مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{فَلَا تَهِنُواْ وَتَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱلسَّلۡمِ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ وَٱللَّهُ مَعَكُمۡ وَلَن يَتِرَكُمۡ أَعۡمَٰلَكُمۡ} (35)

قوله تعالى { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم } .

لما بين أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات محبط ، وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور ، بين أن لا حرمة في الدنيا ولا في الآخرة ، وقد أمر الله تعالى بطاعة الرسول بقوله { وأطيعوا الرسول } وأمر بالقتال بقوله { فلا تهنوا } أي لا تضعفوا بعد ما وجد السبب في الجد في الأمر والاجتهاد في الجهاد فقاله { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم } وفي الآيات ترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأن قوله { أطيعوا الله وأطيعوا الرسول } يقتضي السعي في القتال لأن أمر الله وأمر الرسول ورد بالجهاد وقد أمروا بالطاعة ، فذلك يقتضي أن لا يضعف المكلف ولا يكسل ولا يهن ولا يتهاون ، ثم إن بعد المقتضي قد يتحقق مانع ولا يتحقق المسبب ، والمانع من القتال إما أخروي وإما دنيوي ، فذكر الأخروي وهو أن الكافر لا حرمة له في الدنيا والآخرة ، لأنه لا عمل له في الدنيا ولا مغفرة له في الآخرة ، فإذا وجد السبب ولم يوجد المانع ينبغي أن يتحقق المسبب ، ولم يقدم المانع الدنيوي على قوله { فلا تهنوا } إشارة إلى أن الأمور الدنيوية لا ينبغي أن تكون مانعة من الإتيان ، فلا تهنوا فإن لكم النصر ، أو عليكم بالعزيمة على تقدير الاعتزام للهزيمة .

ثم قال تعالى بعد ذلك المانع الدنيوي مع أنه لا ينبغي أن يكون مانعا ليس بموجود أيضا حيث { أنتم الأعلون } والأعلون والمصطفون في الجمع حالة الرفع معلوم الأصل ، ومعلوم أن الأمر كيف آل إلى هذه الصيغة في التصريف ، وذلك لأن أصله في الجمع الموافق أعليون ومصطفيون فسكنت الياء لكونها حرف علة فتحرك ما قبلها والواو كانت ساكنة فالتقى ساكنان ولم يكن بد من حذف أحدهما أو تحريكه والتحريك كان يوقع في المحذور الذي اجتنب منه فوجب الحذف ، والواو كانت فيه لمعنى لا يستفاد إلا منها وهو الجمع فأسقطت الياء وبقي أعلون ، وبهذا الدليل صار في الجر أعلين ومصطفين ، وقوله تعالى : { والله معكم } هداية وإرشاد يمنع الملكف من الإعجاب بنفسه ، وذلك لأنه تعالى لما قال : { وأنتم الأعلون } كان ذلك سبب الافتخار فقال : { والله معكم } يعني ليس ذلك من أنفسكم بل من الله ، أو نقول لما قال : { وأنتم الأعلون } فكان المؤمنون يرون ضعف أنفسهم وقلتهم مع كثرة الكفار وشوكتهم وكان يقع في نفس بعضهم أنهم كيف يكون لهم الغلبة فقال إن الله معكم لا يبقى لكم شك ولا ارتياب في أن الغلبة لكم وهذا كقوله تعالى : { لأغلبن أنا ورسلي } وقوله { وإن جندنا لهم الغالبون } وقوله { ولن يتركم أعمالكم } وعد آخر وذلك لأن الله لما قال إن الله معكم ، كان فيه أن النصرة بالله لا بكم فكان القائل يقول لم يصدر مني عمل له اعتبار فلا أستحق تعظيما ، فقال هو ينصركم ومع ذلك لا ينقص من أعمالكم شيئا ، ويجعل كأن النصرة جعلت بكم ومنكم فكأنكم مستقلون في ذلك ويعطيكم أجر المستبد ، والترة النقص ، ومنه الموتر كأنه نقص منه ما يشفعه ، ويقول عند القتال إن قتل من الكافرين أحد فقد وتروا في أهلهم وعملهم حيث نقص عددهم وضاع عملهم ، والمؤمن إن قتل فإنما ينقص من عدده ولم ينقص من عمله ، وكيف ولم ينقص من عدده أيضا ، فإنه حي مرزوق ، فرح بما هو إليه مسوق .