يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر حتى يقتل { ابتغاء مرضاة الله } أي : طلباً لرضاه ، وقال أكثر المفسرين : نزلت في صهيب بن سنان الرومي أخذه المشركون في رهط من المؤمنين فعذبوهم ، فقال لهم : إني شيخ كبير لا يضركم أمنكم كنت أم من غيركم فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟ ففعلوا وكان شرط عليهم راحلة ونفقة فأقام بمكة ما شاء الله ، ثم خرج إلى المدينة ، فتلقاه أبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما في رجال فقال له أبو بكر : «ربح بيعك أبا يحيى » فقال : وما ذاك ؟ فقال : أنزل الله فيك قرآناً وقرأ عليه هذه الآية ، فعلى هذا يكون يشري بمعنى يشتري لا بمعنى يبيع ويبذل .

وقيل : نزلت في الزبير والمقداد بن الأسود وذلك أن كفار قريش بعثوا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو بالمدينة : إنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلموننا دينك ، وكان ذلك مكراً منهم فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو هريرة : عشرة ومن جملتهم خبيب فقتلوهم وأسروا خبيباً قال آسره : والله ما رأيت أسيراً خيراً من خبيب ، والله وجدته يوماً يأكل قطفاً من عنب في يده وإنه لموثوق بالحديد وما بمكة من ثمرة إن كان إلا رزقاً رزقه الله خبيباً ، ثم أرادوا قتله فخرجوا به من الحرم ليقتلوه في الحل وأرادوا أن يصلبوه فقال : دعوني أصلي ركعتين فتركوه حتى صلاهما ثم قال : لولا أخشى أن تحسبوا أنّ ما بي من جزع لزدت اللهمّ أحصهم عدداً واقتلهم بدداً ولا تبق منهم أحداً ثم أنشأ يقول :

ولست أبالي حين أُقْتَل مسلماً *** على أيّ شق كان في الله مصرعي

وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصال شلو ممزع

ثم صلبوه حياً فقال : اللهمّ إنك تعلم أنه ليس أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي ، ثم قام عقبة بن الحارث فقتله فلما بلغ النبيّ صلى الله عليه وسلم هذا الخبر قال : ( أيكم ينزل خبيباً عن خشبته وله الجنة ؟ ) . فقال الزبير : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد ، فخرجا يسيران بالليل ويكمنان بالنهار حتى وصلا إليه ليلاً ، وإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نيام فأنزله الزبير وحمله على فرسه وسارا فانتبه الكفار فلم يجدوه فأخبروا قريشاً فركب منهم سبعون فلما لحقوهما قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليع الأرض ، ثم رفع الزبير العمامة عن رأسه وقال : أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب ، وصاحبي المقداد بن الأسود ، فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا إلى مكة وقدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبريل عنده ، فقال : يا محمد إن الملائكة لتتباهى بهذين من أصحابك فنزلت فيهما هذه الآية { والله رؤوف بالعباد } حيث أرشدهم لما فيه رضاه .