جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

وقوله : فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ يقول تعالى ذكره : فجاء بها المخاض إلى جذع النخلة ، ثم قيل : لما أسقطت الباء منه أجاءها ، كما يقال : أتيتك بزيد ، فإذا حذفت الباء قيل آتيتك زيدا ، كما قال جلّ ثناؤه : آتُونِي زُبُرَ الحَدِيدِ والمعنى : ائتوني بزُبَر الحديد ، ولكن الألف مُدّت لما حذفت الباء ، وكما قالوا : خرجت به وأخرجته ، وذهبت به وأذهبته ، وإنما هو أفعل من المجيء ، كما يقال : جاء هو ، وأجأته أنا : أي جئت به ، ومثل من أمثال العرب : «شرّ ما أجاءني إلى مُخّة عرقوب » ، وأشاء ويقال : شرّ ما يُجِيئك ويُشِيئك إلى ذلك ومنه قول زهير :

وَجارٍ سارَ مُعْتَمِدا إلَيْكُمْ *** أجاءَتْهُ المَحافَةُ وَالرّجاءُ

يعني : جاء به ، وأجاءه إلينا وأشاءك : من لغة تميم ، وأجاءك من لغة أهل العالية ، وإنما تأوّل من تأوّل ذلك بمعنى : ألجأها ، لأن المخاض لما جاءها إلى جذع النخلة ، كان قد ألجأها إليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فأجاءَها المَخاضُ قال : المخاض ألجأها .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، قال : ألجأها المخاض . قال ابن جريج : وقال ابن عباس : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ يقول : ألجأها المخاض إلى جذع النخلة .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فأجاءَها المَخاضُ إلى جِذْعِ النّخْلَةِ قال : اضطرّها إلى جذع النخلة .

واختلفوا في أيّ المكان الذي انتبذتْ مريم بعيسى لوضعه ، وأجاءها إليه المخاض ، فقال بعضهم : كان ذلك في أدنى أرض مصر ، وآخر أرض الشام ، وذلك أنها هربت من قومها لما حملت ، فتوجهت نحو مصر هاربة منهم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن سهل ، قال : حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم ، قال : ثني عبد الصمد بن معقِل ، أنه سمع وهب بن منبه يقول : لما اشتملت مريم على الحمل ، كان معها قَرابة لها ، يقال له يوسف النجّار ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند جبل صِهْيَون ، وكان ذلك المسجد يؤمئذ من أعظم مساجدهم ، فكانت مريم ويوسف يخدمان في ذلك المسجد ، في ذلك الزمان ، وكان لخدمته فضل عظيم ، فرغبا في ذلك ، فكانا يليان معالجته بأنفسهما ، تحبيره وكناسته وطهوره ، وكلّ عمل يعمل فيه ، وكان لا يعمل من أهل زمانهما أحد أشدّ اجتهادا وعبادة منهما ، فكان أوّل من أنكر حَمْل مريم صاحُبها يوسف فلما رأى الذي بها استفظعه ، وعظُم عليه ، وفُظِع به ، فلم يدر على ماذا يضع أمرها ، فإذا أراد يوسف أن يتهمها ، ذكر صلاحها وبراءتها ، وأنها لم تغب عنه ساعة قطّ وإذا أراد أن يبرئها ، رأى الذي ظهر عليها فلما اشتدّ عليه ذلك كلّمها ، فكان أوّل كلامه إياها أن قال لها : إنه قد حدث في نفسي من أمرك أمر قد خشيته ، وقد حَرَصت على أن أميته وأكتمه في نفسي ، فغلبني ذلك ، فرأيت الكلام فيه أشفى لصدري ، قالت : فقل قولاً جميلاً ، قال : ما كنت لأقول لك إلا ذلك ، فحدثيني ، هل ينبت زرع بغير بذر ؟ قالت : نعم ، قال : فهل تنبت شجرة من غير غيث يصيبها ؟ قالت : نعم ، قال : فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت : نعم ، ألم تعلم أن الله تبارك وتعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ، والبذر يومئذ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر أو لم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث ، وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة للشجر بعد ما خلق كلّ واحد منهما وحده ، أم تقول : لن يقدر الله على أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء ، ولولا ذلك لم يقدر على إنباته ؟ قال يوسف لها : لا أقول هذا ، ولكني أعلم أن الله تبارك وتعالى بقدرته على ما يشاء يقول لذلك كن فيكون ، قالت مريم : أو لم تعلم أن الله تبارك وتعالى خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر ؟ قال : بلى ، فلما قالت له ذلك ، وقع في نفسه أن الذي بها شيء من الله تبارك وتعالى ، وأنه لا يسعه أن يسألها عنه ، وذلك لما رأى من كتمانها لذلك .

ثم تولى يوسف خدمة المسجد ، وكفاها كلّ عمل كانت تعمل فيه ، وذلك لما رأى من رقة جسمها ، واصفرار لونها ، وكلف وجهها ، ونتوّ بطنها ، وضعف قوّتها ، ودأب نظرها ، ولم تكن مريم قبل ذلك كذلك فلما دنا نفاسها أوحى الله إليها أن اخرجي من أرض قومك ، فإنهم إن ظفروا بك عيروك ، وقتلوا ولدك ، فأفضت ذلك إلى أختها ، وأختها حينئذ حُبلى ، وقد بشرت بيحيى ، فلما التقيا وجدت أمّ يحيى ما في بطنها خرّ لوجهه ساجدا معترفا لعيسى ، فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ليس بينها حين ركبت وبين الإكاف شيء ، فانطلق يوسف بها حتى إذا كان متاخما لأرض مصر في منقطع بلاد قومها ، أدرك مريم النفاس ، ألجأها إلى آريّ حمار ، يعني مذود الحمار ، وأصل نخلة ، وذلك في زمان أحسبه بردا أو حرّا «الشكّ من أبي جعفر » ، فاشتدّ على مريم المخاض فلما وجدت منه شدّة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة ، قاموا صفوفا محدقين بها .

وقد رُوي عن وهب بن منبه قول آخر غير هذا ، وذلك ما :

حدثنا به ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عمن لايتهم ، عن وهب بن منبه ، قال : لما حضر ولادُها ، يعني مريم ، ووجدت ما تجد المرأة من الطلق ، خرجت من المدينة مغربة من إيلياء ، حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على ستة أميال يقال لها بيت لحم ، فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود بقرة تحتها ربيع من الماء ، فوضعته عندها .

وقال آخرون : بل خرجت لما حضر وضعها ما في بطنها إلى جانب المحراب الشرقي منه ، فأتت أقصاه فألجأها المخاض إلى جِذع النخلة ، وذلك قول السدي ، وقد ذكرت الرواية به قبل .

حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة ، قال : حدثنا حجاج ، قال : قال ابن جريج : أخبرني المغيرة بن عثمان ، قال : سمعت ابن عباس يقول : ما هي إلا أن حملت فوضعت .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : وأخبرني المغيرة بن عثمان بن عبد الله أنه سمع ابن عباس يقول : ليس إلا أن حملتْ فولدتْ .

وقوله : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا ذكر أنها قالت ذلك في حال الطلق استحياء من الناس ، كما :

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : قالت وهي تطلق من الحبل استحياء من الناس : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا .

تقول : يا ليتني متّ قبل هذا الكرب الذي أنا فيه ، والحزن بولادتي المولود من غير بَعْل ، وكنت نِسيا منسيا : شيئا نُسي فُترك طلبه كخرق الحيض التي إذا ألقيت وطرحت لم تطلب ولم تذكر ، وكذلك كل شيء نسي وترك ولم يطلب فهو نسيّ . ونسي بفتح النون وكسرها لغتان معروفتان من لغات العرب بمعنى واحد ، مثل الوَتر والوِتر ، والجَسر والجِسر ، وبأيتهما قرأ القاريء فمصيب عندنا وبالكسر قرأت عامة قرّاء الحجاز والمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة وبالفتح قرأه أهل الكوفة ومنه قول الشاعر :

كأنّ لَهَا فِي الأرْضِ نِسْيا تَقُصّهُ *** إذَا ما غَدَتْ وَإنْ تُحَدّثْكَ تَبْلَتِ

ويعني بقوله : تقصه : تطلبه ، لأنها كانت نسيته حتى ضاع ، ثم ذكرته فطلبته ، ويعني بقوله : تبلت : تحسن وتصدّق ، ولو وجه النسي إلى المصدر من النسيان كان صوابا ، وذلك أن العرب فيما ذكر عنها تقول : نسيته نسيانا ونسيا ، كما قال بعضهم من طاعة الربّ وعصي الشيطان ، يعني وعصيان ، وكما تقول أتيته إتيانا وأتيا ، كما قال الشاعر :

أَتُي الفَوَاحِشِ فِيهِمُ مَعْرُوفَةٌ *** ويَرَوْنَ فِعْلَ المَكْرُماتِ حَرَامَا

وقوله مَنْسِيّا مفعول من نسيت الشيء كأنها قالت : ليتني كنت الشيء الذي ألقي ، فترك ونسي .

وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني عطاء الخراساني عن ابن عباس ، قوله : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لم أخلق ، ولم أك شيئا .

حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا يقول : نِسيا : نُسي ذكري ، ومنسيا : تقول : نسي أثري ، فلا يُرى لي أثر ولا عين .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا : أي شيئا لا يعرف ولا يذكر .

حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، قوله وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا قال : لا أعرف ولا يدري من أنا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن أبي جعفر ، عن الربيع بن أنس نَسْيا مَنْسِيّا قال : هو السقط .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : يا لَيْتَنِي مِتّ قَبْلَ هَذَا وكُنْتُ نَسْيا مَنْسِيّا لم أكن في الأرض شيئا قط .