غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

204

قوله تعالى : { ومن الناس من يشري } الآية . قال سعيد بن المسيب : أقبل صهيب مهاجراً نحو النبي صلى الله عليه وسلم فاتبعه نفر من قريش فنزل عن راحلته وانتشل ما في كنانته وأخذ قوسه ثم قال : والله لا تصلون إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي . وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي ففعلوا . فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ربح البيع أبا يحيى " وتلا الآية . وقيل : أخذ المشركون صهيباً فعذبوه فقال لهم صهيب : إني شيخ كبير لا يضركم ، أمنكم كنت أم من غيركم . فهل لكم أن تأخذوا مالي وتذروني وديني ؟ ففعلوا ذلك . وكان قد شرط عليهم راحلة ونفقة فخرج إلى المدينة فتلقاه أبو بكر وعمر في رجال ، فقال له أبو بكر : ربح بيعك أبا يحيى . قال صهيب : وبيعك . أفلا تخبرني ما ذاك ؟ فقال : نزلت فيك كذا قرأ الآية . عن الحسن : نزلت في أن المسلم أتى الكافر فقاتل حتى قتل . وقيل : نزلت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر . سمع عمر بن الخطاب إنساناً يقرأ هذه الآية فقال عمر : إنا لله قام رجل يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقتل . وقيل : نزلت في علي رضي الله عنه بات على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة خروجه إلى الغار . ويروى أنه لما نام على فراشة قام جبريل عند رأسه وميكائيل عند رجليه وجبريل ينادي بخ بخ . من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية . ثم إن الآية تدل على أن ههنا مبايعة ، فأكثر المفسرين على أن العامل هو البائع . ومعنى يشري يبيع { وشروه بثمن بخس } [ يوسف : 20 ] والله هو المشتري

{ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم } [ التوبة : 111 ] وعمل المكلف وهو بذل نفسه في طاعة الله من الصلاة والصيام والحج والجهاد هو الثمن والجنة هي المثمن . وقيل : يحتمل أن يراد بالشراء ههنا الاشتراء وذلك أن من أقدم على الكفر والمعاصي . فكأن نفسه خرجت عن ملكه وصارت حقاً للنار ، وإذا أقدم على الطاعة صار كأنه اشترى نفسه من النار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دراهم معدودة ويشتري بها نفسه ، والمؤمن يبذل أنفاساً معدودة ويشتري بها نفسه ، لكن المكاتب عبدٌ ما بقي عليه درهم . فكذا المكلف لا ينجو عن ربقة العبودية ما دام بقي له نفس واحد في الدنيا ، وهذا كقول عيسى عليه السلام { وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً }

[ مريم : 31 ] وقوله عز من قائل لنبيه { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [ الحجر : 99 ] و{ ابتغاء مرضات الله } أي طلب رضوانه نصب على العلة الغائية . وفيه دليل على أن كل مشقة يتحملها الإنسان يجب أن تكون على وفق الشرع ومطلوباً بها جانب الحق وإلا كان عمله ضلالاً وكده وبالاً . { والله رءوف بالعباد } فمن رأفته جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل ، وجوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس { إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [ النحل : 106 ] ومن رأفته أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها ، ومن رأفته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط عقابه وأعطاه ثوابه ، ومن رأفته أن النفس له والمال له ثم إنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه وامتناناً ورحمة وإحساناً .

/خ210