معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

قوله تعالى : { فأجاءها } ، أي ألجأها وجاء بها ، { المخاض } ، وهو وجع الولادة ، { إلى جذع النخلة } وكانت نخلة يابسة في الصحراء ، في شدة الشتاء ، لم يكن لها سعف . وقيل : التجأت إليها لتستند إليها وتتمسك بها على وجع الولادة ، { قالت يا ليتني مت قبل هذا } ، تمنت الموت استحياءً من الناس وخوف الفضيحة ، { وكنت نسياً } ، قرأ حمزة و حفص نسياً بفتح النون ، والباقون بكسرها ، وهما لغتان ، مثل : الوتر ، والوتر ، والجسر والجسر ، وهو الشيء المنسي ، و النسي في اللغة : كل ما ألقي ونسي ولم يذكر لحقارته . { منسياً } ، أي : متروكاً قال قتادة : شيء لا يعرف ولا يذكر . قال عكرمة والضحاك ومجاهد : جيفة ملقاة . وقيل : تعني لم أخلق .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

ألجأها المخاض إلى جذع نخلة ، فلما آلمها وجع الولادة ، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب ، ووجع قلبها من قالة الناس ، وخافت عدم صبرها ، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث ، وكانت نسيا منسيا فلا تذكر .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

ثم حكى - سبحانه - ما اعتراها من حزن عندما أحست بقرب الولادة فقال : { فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } .

وقوله : { فَأَجَآءَهَا } أى : فألجأها ، يقال : أجأته إلى كذا ، بمعنى : ألجأته واضطرته إليه . ويقال : جاء فلان . وأجاءه غيره ، إذا حمله على المجىء ، ومنه قول الشاعر :

وجارٍ سارَ معتمداً علينا . . . أجاءته المخافة والرجاء

قال صاحب الكشاف : " أجاء : منقول من جاء ، إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى الإلجاء . ألا تراك تقول : جئت المكان وأجاءنيه زيد ، كما تقول : بلغته وأبلغنيه . . " .

والمخاض : وجع الولادة . يقال : مخضت المرأة - بكسر الخاء - تمخض - بفتحها - إذا دنا وقت ولادتها مأخوذ من المخض ، وهو الحركة الشديدة ، وسمى بذلك لشدة تحرك الجنين فى بطن الأم عند قرب خروجه .

وجذع النخلة : ساقها الذى تقوم عليه .

أى : وبعد أن حملت مريم بعيسى ، وابتعدت به - وهو محمول فى بطنها - عن قومها ، وحان وقت ولادتها . ألجأها المخاض إلى جذع النخلة لنتكىء عليه عند الولادة . . .

فاعتراها فى تلك الساعة ما اعتراها من هم وحزن وقالت : { ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } الحمل والمخاض الذى حل بى { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } أى : وكنت شيئاً منسياً متروكاً ، لا يهتم به أحد ، وكل شىء نُسى وترك ولم يطلب فهو نَسْىٌ ونسِيُّ .

قال القرطبى : " والنِّسْىُ فى كلام العرب : الشىء الحقير الذى من شأنه أن ينسى ولا يتألم لفقده كالوتد ، والحبل للمسافر ، وقرىء : { نَسْياً } بكسر النون وهما لغتان مثل : الوِتر والوَتر . . . " .

قال الآلوسى ما ملخصه : " وإنما قالت ذلك مع أنها كانت تعلم ما جرى بينها وبين جبريل من الوعد الكريم ، استحياء من الناس ، وخوفاً من لائمتهم ، أو حذرا من وقوع الناس فى المعصية بسبب كلامهم فى شأنها .

وتمنى الموت لمثل ذلك لا كراهة فيه - لأنه يتعلق بأمر دينى - نعم يكره أن يتمنى المرء الموت لأمر دنيوى كمرض أو فقر . . . ففى صحيح مسلم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لا يتمنين أحدكم الموت لضرر نزل به ، فإن كان لا بد متمنيا فليقل : الله أحينى ما كانت الحياة خيراً لى ، وتوفنى إذا كانت الوفاة خيراً لى " .

ومن ظن أن تمنى مريم الموت كان لشدة الوجع فقد اساء الظن .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

16

فلئن كانت في الموقف الأول تواجه الحصانة والتربية والأخلاق ، بينها وبين نفسها ، فهي هنا وشيكة أن تواجه المجتمع بالفضيحة . ثم هي تواجه الآلام الجسدية بجانب الآلام النفسية . تواجه المخاض الذي( أجاءها )إجاءة إلى جذع النخلة ، واضطرها اضطرارا إلى الاستناد عليها . وهي وحيدة فريدة ، تعاني حيرة العذراء في أول مخاض ، ولا علم لها بشيء ، ولا معين لها في شيء . . فإذا هي قالت : ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا )فإننا لنكاد نرى ملامحها ، ونحس اضطراب خواطرها ، ونلمس مواقع الألم فيها . وهي تتمنى لو كانت( نسيا ) : تلك الخرقة التي تتخذ لدم الحيض ، ثم تلقى بعد ذلك وتنسى !

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

{ فأجاءها المخاض } فألجأها المخاض ، وهو في الأصل منقول من جاء لكنه خص به في الاستعمال كآتي في أعطى وقرئ المخاض بالكسر وهما مصدر مخضت المرأة إذا تحرك الولد في بطنها للخروج . { إلى جذع النخلة } لتستتر به وتعتمد عليه عند الولادة وهو ما بين العرق والغصن وكانت نخلة يابسة لا رأس لها ولا خضرة وكان الوقت شتاء ، والتعريف إما للجنس أو للعهد إذ لم يكن ثم غيرها وكانت كالمتعالم عند الناس ، ولعله تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها ويطعمها الرطب الذي هو خرسة النفساء الموافقة لها . { قالت يا ليتني مت قبل هذا } استحياء من الناس ومخافة لومهم ، وقرأ أبو عمرو وابن كثير وابن عامر وأبو بكر { مت } من مات يموت وكنت نسيا ما من شأنه أن ينسى ولا يطلب ونظيره الذبح لما يذبح وقرأ حمزة وحفص بالفتح وهو لغة فيه أو مصدر سمي به وقرئ به وبالهمز وهو الحليب المخلوط بالماء ينسؤه لقلته { منسيا } منسي الذكر بحيث لا يخطر ببالهم وقرئ بكسر الميم على الاتباع .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

الفاء في قوله : { فَأَجَاءَها المَخَاضُ } للتعقيب العُرفي ، أي جاءها المخاض بعد تمام مدة الحمل ، قيل بعد ثمانية أشهر من حملها .

و { أجَاءها } معناه ألْجأها ، وأصله جاء ، عدي بالهمزة فقيل : أجاءه ، أي جعله جائياً . ثم أطلق مجازاً على إلجاء شيء شيئاً إلى شيء ، كأنه يجيء به إلى ذلك الشيء ، ويضطره إلى المجيء إليه . قال الفراء : أصله من جئتُ وقد جعلته العرب إلْجاء . وفي المثل شرّ ما يُجيئك إلى مُخّة عرْقُوب . وقال زهير :

وجارٍ سارَ معتمداً إلينا *** أجَاءته المخافةُ والرجاء

والمَخاض بفتح الميم : طَلق الحامل ، وهو تحرك الجنين للخروج .

والجذع بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة : العود الأصلي للنخلة الذي يتفرع منه الجريد . وهو ما بين العروق والأغصان ، أي إلى أصل نخلة استندت إليه .

وجملة { قَالَتْ } استئناف بياني ، لأن السامع يتشوف إلى معرفة حالها عند إبان وضع حملها بعدما كان أمرها مستتراً غير مكشوف بين الناس وقد آن أن ينكشف ، فيجاب السامع بأنها تمنت الموت قبل ذلك ؛ فهي في حالة من الحزن ترى أن الموت أهون عليها من الوقوع فيها .

وهذا دليل على مقام صبرها وصدقها في تلقي البلوى التي ابتلاها الله تعالى فلذلك كانت في مقام الصديقية .

والمشار إليه في قولها { قبل هذا } هو الحمل . أرادتْ أن لا يُتطرق عِرضها بطعن ولا تجرّ على أهلها معرة . ولم تتمن أن تكون ماتت بعد بدوّ الحمل لأن الموت حينئذ لا يدفع الطعن في عرضها بعد موتها ولا المعرة على أهلها إذ يشاهد أهلها بطنها بحملها وهي ميتة فتطرقها القالة .

وقرأ الجمهور { مِتّ } بكسر الميم للوجه الذي تقدم في قوله تعالى : { ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم } في سورة آل عمران ( 157 ) . وقرأه ابن كثير ، وابن عامر ، وأبو عمرو ، وعاصم ، وأبو جعفر بضم الميم على الأصل . وهما لغتان في فعل مات إذا اتّصل به ضمير رفع متصل .

والنِسْيُ بكسر النون وسكون السين } في قراءة الجمهور : الشيء الحقير الذي شأنه أن يُنسى ، ووزن فِعْل يأتي بمعنى اسم المفعول بقيْد تهيئته لتعلّق الفعل به دون تعلق حصل .

وذلك مثل الذبح في قوله تعالى : { وفديناه بذبح عظيم } [ الصافات : 107 ] ، أي كبش عظيم معدّ لأن يذبح ، فلا يقال للكبش ذبح إلا إذا أعد للذبح ، ولا يقال للمذبوح ذبح بل ذَبيح . والعرب تسمي الأشياء التي يغلب إهمالها أنْسَاءً ، ويقولون عند الارتحال : انظروا أنساءكم ، أي الأشياء التي شأنكم أن تَنْسَوها .

ووصف النسي بمنسي مبالغة في نسيان ذكرها ، أي ليتني كنت شيئاً غير متذكّر وقد نسيه أهله وتركوه فلا يلتفتون إلى ما يحل به ، فهي تمنت الموت وانقطاع ذكرها بين أهلها من قبل ذلك .

وقرأه حمزة ، وحفص ، وخلف { نَسْياً بفتح النون وهو لغة في النِّسي ، كالوتر والوتر ، والجسر والجسر .