اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

قوله تعالى : { فَأَجَآءَهَا } : الأصلُ في " جَاءَ " : أنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه ، فإذا دلت عليه الهمزة ، كان القياسُ يقتضي تعدِّه لاثنين ، قال الزمخشريُّ : " إلاَّ أنَّ استعماله قد تغيَّر بعد النَّقْل إلى معنى الإلجاء ، ألا تراك لا تقول : جئتُ المكانَ ، وأجاءنيه زيدٌ ؛ كما تقولُ : بلغتهُ وأبلغنيه ، ونظيرهُ " آتى " حيثُ لم يستعمل إلا في الإعطاء ، ولم تقل : أتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ " .

وقال أبو البقاء{[21505]} : الأصلُ " جَاءَهَا " ثم عُدِّي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ ، واستعمل بمعنى " ألْجَأها " .

قال أبو حيَّان : قوله : إنَّ " أجَاءَهَا " [ استعمل ]{[21506]} بمعنى " ألْجَأهَا " يحتاجُ إلى نقل أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك من لسانِ العرب ، والإجاءةُ تدلُّ على المُطلقِ ، فتصلحُ لما هو بمعنى " الإلْجَاءِ " ولما هو بمعنى " الاختيار " كما تقول : " أقَمْتُ زَيْداً " فإنه يصلحُ أن تكون إقامتك لهُ قَسْراً أو اختياراً ، وأمَّا قوله : { ألا تراكَ لا تقُولُ } إلى آخره ، فمن رأى أنَّ التعدية بالهمزة قاسٌ ، أجاز ذلك ، وإن لم يسمعْ ، ومن منع ، فقد سمع ذلك في " جَاءَ " فيجيزُ ذلك ، وأمَّا تنظيهُ ذلك ب " أتى " فليس تنظيراً صحيحاً ؛ لأنَّه بناهُ على أنَّ همزته للتعدية ، وأنَّ أصله " آتى " بل " آتى " ممَّا بُنِي على " أفْعَل " ولو كان منقولاً من " أتى " المتعدِّي لواحد ، لكان ذلك الواحدُ هو المفعول الثاني ، والفاعل هو الأوَّل ، إذا عدَّيته بالهمزة ، تقولُ : " أتى المالُ زيداً " و " آتى عمروٌ زيداً المالَ " فيختلفُ التركيبُ بالتعدية ؛ لأنَّ " زَيْداً " عند النحويِّين هو المفعول الأول ، و " المال " هو المفعولُ الثاني ، وعلى ما ذكره الزمخشريُّ ، كان يكون العكس ، فدلَّ على أنَّه ليس ما قاله ، وأيضاً ، ف " أتى " مرادفٌ ل " أعْطَى " ، فهو مخالفٌ من حيثُ الدلالة في المعنى ، وقوله : " ولمْ تَقُل : أتَيْتُ المكانَ ، وآتانيه " هذا غيرُ مسلمٍ ، بل تقول : " أتَيْتُ المَكَانَ " كما تقول : " جِئْتُ المكانَ " وقال الشاعر : [ الوافر ]

أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ منُونَ أنتُمْ *** فقالُوا الجِنُّ قُلتُ عَمُوا ظَلامَا{[21507]}

ومن رأى التعدية بالهمزةِ قياساً ، قال : " آتانيه " قال شهاب الدين : وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ -رحمه الله- معه ظاهرةُ الأجوبة ، فلا نُطَوِّلُ بذكرها .

وقرأ الجمهورُ " فأجَاءَهَا " أي : ألْجَأهَا وساقها ، ومنه قوله : [ الوافر ]

وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُمْ *** أجَاءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ{[21508]}

وقرأ{[21509]} حمَّادُ بن سلمة " فاجَأهَا " بألفٍ بعد الفاء ، وهمزة بعد الجيم ، من المفاجأة ، بزنة " قابلها " ويقرأ{[21510]} بألفين صريحتين ؛ كأنهم خَفَّفُوا الهمزة بعد الجيمِ ، وبذلك رُويتْ بَيْنَ بَيْنَ .

والجمهورُ على فتح الميم من " المَخَاض " وهو وجعُ الولادةِ ، ورُوِيَ عن ابن كثير{[21511]} بكسر الميم ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : المفتوح : اسمُ مصدر ؛ كالعطاءِ والسلامِ ، والمكسورُ مصدرٌ ؛ كالقتال واللِّقاء ، والفعالُ : قد جاء من واحد ؛ كالعقابِ والطِّرَاقِ ، قاله أبو البقاء{[21512]} ، والميم أصليةٌ ؛ لأنه من " تَمخَّضتِ الحامِلُ تَتَمخَّضُ " .

و " إلى جذْعِ " يتعلق في قراءة العامَّة ب " أجَاءَهَا " أي : ساقها إليه .

وفي قراءة حمَّاد بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ من المفعول ، أي : فاجأها مستندةً إلى جذْع النَّخْلةِ .

فصل في معنى الآية

المعنى : ألْجَأهَا المخاض ، وهو وجعُ الولادةِ إلى جذْعِ النَّخْلَة ؛ لتستند إليها ، وتتمسَّك بها عمد وجع الولادة ، وكانت نخلة يابسةً في الصحراء في شدَّة الشِّتاء ، ولم يكُن لها سعفٌ ، ولا خُضْرة ، والتعريف فيها : إمَّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة ؛ كتعريف النّجم [ والصَّعق ]{[21513]} أو كانت تلك الصَّحراء كان فيها جذْع نخلة مشهورٌ عند النَّاس .

فإن قيل : جذعُ النَّخْلة فهم منه ذلك دون سائره ، وإمَّا يكون تعريف الجنْسِ ، أي : إلى جذْعِ هذه الشَّجرة خاصَّةً ؛ كأنَّ الله تعالى أرشدها إلى النَّخْلة ؛ ليُطعمَها منها الرُّطب الذي هو أشبه الأشياء موافقة للنُّفساء ، ولأنَّ النخلة أشدُّ الأشياء صَبْراً على البَرْد ، ولا تُثْمِرُ إلاَّ عند اللِّقاح ، وإذا قُطِعَ رأسُها ، لم تُثْمِرْ ، فكأنَّ الله تعالى قال : كما أنَّ الأنثى لا تلدُ إلاَّ مع الذَّكر ، فكذا النَّخلة لا تُثْمِر إلا باللِّقاح ، ثم إنَّه أظهر الرُّطب من غيْر اللِّقَاح ؛ ليدلَّ ذلك على جواز ظُهُور الولد من غير ذكر . { قَالَتْ يا ليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } تمنَّت الموت .

فإن قيل : كيف تمنَّت الموت مع أنها كانت تعلم أنَّ الله تعالى بعث جبريل -صلوات الله عليه- ووعدها بأنْ يجعلها وولدها آيةً للعالمين .

فالجوابُ من وجوه :

الأول : تمنَّت الموت استحياءً من النَّاس ، فأنْسَاها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى -صلوات الله عليه- .

الثاني : أنَّ عادة الصَّالحين -رضي الله تعالى عنهم- إذا وقعُوا في بلاءٍ : أن يقُولُوا ذلك ، كما رُوِيَ عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه [ نظر إلى طائرٍ ]{[21514]} على شجرة ، فقال : طُوبى لَكَ ، يا طَائِر ؛ تقعُ على الشَّجرِ ، وتأكُلُ من الثَّمَر ، وددت أنِّي ثمرةٌ يَنْقُرهَا الطَّائِرُ{[21515]} .

وعن عُمر -رضي الله عنه- أنَّه أخذ تبنة من الأرض ، فقال : يا لَيْتَنِي هذه التَّبْنَةُ ، يا لَيْتَنِي لم أكُنْ شيئاً{[21516]} .

وعن عليٍّ كُرِّم وجهه يوم الجمل : لَيْتَنِي مِتُّ قبل هذا اليومِ بعشرين سنة{[21517]} .

وعن بلالٍ -رضي الله عنه- : ليت بلالاً لم تلدهُ أمهُ{[21518]} .

فثبت أنَّ هذا الكلام يذكُرُه الصَّالحون عند اشتداد الأمْرِ عليهم .

الثالث : -لعلَّها قالت ذلك ؛ لئلاَّ تقع المعصيةُ ممن يتكلَّم فيها ، وإلاَّ فهي راضيةٌ بما بُشِّرَتْ به .

قوله تعالى : { نَسْياً } الجمهور على النون وسكون السين ، وبصريح الياء بعدها ، وقرأ{[21519]} حمزة وحفص وجماعة بفتح النون ، فالمكسور " فِعْل " بمعنى " مَفْعُولٍ " كالذَّبح والطَّحن ، ومعناه الشيء الحقيرُ الذي من شأنه أن ينسى ؛ كالوتد ، والحبلِ ، وخرقةِ الطَّمْثِ ، ونحوها . تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه له من حقّه أن ينسى عادة .

قال ابن الأنباري -رحمه الله- : " من كسر فهو اسمٌ لما يُنسى ، كالنَّقص ؛ اسمٌ لما ينقصُ ، والمفتوحُ : مصدرٌ يسدُّ مسدَّ الوصف " وقال في الفرَّاء : هما لغتان ؛ كالوَتْر والوِتْر ، والكسرُ أحَبُّ إليَّ " .

وقرأ محمدُ بنُ كعب القرظيُّ " نِسْئاً " بكسر{[21520]} النون ، والهمزةُ بدل الياء ، وروي عنه أيضاً ، وعن بكر بن حبيب{[21521]} السهميِّ فتحُ النون مع الهمزة ، قالوا : وهو من نسأتُ اللَّبن ، إذا صببت فيه ماءً ، فاستهلك فيه ، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيء المستهلك ، والمفتوحُ مصدرٌ ؛ كما كان ذلك من النِّسيانِ .

ونقل ابن عطيَّة عن بكر بن حبيبٍ " نَساً " بفتح النون ، والسين ، والقصر ؛ ك " عَصاً " ، كأنه جعل فعلاً بمعنى مفعولٍ ؛ كالقبضِ بمعنى المقبوض .

و " منْسِيًّا " نعتٌ على المبالغة ، وأصله " مَنْسُويٌ " فأدغم ، وقرأ{[21522]} أبو جعفرٍ ، والأعمشُ " مِنْسيًّا " بكسر الميم ؛ للإتباع لكسرة السين ، ولم يعتدُّوا بالساكن ؛ لأنه حاجزٌ غير حصينٍ ؛ كقولهم : " مِنْتِنٌ " و " مِنْخِرٌ " ، والمقبرة والمحبرة .


[21505]:ينظر: الإملاء 2/112.
[21506]:سقط من أ.
[21507]:البيت لشمر بن الحارث وقيل لغيره ينظر: شواهد الكتاب 2/411، الخصائص 1/129، المقتضب 2/306، شرح المفصل لابن يعيش 2/257، الأشموني 4/91، المقرب 1/300، الهمع 2/257، التصريح 2/283، البحر 6/172، الدر المصون 4/498.
[21508]:البيت لزهير. ينظر: ديوانه (29) شرح ديوان الحماسة 1/302، البحر 6/172، القرطبي 11/63، مجاز القرآن 2/4، روح المعاني 16/81، الدر المصون 4/498.
[21509]:ينظر في قراءاتها: المحتسب 2/39، والشواذ 84، والقرطبي 11/63، والبحر 6/172، والدر المصون 4/497.
[21510]:نسبها ابن خالويه في الشواذ إلى حماد بن سليمان عن عاصم.
[21511]:ينظر: القرطبي 11/63، والبحر 6/172، والدر المصون 4/498.
[21512]:ينظر: الإملاء 2/112.
[21513]:في ب: وابن الصعق.
[21514]:في ب: رأى طائرا.
[21515]:ذكره الرازي في "تفسيره" (21/173).
[21516]:ذكره الرازي في "تفسيره" (21/173، 174).
[21517]:ذكره الرازي في "تفسيره" (21/174).
[21518]:ينظر: المصدر السابق.
[21519]:ينظر: السبعة 408، والنشر 2/318، والحجة 441، والتيسير 148، والحجة للقراء السبعة 5/196، وإعراب القراءات 2/15، والإتحاف 2/235.
[21520]:ينظر: المحتسب 2/40، والقرطبي 11/63، والبحر 6/172، والدر المصون 4/498.
[21521]:ينظر: القرطبي 11/63، والبحر 6/172، والدر المصون 4/498.
[21522]:ينظر: الكشاف 3/12، والبحر 6/173، والدر المصون 4/498.