قوله تعالى : { فَأَجَآءَهَا } : الأصلُ في " جَاءَ " : أنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه ، فإذا دلت عليه الهمزة ، كان القياسُ يقتضي تعدِّه لاثنين ، قال الزمخشريُّ : " إلاَّ أنَّ استعماله قد تغيَّر بعد النَّقْل إلى معنى الإلجاء ، ألا تراك لا تقول : جئتُ المكانَ ، وأجاءنيه زيدٌ ؛ كما تقولُ : بلغتهُ وأبلغنيه ، ونظيرهُ " آتى " حيثُ لم يستعمل إلا في الإعطاء ، ولم تقل : أتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ " .
وقال أبو البقاء{[21505]} : الأصلُ " جَاءَهَا " ثم عُدِّي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ ، واستعمل بمعنى " ألْجَأها " .
قال أبو حيَّان : قوله : إنَّ " أجَاءَهَا " [ استعمل ]{[21506]} بمعنى " ألْجَأهَا " يحتاجُ إلى نقل أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك من لسانِ العرب ، والإجاءةُ تدلُّ على المُطلقِ ، فتصلحُ لما هو بمعنى " الإلْجَاءِ " ولما هو بمعنى " الاختيار " كما تقول : " أقَمْتُ زَيْداً " فإنه يصلحُ أن تكون إقامتك لهُ قَسْراً أو اختياراً ، وأمَّا قوله : { ألا تراكَ لا تقُولُ } إلى آخره ، فمن رأى أنَّ التعدية بالهمزة قاسٌ ، أجاز ذلك ، وإن لم يسمعْ ، ومن منع ، فقد سمع ذلك في " جَاءَ " فيجيزُ ذلك ، وأمَّا تنظيهُ ذلك ب " أتى " فليس تنظيراً صحيحاً ؛ لأنَّه بناهُ على أنَّ همزته للتعدية ، وأنَّ أصله " آتى " بل " آتى " ممَّا بُنِي على " أفْعَل " ولو كان منقولاً من " أتى " المتعدِّي لواحد ، لكان ذلك الواحدُ هو المفعول الثاني ، والفاعل هو الأوَّل ، إذا عدَّيته بالهمزة ، تقولُ : " أتى المالُ زيداً " و " آتى عمروٌ زيداً المالَ " فيختلفُ التركيبُ بالتعدية ؛ لأنَّ " زَيْداً " عند النحويِّين هو المفعول الأول ، و " المال " هو المفعولُ الثاني ، وعلى ما ذكره الزمخشريُّ ، كان يكون العكس ، فدلَّ على أنَّه ليس ما قاله ، وأيضاً ، ف " أتى " مرادفٌ ل " أعْطَى " ، فهو مخالفٌ من حيثُ الدلالة في المعنى ، وقوله : " ولمْ تَقُل : أتَيْتُ المكانَ ، وآتانيه " هذا غيرُ مسلمٍ ، بل تقول : " أتَيْتُ المَكَانَ " كما تقول : " جِئْتُ المكانَ " وقال الشاعر : [ الوافر ]
أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ منُونَ أنتُمْ *** فقالُوا الجِنُّ قُلتُ عَمُوا ظَلامَا{[21507]}
ومن رأى التعدية بالهمزةِ قياساً ، قال : " آتانيه " قال شهاب الدين : وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ -رحمه الله- معه ظاهرةُ الأجوبة ، فلا نُطَوِّلُ بذكرها .
وقرأ الجمهورُ " فأجَاءَهَا " أي : ألْجَأهَا وساقها ، ومنه قوله : [ الوافر ]
وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُمْ *** أجَاءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ{[21508]}
وقرأ{[21509]} حمَّادُ بن سلمة " فاجَأهَا " بألفٍ بعد الفاء ، وهمزة بعد الجيم ، من المفاجأة ، بزنة " قابلها " ويقرأ{[21510]} بألفين صريحتين ؛ كأنهم خَفَّفُوا الهمزة بعد الجيمِ ، وبذلك رُويتْ بَيْنَ بَيْنَ .
والجمهورُ على فتح الميم من " المَخَاض " وهو وجعُ الولادةِ ، ورُوِيَ عن ابن كثير{[21511]} بكسر الميم ، فقيل : هما بمعنى ، وقيل : المفتوح : اسمُ مصدر ؛ كالعطاءِ والسلامِ ، والمكسورُ مصدرٌ ؛ كالقتال واللِّقاء ، والفعالُ : قد جاء من واحد ؛ كالعقابِ والطِّرَاقِ ، قاله أبو البقاء{[21512]} ، والميم أصليةٌ ؛ لأنه من " تَمخَّضتِ الحامِلُ تَتَمخَّضُ " .
و " إلى جذْعِ " يتعلق في قراءة العامَّة ب " أجَاءَهَا " أي : ساقها إليه .
وفي قراءة حمَّاد بمحذوفٍ ، لأنه حالٌ من المفعول ، أي : فاجأها مستندةً إلى جذْع النَّخْلةِ .
المعنى : ألْجَأهَا المخاض ، وهو وجعُ الولادةِ إلى جذْعِ النَّخْلَة ؛ لتستند إليها ، وتتمسَّك بها عمد وجع الولادة ، وكانت نخلة يابسةً في الصحراء في شدَّة الشِّتاء ، ولم يكُن لها سعفٌ ، ولا خُضْرة ، والتعريف فيها : إمَّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة ؛ كتعريف النّجم [ والصَّعق ]{[21513]} أو كانت تلك الصَّحراء كان فيها جذْع نخلة مشهورٌ عند النَّاس .
فإن قيل : جذعُ النَّخْلة فهم منه ذلك دون سائره ، وإمَّا يكون تعريف الجنْسِ ، أي : إلى جذْعِ هذه الشَّجرة خاصَّةً ؛ كأنَّ الله تعالى أرشدها إلى النَّخْلة ؛ ليُطعمَها منها الرُّطب الذي هو أشبه الأشياء موافقة للنُّفساء ، ولأنَّ النخلة أشدُّ الأشياء صَبْراً على البَرْد ، ولا تُثْمِرُ إلاَّ عند اللِّقاح ، وإذا قُطِعَ رأسُها ، لم تُثْمِرْ ، فكأنَّ الله تعالى قال : كما أنَّ الأنثى لا تلدُ إلاَّ مع الذَّكر ، فكذا النَّخلة لا تُثْمِر إلا باللِّقاح ، ثم إنَّه أظهر الرُّطب من غيْر اللِّقَاح ؛ ليدلَّ ذلك على جواز ظُهُور الولد من غير ذكر . { قَالَتْ يا ليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } تمنَّت الموت .
فإن قيل : كيف تمنَّت الموت مع أنها كانت تعلم أنَّ الله تعالى بعث جبريل -صلوات الله عليه- ووعدها بأنْ يجعلها وولدها آيةً للعالمين .
الأول : تمنَّت الموت استحياءً من النَّاس ، فأنْسَاها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى -صلوات الله عليه- .
الثاني : أنَّ عادة الصَّالحين -رضي الله تعالى عنهم- إذا وقعُوا في بلاءٍ : أن يقُولُوا ذلك ، كما رُوِيَ عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنه [ نظر إلى طائرٍ ]{[21514]} على شجرة ، فقال : طُوبى لَكَ ، يا طَائِر ؛ تقعُ على الشَّجرِ ، وتأكُلُ من الثَّمَر ، وددت أنِّي ثمرةٌ يَنْقُرهَا الطَّائِرُ{[21515]} .
وعن عُمر -رضي الله عنه- أنَّه أخذ تبنة من الأرض ، فقال : يا لَيْتَنِي هذه التَّبْنَةُ ، يا لَيْتَنِي لم أكُنْ شيئاً{[21516]} .
وعن عليٍّ كُرِّم وجهه يوم الجمل : لَيْتَنِي مِتُّ قبل هذا اليومِ بعشرين سنة{[21517]} .
وعن بلالٍ -رضي الله عنه- : ليت بلالاً لم تلدهُ أمهُ{[21518]} .
فثبت أنَّ هذا الكلام يذكُرُه الصَّالحون عند اشتداد الأمْرِ عليهم .
الثالث : -لعلَّها قالت ذلك ؛ لئلاَّ تقع المعصيةُ ممن يتكلَّم فيها ، وإلاَّ فهي راضيةٌ بما بُشِّرَتْ به .
قوله تعالى : { نَسْياً } الجمهور على النون وسكون السين ، وبصريح الياء بعدها ، وقرأ{[21519]} حمزة وحفص وجماعة بفتح النون ، فالمكسور " فِعْل " بمعنى " مَفْعُولٍ " كالذَّبح والطَّحن ، ومعناه الشيء الحقيرُ الذي من شأنه أن ينسى ؛ كالوتد ، والحبلِ ، وخرقةِ الطَّمْثِ ، ونحوها . تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه له من حقّه أن ينسى عادة .
قال ابن الأنباري -رحمه الله- : " من كسر فهو اسمٌ لما يُنسى ، كالنَّقص ؛ اسمٌ لما ينقصُ ، والمفتوحُ : مصدرٌ يسدُّ مسدَّ الوصف " وقال في الفرَّاء : هما لغتان ؛ كالوَتْر والوِتْر ، والكسرُ أحَبُّ إليَّ " .
وقرأ محمدُ بنُ كعب القرظيُّ " نِسْئاً " بكسر{[21520]} النون ، والهمزةُ بدل الياء ، وروي عنه أيضاً ، وعن بكر بن حبيب{[21521]} السهميِّ فتحُ النون مع الهمزة ، قالوا : وهو من نسأتُ اللَّبن ، إذا صببت فيه ماءً ، فاستهلك فيه ، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيء المستهلك ، والمفتوحُ مصدرٌ ؛ كما كان ذلك من النِّسيانِ .
ونقل ابن عطيَّة عن بكر بن حبيبٍ " نَساً " بفتح النون ، والسين ، والقصر ؛ ك " عَصاً " ، كأنه جعل فعلاً بمعنى مفعولٍ ؛ كالقبضِ بمعنى المقبوض .
و " منْسِيًّا " نعتٌ على المبالغة ، وأصله " مَنْسُويٌ " فأدغم ، وقرأ{[21522]} أبو جعفرٍ ، والأعمشُ " مِنْسيًّا " بكسر الميم ؛ للإتباع لكسرة السين ، ولم يعتدُّوا بالساكن ؛ لأنه حاجزٌ غير حصينٍ ؛ كقولهم : " مِنْتِنٌ " و " مِنْخِرٌ " ، والمقبرة والمحبرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.