تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته  
{وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشۡرِي نَفۡسَهُ ٱبۡتِغَآءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ رَءُوفُۢ بِٱلۡعِبَادِ} (207)

{ ومن الناس من يشتري نفسه ابتغاء مرضات الله }

المفردات :

يشري نفسه : يبيعها .

ابتغاء : أي طلب .

مرضاة : أي رضاء .

المعنى الإجمالي :

فما أبعد الفرق بين هؤلاء المنافقين ، وبين المؤمنين الصادقين الذين يبيع أحدهم نفسه في سبيل مرضاة الله وإعلاء كلمة الحق ، ويكون هذا القسم مقابلا للقسم الأول ، ويكون توليه أمره من أمور الناس من رأفة الله بعباده .

التفسير :

ويشتري هنا معناها يبيع ، فهو يبع نفسه كلها لله ، ويسلمها كلها لا يستبقي منها بقية ، ولا يرجو من وراء أدائها وبيعها غاية إلا مرضاة الله ، ليس فيها شيء ، وليس له من ورائها شيء ، بيعة كاملة لا تردد فيها ، ولا تحصيل الثمن ، ولا استبقاء بقية لغير الله .

{ والله رءوف بالعباد }

أي رفيق ورحيم بهم ، ومنه مظاهر ذلك أنه لم يكلفهم بما هو فوق طاقتهم ، وإنما كافه بما تطيقه نفوسهم ، وأنه أسبغ عليهم نعمة ظاهرة وباطنة في الدنيا مع تقصيرهم فيما أمرهم به أو نهاهم عنه ، وأنه كافئهم بالنعيم المقيم على العمل القليل ، وأنه جعل العاقبة للمنقين ، لا للمفسدين ، وأنه فتح بابه للتائبين ، وتجاوز عن المخطئين وحثهم على الإنابة والاستقامة فقال سبحانه :

{ قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم*وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ولا تنصرون } . ( الزمر : 53-54 ) .

وقد أورد المفسرون روايات متعددة في سبب نزول هذه الآية ، منها ما رواه ابن كثير أنها نزلت في صهيب الرومي .

وذلك أنه أسلم في بمكة وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ، فتخلص منه وأعطاه ماله ، فأنزل الله فيه هذه الآية .

وفي رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عندما بلغه أن صهيبا دفع ماله للمشركين وهاجر بنفسه ربح صهيب ، ربح صهيب .

وهنا ك روايات أنها نزلت فيه ، وفي عمار بن ياسر وفي خباب بن الأرت وفي غيرهم من المؤمنين المجاهدين .

والآية وإن كانت نزلت في حادثة معينة ، أو انطبقت عليها ، فإنها تتناول كل من أطاع الله تعالى وبذل نفسه في سبيل إعلاء كلمة الله ، ويدخل ف ذلك دخولا أوليا من نزلت فيهم الآية ، إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .

قال الأستاذ سيد قطب :

والآية أبعد مدى من مجرد حادث ومن مجرد فرد وهي ترسم صورة نفس وتحدد ملامح نموذج من الناس ، نرى نظائره في لبشرية هنا وهناك .

والصورة الأولى : تنطبق على كل منافق مراء دلق اللسان . فظ القلب شرير الطبع شديد الخصومة ، مفسود الفطرة .

والصورة الثانية : تنطبق على كل مؤمن خالص الإيمان ، متجرد لله ، مرخص لأعراض الحياة . وهذا وذاك نموذجا معهودان في الناس ، ترسمهما الريشة المبدعة بهذا الإعجاز ، وتقيمها أمام الأنظار ، يتأمل الناس فيهما معجزة القرآن ، ومعجزة خلق الإنسان بهذا التفاوت بين النفاق والإيمان ، ويتعلم منها الناس ألا ينخدعوا بمعسول القول ، وطلاوة الدهان ، وأن يبحثوا عن الحقيقة وراء الكلمة المزوقة ، والنبرة المتصنعة ، والنفاق والرياء والسواق كما يتعلمون منها كيف تكون القيم فيميزان الإيمان ( 141 ) .

* * *