قوله تعالى : { فلا تهنوا } لا تضعفوا { وتدعوا إلى السلم } أي لا تدعوا إلى الصلح ابتداء ، منع الله المسلمين أن يدعوا الكفار إلى الصلح ، وأمرهم بحربهم حتى يسلموا ، { وأنتم الأعلون } الغالبون ، قال الكلبي : آخر الأمر لكم وإن غلبوكم في بعض الأوقات ، { والله معكم } بالعون والنصرة ، { ولن يتركم أعمالكم } أي ينقصكم شيئاً من ثواب أعمالكم ، يقال : وتره يتره وتراً وترةً : إذا نقص حقه ، قال ابن عباس ، وقتادة ومقاتل والضحاك : لن يظلمكم أعمالكم الصالحة بل يؤتيكم أجورها .
ثم قال تعالى : { فَلَا تَهِنُوا } أي : لا تضعفوا عن قتال عدوكم ، ويستولي عليكم الخوف ، بل اصبروا واثبتوا ، ووطنوا أنفسكم على القتال والجلاد ، طلبا لمرضاة ربكم ، ونصحا للإسلام ، وإغضابا للشيطان .
ولا تدعوا إلى المسالمة والمتاركة بينكم وبين أعدائكم ، طلبا للراحة ، { و } الحال أنكم { أنتم الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ } أي : ينقصكم { أَعْمَالُكُم }
فهذه الأمور الثلاثة ، كل منها مقتض للصبر وعدم الوهن كونهم الأعلين ، أي : قد توفرت لهم أسباب النصر ، ووعدوا من الله بالوعد الصادق ، فإن الإنسان ، لا يهن إلا إذا كان أذل من غيره وأضعف عددا ، وعددا ، وقوة داخلية وخارجية .
الثاني : أن الله معهم ، فإنهم مؤمنون ، والله مع المؤمنين ، بالعون ، والنصر ، والتأييد ، وذلك موجب لقوة قلوبهم ، وإقدامهم على عدوهم .
الثالث : أن الله لا ينقصهم من أعمالهم شيئا ، بل سيوفيهم أجورهم ، ويزيدهم من فضله ، خصوصا عبادة الجهاد ، فإن النفقة تضاعف فيه ، إلى سبع مائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }
فإذا عرف الإنسان أن الله تعالى لا يضيع عمله وجهاده ، أوجب له ذلك النشاط ، وبذل الجهد فيما يترتب عليه الأجر والثواب ، فكيف إذا اجتمعت هذه الأمور الثلاثة فإن ذلك يوجب النشاط التام ، فهذا من ترغيب الله لعباده ، وتنشيطهم ، وتقوية أنفسهم على ما فيه صلاحهم وفلاحهم .
والفاء فى قوله : { فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم وَأَنتُمُ الأعلون } فصيحة ، والخطاب للمؤمنين على سبيل التبشير والتثبيت والحض على مجاهدة المشركين .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم من أن الله - تعالى - لن يغفر للكافرين . . { فَلاَ تَهِنُواْ } أى : فلا تضعفوا - أيها المؤمنون - أمامهم . ولا تخافوا من قتالهم . . من الوهن بمعنى الضعف ، وفعله وهن بمعنى ضعف ، ومنه قوله - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } وقوله : { وتدعوا إِلَى السلم } معطوف على { تَهِنُواْ } داخل فى حيز النهى .
أى : فلا تضعفوا عن قتال الكافرين ، ولا تدعوهم إلى الصلح والمسالمة على سبيل الخوف منهم ، وإظهار العجز أمامهم ، فإن ذلك نوع من إعطاء الدنية التى تأباها تعاليم دينكم .
وقوله : { وَأَنتُمُ الأعلون والله مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } جمل حالية .
أى : لا تطعفوا ولا تستكينوا لأعدائكم والحال أنكم أنتم الأعلون ، أى : الأكثر قهراً وغلبة لأعدائكم ، والله - تعالى - معكم - بعونه وصنره وتأييده .
{ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أى : ولن ينقصكم شيئا من أجور أعمالكم ، يقال : وَتَرْتُ فلانا حقه - من باب وعد - إذ انقصته حقه ولم تعظه له كاملا ، وترت الرجل ، إذا قتلت له قتيلا ، أو سلبت منه ماله .
قالوا : ومحل النهى عن الدعوة إلى صلح الكفار ومسالمتهم ، إذا كان هذا الصلح أو تلك المسالمة تؤدى إلى إذلال المسلمين أو إظهارهم بمظهر الضعيف القابل لشروط أعدائه . . أما إذا كانت الدعوة إلى السلم لا تضر بمصلحة المسلمين فلا بأس من قبولها ، عملا بقوله - تعالى - : { وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى الله }
ندرك هذا من ترتيب النهي عن الوهن والدعوة إلى السلم في الآية التالية على ما ورد في الآية السابقة من بيان لمصير الكافرين المشاقين : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم ، وأنتم الأعلون والله معكم ، ولن يتركم أعمالكم ) . .
فهذا هو الذي يحذر المؤمنين إياه ، ويضع أمامهم مصير الكفار المشاقين للرسول ، ليحذروا شبحه من بعيد !
وهذا التحذير يشي بوجود أفراد من المسلمين كانوا يستثقلون تكاليف الجهاد الطويل ومشقته الدائمة ؛ وتهن عزائمهم دونه ؛ ويرغبون في السلم والمهادنة ليستريحوا من مشقة الحروب . وربما كان بعضهم ذوي قرابة في المشركين ورحم ، أو ذوي مصالح وأموال ؛ وكان هذا يجنح بهم إلى السلم والمهادنة . فالنفس البشرية هي هي ؛ والتربية الإسلامية تعالج هذا الوهن وهذه الخواطر الفطرية بوسائلها . وقد نجحت نجاحا خارقا . ولكن هذا لا ينفي أن تكون هناك رواسب في بعض النفوس ، وبخاصة في ذلك الوقت المبكر من العهد المدني . وهذه الآية بعض العلاج لهذه الرواسب . فلننظر كيف كان القرآن يأخذ النفوس . فنحن في حاجة إلى تحري خطوات القرآن في التربية . والنفوس هي النفوس :
( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم . وأنتم الأعلون . والله معكم . ولن يتركم أعمالكم ) . .
أنتم الأعلون . فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم . أنتم الأعلون اعتقادا وتصورا للحياة . وأنتم الأعلون ارتباطا وصلة بالعلي الأعلى . وأنتم الأعلون منهجا وهدفا وغاية . وأنتم الأعلون شعورا وخلقا وسلوكا . . ثم . . أنتم الأعلون قوة ومكانا ونصرة . فمعكم القوة الكبرى : ( والله معكم ) . . فلستم وحدكم . إنكم في صحبة العلي الجبار القادر القهار . وهو لكم نصير حاضر معكم . يدافع عنكم . فما يكون أعداؤكم هؤلاء والله معكم ? وكل ما تبذلون ، وكل ما تفعلون ، وكل ما يصيبكم من تضحيات محسوب لكم ، لا يضيع منه شيء عليكم : ( ولن يتركم أعمالكم ) . . ولن يقطع منها شيئا لا يصل إليكم أثره ونتيجته وجزاؤه .
فعلام يهن ويضعف ويدعو إلى السلم ، من يقرر الله - سبحانه - له أنه الأعلى . وأنه معه . وأنه لن يفقد شيئا من عمله . فهو مكرم منصور مأجور ?
هذه هي اللمسة الأولى . واللمسة الثانية تهوين من شأن هذه الحياة الدنيا ، التي قد يصيبهم بعض التضحيات فيها . وتوفية كاملة في الآخرة للأجور مع عدم إبهاظهم ببذل المال مقابل هذه الأجور !
وقوله تعالى : { فلا تهنوا } معناه : فلا تضعفوا ، من وهن الرجل إذا ضعف .
وقرأ جمهور الناس : «وتدعوا » وقرأ أبو عبد الرحمن : «وتدّعوا » بشد الدال{[10386]} . وقرأ جمهور القراء : «إلى السَلم » بفتح السين . وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم : «إلى السِلم » بكسر السين . وهي قراءة الحسن وأبي رجاء والأعمش وعيسى وطلحة وهو بمعنى المسالمة . وقال الحسن بن أبي الحسن وفرقة ممن كسر السين إنه بمعنى إلى الإسلام ، أي لا تهنوا وتكونوا داعين إلى الإسلام فقط دون مقاتلين بسببه . وقال قتادة معنى الآية : لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت للأخرى .
قال القاضي أبو محمد : وهذا حسن ملتئم مع قوله : { وإن جنحوا للسلم فاجنح لها }{[10387]} [ الأنفال : 61 ] .
وقوله : { وأنتم الأعلون } يحتمل موضعين أحدهما : أن يكون في موضع الحال ، المعنى : لا تهنوا وأنتم في هذه الحال . والمعنى الثاني : أن يكون إخباراً بنصره ومعونته . و «يتر » ، معناه ينقص ويذهب ، ومنه قوله عليه السلام : «من ترك صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله »{[10388]} أي ذهب بجميع ذلك على جهة التغلب والقهر ، والمعنى : لن يتركم ثواب أعمالكم وجزاء أعمالكم . واللفظة مأخوذة من الوتر الذي هو الذحل{[10389]} ، وذهب قوم إلى أنه مأخوذ من الوتر الذي هو الفرد{[10390]} ، المعنى لن يفردكم من ثواب أعمالكم ، والأول أصح ، وفسر ابن عباس وأصحابه { يتركم } بيظلمكم .