قوله تعالى : { ولقد صدقكم الله وعده } . قال محمد بن كعب القرظي : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة من أحد ، قد أصابهم ما أصابهم ، قال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فأنزل الله تعالى ( ولقد صدقكم الله وعده ) . بالنصر والظفر ، وذلك أن الظفر كان للمسلمين في الابتداء .
قوله تعالى : { إذ تحسونهم بإذنه } . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل أحداً خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل عينين ، وهو جبل عن يساره ، وأقام عليه الرماة ، وأمر عليهم عبد الله بن جبير ، وقال لهم " احموا ظهورنا ، فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا " . وأقبل المشركون ، فأخذوا في القتال فجعل الرماة يرشقون خيل المشركين بالنبل ، والمسلمون يضربونهم بالسيوف ، حتى ولوا هاربين فذلك قوله تعالى ( إذ تحسونهم بإذنه ) أي تقتلونهم قتلاً ذريعاً بقضاء الله . قال أبو عبيدة : الحس : الاستئصال بالقتل .
قوله تعالى : { حتى إذا فشلتم } . أي إن جبنتم ، وقيل : معناه فلما فشلتم .
قوله تعالى : { وتنازعتم في الأمر وعصيتم } . فالواو زائدة في وتنازعتم ، يعني إذا فشلتم تنازعتم ، وقيل : فيه تقديم وتأخير ، تقديره حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم ، ومعنى التنازع الاختلاف ، وكان اختلافهم أن الرماة اختلفوا حين انهزم المشركون ، فقال بعضهم : انهزم القوم فما مقامنا ؟ وأقبلوا على الغنيمة ، وقال بعضهم : لا تجاوزوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة . فلما رأى خالد بن الوليد ، وعكرمة بن أبي جهل ذلك ، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه ، وأقبلوا على المسلمين ، وحالت الريح فصارت دبوراً بعد ما كانت صباً ، وانقضت صفوف المسلمين ، واختلطوا فجعلوا يقتلون على غير شعار يضرب بعضهم بعضاً ما يشعرون من الدهش ، ونادى إبليس : أن محمداً قد قتل ، فكان ذلك سبب الهزيمة للمسلمين . قوله تعالى ( وعصيتم ) يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وخالفتم أمره .
قوله تعالى : { من بعد ما أراكم } . الله .
قوله تعالى : { ما تحبون } . يا معشر المسلمين من الظفر والغنيمة .
قوله تعالى : { منكم من يريد الدنيا } . يعني الذين تركوا المركز وأقبلوا على النهب .
قوله تعالى : { ومنكم من يريد الآخرة } . يعني : الذين ثبتوا مع عبد الله بن جبير حتى قتلوا ، قال عبد الله بن مسعود : ما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى كان يوم أحد ، ونزلت هذه الآية .
قوله تعالى : { ثم صرفكم عنهم } . أي ردكم عنهم بالهزيمة .
قوله تعالى : { ليبتليكم } . ليمتحنكم ، وقيل : لينزل البلاء عليكم .
قوله تعالى : { ولقد عفا عنكم } . فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة منكم لأمر نبيكم .
{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ }
أي : { ولقد صدقكم الله وعده } بالنصر ، فنصركم عليهم ، حتى ولوكم أكتافهم ، وطفقتم فيهم قتلا ، حتى صرتم سببا لأنفسكم ، وعونا لأعدائكم عليكم ، فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور { وتنازعتم في الأمر } الذي فيه ترك أمر الله بالائتلاف وعدم الاختلاف ، فاختلفتم ، فمن قائل نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن قائل : ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو ، ولم يبق محذور ، فعصيتم الرسول ، وتركتم أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون وهو انخذال أعدائكم ؛ لأن الواجب على من أنعم الله عليه بما أحب ، أعظم من غيره .
فالواجب في هذه الحال خصوصًا ، وفي غيرها عموما ، امتثال أمر الله ورسوله .
{ منكم من يريد الدنيا } وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب ، { ومنكم من يريد الآخرة } وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبتوا حيث أمروا .
{ ثم صرفكم عنهم } أي : بعدما وجدت هذه الأمور منكم ، صرف الله وجوهكم عنهم ، فصار الوجه لعدوكم ، ابتلاء من الله لكم وامتحانا ، ليتبين المؤمن من الكافر ، والطائع من العاصي ، وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة ما صدر منكم ، فلهذا قال : { ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين } أي : ذو فضل عظيم عليهم ، حيث منَّ عليهم بالإسلام ، وهداهم لشرائعه ، وعفا عنهم سيئاتهم ، وأثابهم على مصيباتهم .
ومن فضله على المؤمنين أنه لا يقدر عليهم خيرا ولا مصيبة ، إلا كان خيرا لهم . إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين ، وإن أصابتهم ضراء فصبروا ، جازاهم جزاء الصابرين .
ثم ذكر الله - تعالى - المؤمنين بما حدث لهم في غزوة أحد ، وكيف أنهم انتصروا على أعدائهم فى أول معركة ، ثم كيف أنهم أصيبوا بالهزيمة بعد ذلك بسبب فشلهم وتنازعهم ومعصيتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم ، ثم صور - سبحانه - أحوالهم فى هذه المعركة تصويرا بليغا مؤثرا وحكى أقوال ضعاف الإيمان ورد عليها بما يدحضها . استمع إلى القرآن الكريم وهو يحكى كل ذلك فيقول : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ . . . } .
قال القرطبى : قال محمد بن كعب القرظى : لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد أحد ، وقد أصيبوا قال بعضهم لبعض : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر ؟ فنزل قوله - تعالى - { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } الآية .
وذلك أنهم قتلوا صاحب لواء المشركين وسبعة نفر منهم بعده على اللواء ، وكان الظفر ابتداء للمسلمين ، غير أنهم اشتغلوا بالغنيمة وترك بعض الرماة أيضاً مراكزهم طلبا للغنيمة فكان ذلك سبب الهزيمة .
وقد روى البخارى عن البراء بن عازب قال : لما كان يوم أحد ولقينا المشركين أجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم أناسا من الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم : " لا تبرحوا من مكانكم . إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم قد ظهروا علينا فلا تعينونا " .
قال : فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددت الجبل - أى يسرعن الفرار - يرفعن عن سوقهن ، قد بدت خلاخلهن . فجعلوا يقولون - أى الرماة - " الغنيمة . . الغنيمة " فقال لهم أميرهم عبد الله بن جبير . أمهلوا . أما عهد إليكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا تبرحوا أماكنكم ؟ فأبوا - وانطلقوا لجمع الغنائم - فلما أتوهم صرف الله وجوههم وقتل من المسلمين سبعون رجلا " .
وصدق الوعد معناه : تحقيقه والوفاء به ، الصدق مطابقة الخبر للواقع . والمراد بهذا الوعد ، ما وعد الله به المؤمنين من النصر والظفر فى مثل قوله - تعالى - { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } وفى مثل قوله - تعالى - { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } وفى مثل قول الرسول صلى الله عليه وسلم للرماة قبل أن تبدأ المعركة " لا تبرحوا أماكنكم فلن نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " .
ومعنى " تحسونهم تقتلونهم قتلا شديدا يفقدون معه حسهم وحركتهم . يقال : حسه حسا إذا قتله . وحقيقته : أصاب حاسته بآفة فأبطلها ، يقال : كبده وفأده أى : أصاب كبده وفؤاده . ومنه جراد محسوس ، وهو الذى قتله البرد أو مسته النار فأهلكته .
والمعنى : ولقد حقق الله - تعالى - لكم - أيها المؤمنون - ما وعدكم به من النصر على أعدائكم إذ إيدكم فى أول معركة أحد بعونه وتأييده فصرتم تقتلون المشركين قتلا ذريعا شديدا بإذنه وتيسيره ورعايته وكان حليفا لكم فى أول المعركة .
و " صدق " يتعدى لاثنين أحدهما بنفسه والآخر بحرف الجر تقول : صدقت زيداً فى الحديث . وقد يتعدى بنفسه إلى مفعولين كما هنا إذ المفعول الأول ضمير المخاطبين ، والثانى قوله { وَعْدَهُ } .
وقوله { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } معمول لصدقكم أى صدقكم فى هذا الوقت وهو وقت قتلهم وقوله " بإذنه " متعلق بمحذوف لأنه حال من فاعل " تحسونهم " أى تقتلونهم مأذونا لكم فى ذلك .
فالجملة الكريمة تذكر المؤمنين بما كان من نصر الله - تعالى - لهم عندما أقبلوا على معركة أحد بقلوب مخلصة ، ونفوس ثابتة وعزيمة صادقة . . ثم بين - سبحانه - أن ما أصابهم من هزيمة بعد ذلك كان بسبب فشلهم وتنازعهم فقال - تعالى - : { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } .
والفشل : بمعنى الجبن والضعف ، يقال فشل يفشل فهو فشل وفاشل والتنازع : التخاصم والتحالف .
والمعنى : ولقد صدقكم الله وعده فى النصر - أيها المؤمنون - عندما كنتم تقاتلون أعداءكم بإيمان صادق ، وإخلاص الله - تعالى - حتى إذا ضعفت نفوسكم وعجزتم عن مقاومة أهوائكم وتنازعتم فيما بينكم ( أنتبع الغنائم نجمعها أم نبقى فى أماكننا التى حددها الرسول صلى الله عليه وسلم لنا ) ؟ ومال أكثركم إلى طلب الغنائم مخالفاً أمر الرسول صلى الله عليه وسلم من بعد ما أراكم الله فى أول المعركة من نصر مؤزر تحبونه وترجونه ، ومن مغانم تتطلعون إليها بلهفة وشوق .
حتى إذا فعلتم ذلك منع الله - تعالى - عنكم نصره ، وتحول نصركم إلى هزيمة وفقدتم أنفسكم وما جمعتموه من غنائم .
وهكذا نرى أن ما أصاب المسلمين فى أحد من هزيمة كان بسبب فشل بعضهم وتنازعهم وعصيانهم أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم وصدق الله إذ يقول : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } ولقد رتب الله - تعالى - ما حدث من بعض المؤمنين فى غزوة أحد ترتيباً دقيقاً ، يتفق مع ما حصل منهم وذلك لأنهم حدث منهم - أولا - الفشل بمعنى العجز النفسي عن الثبات والصبر . ثم ترتب على ذلك أن تنازعو فيما بينهم ونتج عن هذا التنازع أن ترك معظمهم مكانه ونزل إلى ميدان المعركة لجمع المغانم ، ثم ترتب على كل ذلك معصيتهم لأمر رسولهم وقائدهم صلى الله عليه وسلم .
قال الجمل ما ملخصه : وقوله { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } فى حتى هذه قولان :
أحدهما : أنها حرف جر بمعنى إلى وفى متعلقها حينئذ ثلاثة أوجه .
أحدها : أنها متعلقة بقوله : { تَحُسُّونَهُمْ } أى تقتلونهم إلى هذا الوقت .
والثانى : أنها متعلقة " بصدقكم " أى صدقكم الله وعده إلى وقت فشلكم . والثالث : أنها متعلقة بمحذوف دل عليه السياق تقديره : ودام لكم ذلك إلى وقت فشلكم .
والقول الثانى : أنها حرف ابتداء داخلة على الجملة الشرطية { إِذَا } على بابها من كونها شرطية ، والصحيح أن جوابها محذوف أى حتى إذا فشلتم وتنازعتم منع الله عنكم نصره " .
وقال الفخر الرازى : فإن قيل ما الفائدة فى قوله { بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } ؟
فالجواب عنه : أن المقصود منه التنبيه على عظم المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله - تعالى - " أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، لأنهم لما شاهدوا أن الله - تعالى - " أكرمهم بإنجاز الوعد كان من حقهم أن يمتنعوا عن المعصية ، فلما أقدموا عليها لا جرم سلبهم الله ذلك الإكرام وأذاقهم وبال أمرهم . وقوله { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } تفصيل للتنازع الذى كان بين الرماة ، أو بين بعض أفراد المسلمين الذين اشتركوا فى هذه الغزوة .
أى : منكم - أيها المسلمون - من يريد الدنيا ومغانمها حتى حمله ذلك على ترك مكانه المخصص له مخالفا نصيحة قائده ورسوله صلى الله عليه وسلم ولو أن هذا البعض منكم خالف هواه ، وحارب مطامعه ، وأطاع أمر رسوله صلى الله عليه وسلم لتم لكم النصر ، ولأتتكم الدنيا بغنائمها وهيى صاغرة .
ومنكم من يريد بجهاده وعمله ثواب الآخرة وهم الذين أطاعوا أمر رسولهم صلى الله عليه وسلم وثبتوا إلى جانبه يدافعون عنه وعن عقيدتهم وعن أنفسهم دفاع الأبطال الصامدين وهؤلاء هم الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم ما يسعدهم فى دنياهم وآخرتهم .
قال ابن جرير : قال ابن عباس : لما هزم الله المشركين يوم أحد ، قال الرماة : أدركوا الناس لا يسبقوكم إلى الغنائم فتكون لهم دونكم ، وقال بعضهم : لا نريم حتى يأذن لنا النبى صلى الله عليه وسلم فنزلت : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } .
وقال ابن مسعود : ما علمنا أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد " .
وقوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } عطف على جواب " إذا " المقدر ، وما بينهما اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه .
والتقدير : منع الله نصره عنكم بسبب فشلكم وتنازعكم ومعصيتكم لنبيكم ثم ردكم عنهم دون أن تنالوا ما تبتغون { لِيَبْتَلِيَكُمْ } أى ليعاملكم الله - تعالى - معاملة من يمتحن غيره ، ليتميز قوى الإيمان من ضعيفه وليتبين لكم الصابر المخلص من غيره .
وجاء العطف بثم فى قوله { ثُمَّ صَرَفَكُمْ } للإشعار بالتفاوت الكبير بين المقصد الأصلى الذى خرجوا من أجله وهو النصر والحصول على الغنيمة وبين النتيجة التى انتهوا إليها وهى العودة مقهورين .
وكان التعبير بكلمة { صَرَفَكُمْ } دون كلمة " هزمتم " لأن ما حدث فى أحد لم يكن هزيمة وإن لم يكن نصراً . لأن الهزيمة تقتضى أن يولى المسلمون الأدبار وأن يتحكم فيهم أعداؤهم وما حدث فى أحد لم يكن كذلك ، وإنما كان زيادة فى عدد الشهداء من المسلمين عن عدد القتلى من المشركين لأن بعض المسلمين خالفوا وصية نبيهم صلى الله عليه وسلم وتطلعوا إلى زهرة الدنيا وزينتها بطريقة تتعارض مع ما يقتضيه الإيمان الصادق فكان من الله - تعالى - التأديب لهم .
. وفى هذا التعبير { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ } تسلية لهم عما أصابهم ، وتخفيف لمصابهم فكأنه - سبحانه - يقول لهم : إن ما حدث فى أحد إنما هو نوع من الصرف عن الغاية التى من أجلها خرجتم لحكم من أهمها : تمييز الخبيث من الطيب ، وتربيتكم على تحمل المصائب والآلام ، وتأديبكم بالأدب المناسب حتى لا تعودوا مرة أخرى إلى مخالفة رسولكم صلى الله عليه وسلم .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بما يمسح آلامهم ويذهب الحسرة من قلوبهم فقال - تعالى - { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } .
أى : ولقد عفا - سبحانه - عما صدر منكم تفضلا منه وكرما ، والله تعالى هو صاحب الفضل المطلق الدائم على المؤمنين .
ولقد أكد - سبحانه - هذا العفو باللام وبقد وبالتعبير بالماضى ، ليفتح أمامهم طريق الأمل ، وليحفزهم على التوبة الصادقة والإيمان العميق ، حتى لا ييأسوا من رحمة الله .
والتذييل بقوله { ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } مؤكد لمضمون ما قبله .
قال الآلوسى : " إيذان بأن ذلك العفو ، ولو كان بعد التوبة ، بطريق التفضل لا الوجوب أى : شأنه أن يتفضل عليهم بالعفو فى جميع الأحوال أديل لهم أو أديل عليهم ، إذ الابتلاء أيضاً رحمة " .
فأنت ترى أن الآية الكريمة قد ذكرت المؤمنين بأن الله - تعالى - قد حقق وعده معهم فى أول المعركة بأن سلطهم على المشركين يقتلونهم بتأييده ورعايته قتلا ذريعا فلما صدر من بعض المؤمنين الفشل والتنازع والعصيان منع الله عنهم عونه وصرفهم عن الغاية التى كانوا يتمنونها ليتميز الخبيث من الطيب ومع ذلك فقد عفا الله عما صدر منهم من أخطاء لأنه هو صاحب الفضل الدائم على المؤمنين .
وهنا يردهم السياق إلى مصداق وعد الله هذا في غزوة أحد ذاتها . فقد كان لهم النصر الساحق في أوائلها . ولقد استحر القتل في المشركين حتى ولوا الأدبار ، وتركوا وراءهم الغنائم ، وسقط لواؤهم فلم تمتد يد لرفعه حتى رفعته لهم امرأة ! . . ولم ينقلب النصر هزيمة للمسلمين إلا حين ضعفت نفوس الرماة أمام إغراء الغنائم ؛ وتنازعوا فيما بينهم ، وخالفوا عن أمر رسول الله [ ص ] نبيهم وقائدهم . . وهنا يردهم السياق إلى صميم المعركة ومشاهدها ومواقفها وأحداثها وملابساتها ، في حيوية عجيبة :
( ولقد صدقكم الله وعده ، إذ تحسونهم بإذنه ، حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر ، وعصيتم - من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة . ثم صرفكم عنهم ليبتليكم . ولقد عفا عنكم ، والله ذو فضل على المؤمنين . إذ تصعدون ولا تلوون على أحد ، والرسول يدعوكم في أخراكم ، فأثابكم غما بغم ، لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم . والله خبير بما تعملون . ثم أنزل عليكم من بعد الغم امنة نعاسا يغشى طائفة منكم ، وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ، يقولون : هل لنا من الأمر من شيء ؟ قل : إن الأمر كله لله . يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك . يقولون : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . قل : لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم . وليبتلي الله ما في صدوركم . وليمحص ما في قلوبكم ، والله عليم بذات الصدور . إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا . ولقد عفا الله عنهم . إن الله غفور حليم ) . .
إن التعبير القرآني هنا ليرسم مشهدا كاملا لمسرح المعركة ، ولتداول النصر والهزيمة . مشهدا لا يترك حركة في الميدان ، ولا خاطرة في النفوس ، ولا سمة في الوجوه ، ولا خالجة في الضمائر ، إلا ويثبتها . . وكأن العبارات شريط مصور يمر بالبصر ، ويحمل في كل حركة صورا جديدة نابضة . وبخاصة حين يصور حركة الإصعاد في الجبل ، والهروب في دهش وذعر ، ودعاء الرسول [ ص ] للفارين المرتدين عن المعركة ، المصعدين للهرب . يصحب ذلك كله حركة النفوس ، وما يدور فيها من خوالج وخواطر وانفعالات ومطامع . . ومع هذا الحشد من الصور الحية المتحركة النابضة ، تلك التوجيهات والتقريرات التي يتميز بها أسلوب القرآن ، ومنهج القرآن التربوي العجيب :
( ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه ) . .
وكان ذلك في مطالع المعركة ، حيث بدأ المسلمون يحسون المشركين ، أي يخمدون حسهم ، أو يستأصلون شأفتهم . قبل أن يلهيهم الطمع في الغنيمة . وكان رسول الله [ ص ] قد قال لهم : " لكم النصر ما صبرتم " فصدقهم الله وعده على لسان نبيه .
( حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون : منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . .
وهو تقرير لحال الرماة . وقد ضعف فريق منهم أمام إغراء الغنيمة ؛ ووقع النزاع بينهم وبين من يرون الطاعة المطلقة لأمر رسول الله [ ص ] وانتهى الأمر إلى العصيان . بعد ما رأوا بأعينهم طلائع النصر الذي يحبونه . فكانوا فريقين : فريقا يريد غنيمة الدنيا ، وفريقا يريد ثواب الآخرة . وتوزعت القلوب فلم يعد الصف وحدة ، ولم يعد الهدف واحدا . وشابت المطامع جلاء الإخلاص والتجرد الذي لا بد منه في معركة العقيدة . فمعركة العقيدة ليست ككل معركة . إنها معركة في الميدان ومعركة في الضمير . ولا انتصار في معركة الميدان دون الانتصار في معركة الضمير . إنها معركة لله ، فلا ينصر الله فيها إلا من خلصت نفوسهم له .
وما داموا يرفعون راية الله وينتسبون إليها ، فإن الله لا يمنحهم النصر إلا إذا محصهم ومحضهم للراية التي رفعوها ؛ كي لا يكون هناك غش ولا دخل ولا تمويه بالراية . ولقد يغلب المبطلون الذين يرفعون راية الباطل صريحة في بعض المعارك - لحكمة يعلمها الله - أما الذين يرفعون راية العقيدة ولا يخلصون لها إخلاص التجرد ، فلا يمنحهم الله النصر أبدا ، حتى يبتليهم فيتمحصوا ويتمحضوا . . وهذا ما يريد القرآن أن يجلوه للجماعة المسلمة بهذه الإشارة إلى موقفهم في المعركة ، وهذا ما أراد الله - سبحانه - أن يعلمه للجماعة المسلمة ، وهي تتلقى الهزيمة المريرة والقرح الأليم ثمرة لهذا الموقف المضطرب المتأرجح !
( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . .
والقرآن يسلط الأضواء على خفايا القلوب ، التي ما كان المسلمون أنفسهم يعرفون وجودها في قلوبهم . . عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : ما كنت أرى أن أحدا من أصحاب رسول الله [ ص ] يريد الدنيا ، حتى نزل فينا يوم أحد : ( منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) . . وبذلك يضع قلوبهم أمامهم مكشوفة بما فيها ؛ ويعرفهم من أين جاءتهم الهزيمة ليتقوها !
وفي الوقت ذاته يكشف لهم عن طرف من حكمة الله وتدبيره ، وراء هذه الآلام التي تعرضوا لها ؛ ووراء هذه الأحداث التي وقعت بأسبابها الظاهرة :
( ثم صرفكم عنهم ليبتليكم ) . .
لقد كان هناك قدر الله وراء أفعال البشر . فلما أن ضعفوا وتنازعوا وعصوا صرف الله قوتهم وبأسهم وانتباههم عن المشركين ، وصرف الرماة عن ثغرة الجبل ، وصرف المقاتلين عن الميدان ، فلاذوا بالفرار . . وقع كل هذا مرتبا على ما صدر منهم ؛ ولكن مدبرا من الله ليبتليهم . . ليبتليهم بالشدة والخوف والهزيمة والقتل والقرح ؛ وما يتكشف عنه هذا كله من كشف مكنونات القلوب ، ومن تمحيص النفوس ، وتمييز الصفوف - كما سيجيء .
وهكذا تقع الأحداث مرتبة على أسبابها ، وهي في الوقت ذاته مدبرة بحسابها . بلا تعارض بين هذا وذاك . فلكل حادث سبب ، ووراء كل سبب تدبير . . من اللطيف الخبير . .
عفا عما وقع منكم من ضعف ومن نزاع ومن عصيان ؛ وعفا كذلك عما وقع منكم من فرار وانقلاب وارتداد . . عفا عنكم فضلا منه ومنة ، وتجاوزا عن ضعفكم البشري الذي لم تصاحبه نية سيئة ولا إصرار على الخطيئة . . عفا عنكم لأنكم تخطئون وتضعفون في دائرة الإيمان بالله ، والاستسلام له ، وتسليم قيادكم لمشيئته :
( والله ذو فضل على المؤمنين ) . .
ومن فضله عليهم أن يعفو عنهم ، ما داموا سائرين على منهجه ، مقرين بعبوديتهم له ؛ لا يدعون من خصائص الألوهية شيئا لأنفسهم ، ولا يتلقون نهجهم ولا شريعتهم ولا قيمهم ، ولا موازينهم إلا منه . . فإذا وقعت منهم الخطيئة وقعت عن ضعف وعجز أو عن طيش ودفعة . . فيتلقاهم عفو الله بعد الابتلاء والتمحيص والخلاص . .
{ ولقد صدقكم } عطف على قوله : { سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب } [ آل عمران : 151 ] وهذا عود إلى التَّسلية على ما أصابهم ، وإظهار لاستمرار عناية الله تعالى بالمؤمنين ، ورمز إلى الثقة بوعدهم بإلقاء الرعب في قلوب المشركين ، وتبيين لسبب هزيمة المسلمين : تطميناً لهم بذكر نظيره ومماثله السابقِ ، فإنّ لذلك موقعاً عظيماً في الكلام على حدّ قولهم ( التَّاريخ يعيد نفسه ) وليتوسّل بذلك إلى إلقاء تَبِعة الهزيمة عليهم ، وأنّ الله لم يُخلفهم وعده ، ولكن سوء صنيعهم أوقعهم في المصيبة كقوله : { وما أصابك من سيئة فمن نفسك } [ النساء : 79 ] .
وصِدق الوعد : تحقيقُه والوفاءُ به ، لأنّ معنى الصدق مطابقة الخبر للواقع ، وقد عدّي صدق هنا إلى مفعولين ، وحقّه أن لا يتعدّى إلا إلى مفعول واحد . قال الزمخشري في قوله تعالى في سورة [ الأحزاب : 23 ] : { من المؤمنين رجال صَدَقوا ما عاهدوا الله عليه } يقال : صدقني أخوك وكذَبني إذا قال لك الصدق والكذب ، وأمَّا المثَل ( صَدَقَنِي سِنّ بَكْرِه ) فمعناه صدقني في سنّ بَكره بطرح الجارّ وإيصال الفعل . فنصب { وعدَه } هنا على الحذف والإيصال ، وأصل الكلام صدقَكم في وعده ، أو على تضمين صَدَق معنى أعطى .
والوعد هنا وعد النصر الواقعُ بمثل قوله : { يأيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم } [ محمد : 7 ] أو بخبر خاصّ في يوم أحُد .
وإذْن الله بمعنى التقدير وتيسير الأسباب .
و ( إذ ) في قوله : { إذ تحسونهم } نصب على الظرفية لقوله : { صدقكم } أي : صدقكم الله الوعد حين كنتم تحسّونهم بإذنه فإنّ ذلك الحسّ تحقيق لوعد الله إيّاهم بالنَّصر ، و ( إذْ ) فيه للمضيّ ، وأتى بعدها بالمضارع لإفادة التجدّد أي لحكاية تجدّد الحسّ في الماضِي .
والحَسّ بفتح الحاء القَتل أطلقه أكثر اللغويين ، وقَيّده في « الكشاف » بالقتل الذريع ، وهو أصوب .
وقوله : { حتى إذا فشلتم } ( حتَّى ) حرف انتهاء وغاية ، يفيد أنّ مضمون الجملة الَّتي بعدها غاية لمضمون الجملة الَّتي قبلها ، فالمعنى : إذ تقتلونهم بتيسير الله ، واستمرّ قتلكم إيّاهم إلى حصول الفشل لكم والتنازع بينكم .
و ( حتَّى ) هنا جارّة و ( إذا ) مجرور بها .
و ( إذا ) اسم زمان ، وهو في الغالب للزمان المستقبل وقد يخرج عنه إلى الزمان مطلقاً كما هنا ، ولعلّ نكتة ذلك أنَّه أريد استحضار الحالة العجيبة تبعاً لقوله : { تحسونهم } .
و ( إذا ) هنا مجرّدة عن معنى الشرط لأنَّها إذا صارت للمضيّ انسلخت عن الصلاحية للشرطية ، إذ الشرط لا يكون ماضياً إلاّ بتأويل لذلك فهي غير محتاجة لجواب فلا فائدة في تكلّف تقديره : انقسمتم ، ولا إلى جعل الكلام بعدها دليلاً عليه وهو قوله : { منكم من يريد الدنيا } إلى آخرها .
والفشل : الوهن والإعياء ، والتنازع : التخالف ، والمُراد بالعصيان هنا عصيان أمر الرسول ، وقد رتّبت الأفعال الثلاثة في الآية على حسب ترتيبها في الحصول ، إذ كان الفشل ، وهو ضجر بعض الرماة من ملازمة موقفهم للطمع في الغنيمة ، قد حصل أولاً فنشأ عنه التنازع بينهم في ملازمة الموقف وفي اللحاق بالجيش للغنيمة ، ونشأ عن التنازع تصميم معظمهم على مفارقة الموقف الَّذي أمرهم الرسول عليه الصلاة والسّلام بملازمته وعدم الانصراف منه ، وهذا هو الأصل في ترتيب الأخبار في صناعة الإنشاء ما لم يقتض الحال العدول عنه .
والتعريف في قوله : { في الأمر } عوض عن المضاف إليه أي في أمركم أي شأنكم .
ومعنى { من بعد ما أراكم ما تحبون } أراد به النَّصر إذ كانت الريح أوّل يوم أُحُد للمسلمين ، فهزموا المشركين ، وولوا الأدبار ، حتَّى شوهدت نساؤهم مشمّرات عن سوقهنّ في أعلى الجبل هاربات من الأسر ، وفيهنّ هند بنت عتبة بن ربيعة امرأة أبي سفيان ، فلمَّا رأى الرماة الَّذين أمرهم الرسول أن يثبتوا لحماية ظهور المسلمين ، الغنيمة ، التحقوا بالغزاة ، فرأى خالد بن الوليد ، وهو قائد خيل المشركين يومئذ ، غرّة من المسلمين فأتاهم من ورائهم فانكشفوا واضطرب بعضهم في بعض وبادروا الفرار وانهزموا ، فذلك قوله تعالى : { من بعد ما أراكم ما تحبون } فيكون المجرور متعلّقاً بفشلهم . والكلام على هذا تشديد في الملام والتنديم .
والأظهر عندي أن يكون معنى ما تحبّون هو الغنيمة فإنّ المال محبوب ، فيكون المجرور يتنازعه كُلّ من ( فشلتم ، وتنازعتم ، وعصيتم ) ، وعدل عن ذكر الغنيمة باسمها ، إلى الموصول تنبيهاً على أنَّهم عجّلوا في طلب المَال المحبوب ، والكلام على هذا تمهيد لبساط المعذرة إذ كان فشلهم وتنازعهم وعصيانهم عن سبب من أغراض الحرب وهو المعبّر عنه ب ( إحدى الحسنيين ) ولم يكن ذلك عن جبن ، ولا عن ضعف إيمان ، أو قصد خذلان المسلمين ، وكلّه تمهيد لما يأتي من قوله : { ولقد عفا عنكم } .
وقوله : { منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الأخرة } تفصيل لتنازعتم ، وتبيين ل ( عصيتم ) ، وتخصيص له بأنّ العاصين بعض المخاطبين المتنازعين ، إذ الَّذين أرادوا الآخرة ليسوا بعاصين ، ولذلك أخّرت هاته الجملة إلى بعد الفعلين ، وكان مقتضى الظاهر أن يعقب بها قوله : { وتنازعتم في الأمر } وفي هذا الموضع للجملة ما أغنى عن ذكر ثلاث جمل وهذا من أبدع وجوه الإعجاز ، والقرينة واضحة .
والمراد بقوله : { منكم من يريد الدنيا } إرادة نعمة الدنيا وخيرها ، وهي الغنيمة ، لأنّ من أراد الغنيمة لم يحرص على ثواب الامتثال لأمر الرسول بدون تأويل ، وليس هو مفرّطاً في الآخرة مطلقاً ، ولا حاسباً تحصيل خير الدنيا في فعله ذلك مفيتاً عليه ثواب الآخرة في غير ذلك الفعل ، فليس في هذا الكلام ما يدلّ على أنّ الفريق الَّذين أرادوا ثواب الدنيا قد ارتدّوا عن الإيمان حينئذ ، إذ ليس الحرص على تحصيل فائدة دنيوية من فعل من الأفعال ، مع عدم الحرص على تحصيل ثواب الآخرة من ذلك الفعل بِدالَ على استخفاف بالآخرة ، وإنكار لها ، كما هو بيّن ، ولا حاجة إلى تقدير : منكم من يريد الدنيا ، فقط .
وإنَّما سمّيت مخالفة من خالف أمر الرسول عصياناً ، مع أن تلك المخالفة كانت عن اجتهاد لا عن استخفاف ، إذ كانوا قالوا : إنّ رسول الله أمرنا بالثبات هنا لحماية ظهور المسلمين ، فلمَّا نصر الله المسلمين فما لنا وللوقوف هنا حتَّى تفوتنا الغنائم ، فكانوا متأوَّلين ، فإنَّما سمّيت هنا عصياناً لأنّ المقام ليس مقام اجتهاد ، فإنّ شأن الحرب الطاعة للقائد من دون تأويل ، أو لأنّ التأويل كان بعيداً فلم يعذروا فيه ، أو لأنَّه كان تأويلاً لإرضاء حبّ المال ، فلم يكن مكافئاً لدليل وجوب طاعة الرّسول .
وإنَّما قال : { ثم صرفكم عنهم ليبتليكم } ليدلّ على أنّ ذلك الصرف بإذن الله وتقديره ، كما كان القتل بإذن الله وأنّ حكمته الابتلاء ، ليظهر للرسول وللنَّاس مَن ثبت على الإيمان من غيره ، ولأنّ في الابتلاء أسراراً عظيمة في المحاسبة بين العبد وربِّه سبحانه وقد أجمل هذا الابتلاء هنا وسيبيّنه .
وعُقب هذا الملام بقوله : { ولقد عفا عنكم } تسكيناً لخواطرهم ، وفي ذلك تلطّف معهم على عادة القرآن في تقريع المؤمنين ، وأعظم من ذلك تقديم العفو على الملام في ملام الرسول عليه السلام في قوله تعالى : { عفا اللَّه عنك لم أذنت لهم } [ التوبة : 43 ] ، فتلك رتبة أشرف من رتبة تعقيب الملام بذكر العفو ، وفيه أيضاً دلالة على صدق إيمانهم إذ عجل لهم الإعلام بالعفو لكيلا تطير نفوسهم رهبة وخوفاً من غضب الله تعالى .
وفي تذييله بقوله : { والله ذو فضل على المؤمنين } تأكيد ما اقتضاه قوله : { ولقد عفا عنكم } والظاهر أنَّه عفو لأجل التأويل ، فلا يحتاج إلى التَّوبة ، ويجوز أن يكون عفواً بعدما ظهر منهم من الندم والتَّوبة ، ولأجل هذا الاحتمال لم تكن الآية صالحة للاستدلال على الخوارج والمعتزلة القائلين بأنّ المعصية تسلب الإيمان .