الهداية إلى بلوغ النهاية لمكي بن ابي طالب - مكي ابن أبي طالب  
{فَأَجَآءَهَا ٱلۡمَخَاضُ إِلَىٰ جِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ قَالَتۡ يَٰلَيۡتَنِي مِتُّ قَبۡلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسۡيٗا مَّنسِيّٗا} (23)

قوله : { فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة }[ 22 ] . أي : جاء بها المخاض إلى جذع النخلة . والهمزة دخلت لتعاقب الباء{[44041]} .

قال{[44042]} ابن عباس ومجاهد والسدي : المعنى : ألجأها{[44043]} . و( المخاض ){[44044]} : ( الحمل ) .

وقال قتادة : { فأجاءها } ( اضطرها ){[44045]} .

وذكر بعض أهل الأخبار{[44046]} أنها اعتزلت ، وذهبت{[44047]} إلى أدنى{[44048]} أرض مصر ، وآخر{[44049]} أرض الشام . وذلك أنها هربت من قومها لما حملت ، فتوجهت نحو أرض مصر .

قال وهب بن منبه{[44050]} : ( لما اشتملت مريم على الحمل ، كان معها ذو قرابة لها يقال له يوسف النجار ، وكانا منطلقين إلى الجبل الذي عند صيهور{[44051]} ، وكان ذلك المسجد يومئذ{[44052]} من أعظم مساجدهم . وكان مريم ويوسف يخدمان في{[44053]} ذلك المسجد ، في ذلك الزمان ، وكان لخدمته فضل عظيم . فرغبا في ذلك . فكانا يليان معالجة ذلك بأنفسهما وتحبيره{[44054]} وكناسته{[44055]} ، وكل عمل يعمل فيه . وكان لا يعمل من أهل زمانها أحد أشد اجتهادا وعبادة منهما .

فكان أول من أنكر حمل مريم صاحبها يوسف . ولما{[44056]} رأى الذي بها ، استعظمه ، ولم يدر على ما يضع أمرها ، فإذا أراد يوسف أن يتهمها ، ذكر صلاحها وبراءتها ، وأنها لم تغب عنه ساعة قط/ ، وإذا أراد أن يبرئها رأى الذي ظهر عليها . فلما اشتد ذلك عليه كلمها . فكان أول كلامه إياها أن قال لها : إنه قد حدث في نفسي من أمرك أمر ، وقد خشيت ، وقد حرصت على أن أكتمه وأميته{[44057]} في نفسي ، فغلبني{[44058]} ذلك ، فرأيت أن الكلام أشفى فيه لصدري . قالت : فقل قولا جميلا . قال : ما كنت أقول لك إلا ذلك . فحدثيني{[44059]} هل ينبت زرع بغير بذر ؟ قالت : نعم . قال : فهل تنبت{[44060]} شجرة من غير غيث ؟ قالت : نعم . قال : فهل يكون ولد من غير ذكر ؟ قالت : نعم . ألم تعلم أن الله تعالى أنبت الزرع يوم خلقه من غير بذر ، والبذر يومئذ إنما صار من الزرع الذي أنبته الله من غير بذر ؟ أو لم تعلم أن الله بقدرته أنبت الشجر بغير غيث وأنه جعل بتلك القدرة الغيث حياة الشجر بعدما خلق كل واحد منهما وحده ؟ أو تقول : لن تقدر الله على{[44061]} أن ينبت الشجر حتى استعان عليه بالماء ؟ ولولا ذلك لم يقدر على إنباته ؟ قال يوسف : لا أقول هذا ، ولكني أعلم أن الله يقدر على ما{[44062]} يشاء يقول لذلك{[44063]} كن فيكون . قالت له : أو لم تعلم أن الله خلق آدم وامرأته من غير أنثى ولا ذكر{[44064]} قال : بلى . فلما قالت له ذلك ، وقع في نفسه أن{[44065]} الذي بها شيء من الله . ثم دنا نفاسها فأوحى الله تعالى إليها أن اخرجي من أرض قومك ، فإنهم إن ظفروا بك ، عيروك ، وقتلوا ولدك . فأفضت ذلك إلى أختها ، وأختها حينئذ حبلى ، وقد بشرت بيحيى . فلما التقتا{[44066]} ، وجدت أم يحيى ما في بطنها خر لوجهه ساجدا معترفا{[44067]} بعيسى . فاحتملها يوسف إلى أرض مصر على حمار له ، ليس بينها حين ركبت الحمار وبين الأكاف{[44068]} شيء . فلما كان بقرب أرض مصر ، في منقطع بلاد قومها{[44069]} ، أدرك مريم النفاس ، فألجأها إلى حمار أو مذوده{[44070]} وأصل نخلة . فاشتد على مريم المخاض ، فلما وجدت منه شدة التجأت إلى النخلة فاحتضنتها واحتوشتها الملائكة قاموا صفوفا محدقين بها .

وعن وهب أنها قالت له عند سؤاله : إن الله تعالى خلق البذر قبل الزرع ، وإن الله خلق الحبة من غير مطر ، وإن الله خلق آدم من غير أنثى ولا ذكر .

وعن وهب أيضا أنه قال{[44071]} : لما حضر ولادتها ، وجدت ما تجده المرأة من الطلق ، فخرجت من المدينة حتى تدركها الولادة إلى قرية من إيلياء على{[44072]} ستة أميال يقال لها بيت لحم . فأجاءها المخاض إلى أصل نخلة إليها مذود مقرة وتحتها نبع من الماء فوضعته عندها{[44073]} .

وقد{[44074]} قال السدي لما حضر وضعها إلى جانب المحراب الشرقي منه{[44075]} أتت أقصاه{[44076]} .

وقيل{[44077]} : إن عيسى ولد بمصر بكورة أهناس ، ونخلة مريم قائمة{[44078]} بها إلى اليوم . والله أعلم بذلك كله .

قال ابن عباس : ليس إلا أن حملت فولدت في ساعة{[44079]} .

وعن مجاهد ، أنها حملته ستة أشهر ، فكانت{[44080]} حياته آية له{[44081]} لأنه لا يعيش من ولد من ستة أشهر{[44082]} .

وقال غيره{[44083]} أقامت ثمانية أشهر ، وذلك آية لعيسى أيضا ، لأنه يولد مولود لثمانية أشهر فيعيش{[44084]} .

وقوله : { فأجاءها المخاض } يدل على طول المكث .

قال مجاهد : كان حمل النخلة عجوة{[44085]} .

وقيل{[44086]} : كان جذعا بلا رأس ، وكان ذلك في الشتاء ، فأنبت الله له رأسا ، وخلق فيه رطبا ؟ في غير وقته .

وروي أنها لما رأت الآية في الرطب والجذع طابت نفسها .

وقالت : ليس ولادتي هذا الغلام{[44087]} من غير أب أعجب من هذا الجذع البالي . فأكلت من الرطب ، وشربت من النهر .

وقوله : { يا ليتني مت قبل هذا }[ أي : قبل هذأي{[44088]} الطلق ، استحياء من الناس قاله{[44089]} السدي{[44090]} .

{ وكنت نسيا منسيا }[ 22 ] .

أي : لم أخلق ولم أكن شيئا{[44091]} .

قال السدي : معناه نسى ذكري وأمري ، فلا يرى لي أثر ولا عين{[44092]} .

وقال قتادة : معناه : وكنت شيئا{[44093]} لا يذكر ولا يعرف ولا يدري{[44094]} من أنا{[44095]} .

وقال مجاهد وعكرمة : حيضة ملقاة{[44096]} .

والنسي عند أهل اللغة ، ما طال مكثه فنسي . ويكون النسي الشيء الحقير الذي لا يعبأ به .

وقرأ محمد بن كعب{[44097]} : ( نسئا ) بالهمز وكسر النون{[44098]} . وكذا قرأ{[44099]} أيوب{[44100]} ، إلا أنه فتح النون وهو من نسأه الله إذا أخره . / وإنما تمنت الموت وقد علمت أن الرضى بقضاء الله واجب عليها لأنها كرهت أن يعصى الله فيها وفيما يقول قومها فيها إذ{[44101]} جاءت بولد من غير ذكر ، فشق عليها أن يأثموا فيها{[44102]} ويعصوا الله من أجلها فيما يرمونها به لا أنها سخطت قضاء الله فيها ، إذ هي تعلم أن{[44103]} الله تعالى لم يختر لها إلا ما فيه الخيرة{[44104]} والصلاح لها . فتمنيها للموت إنما هو طاعة لله لأن{[44105]} من كره أن يعصى الله فيه فقد أطاع الله .


[44041]:انظر: التبيان للعكبري 2/870 وغريب القرآن وتفسيره: 238.
[44042]:(ز): وقال.
[44043]:انظر: جامع البيان 16/64 والدر المنثور 4/267.
[44044]:(الواو) سقطت من (ز).
[44045]:انظر: جامع البيان 16/64 والدر المنثور 4/267.
[44046]:انظر: جامع البيان 16/64 والبحر المحيط 6/181.
[44047]:(ز): ورهبت، تحريف.
[44048]:(ع): أداني، والتصحيح من (ز).
[44049]:(آخر) سقط من (ز).
[44050]:انظر: جامع البيان 16/64-65.
[44051]:(ز): صهوت، تحريف.
[44052]:(من) سقط من (ز).
[44053]:(في) سقطت من (ز).
[44054]:(ز): بدون هاء. والتحبير، التحسين، انظر: اللسان (حبر).
[44055]:(ز): بدون هاء.
[44056]:(ز): فلما.
[44057]:(ز): استره.
[44058]:(ز): فقابني، تحريف.
[44059]:(ز): فحدذني.
[44060]:(ز): ينبت.
[44061]:(على) سقط من (ز).
[44062]:(ز): من.
[44063]:(ز): له.
[44064]:(ز): ذكر ولا أنثى.
[44065]:(أن) سقطت من : ز.
[44066]:(ع): التقيا. والتصحيح من (ز).
[44067]:(ز): متعرفا. تصحيف.
[44068]:الإكاف والأكاف من المراكب شبه الرحال والأقتاب، انظر: اللسان (أكف).
[44069]:(ز): قومه.
[44070]:(ز): مزوره، تصحيف.
[44071]:أنه قال سقط من ز.
[44072]:ز: عن.
[44073]:انظر: جامع البيان 16/65.
[44074]:قد سقطت من ز,
[44075]:ز: منه الشرقي.
[44076]:انظر: جامع البيان 16/63.
[44077]:انظر: جامع البيان 16/64 وعلق أبو حيان على هذا الخبر فقال: (والظاهر أن النخلة كانت موجودة قبل مجيء مريم إليها) انظر: البحر المحيط 16/182.
[44078]:قائمة سقطت من ز.
[44079]:انظر: جامع البيان 16/65 والكشاف 4/6 وتفسير ابن كثير 3/116. وتفسير الثعالبي 3/6.
[44080]:ز: وكانت.
[44081]:له سقطت من ز.
[44082]:انظر: الكشاف 4/5 وتفسير القرطبي 11/93 والبحر المحيط 6/181.
[44083]:الأثر لعكرمة في تفسير ابن كثير 3/116 وتفسير القرطبي 11/93 والدر المنثور 4/266.
[44084]:قال أبو حيان: (وهذه أقوال مضطربة متناقضة كان ينبغي أن يضرب عنها صفحا إلا أن المفسرين ذكروها في كتبهم وسودوا بها الورق) البحر المحيط 6/181.
[44085]:انظر: جامع البيان 16/72 وتفسير القرطبي 11/95 وتفسير ابن كثير 3/117 والدر المنثور 4/268. والعجوة ضرب من التمر. انظر: اللسان (عجا).
[44086]:انظر: معاني الزجاج 3/352.
[44087]:ز: غلاما.
[44088]:زيادة من ز.
[44089]:ز: قال.
[44090]:انظر: جامع البيان 16/66.
[44091]:ز: نسيا. وهو تصحيف، وهذا تأويل ابن عباس في الدر المنثور 4/267.
[44092]:انظر: جامع البيان 16/66.
[44093]:ز: نسيا.
[44094]:ز: لا يعرف ولا يذكر.
[44095]:انظر: جامع البيان 16/66 وتفسير ابن كثير 3/117.
[44096]:ز: ملغاة وانظر: زاد المسير 5/221 والدر المنثور 4/267-268.
[44097]:هو محمد بن كعب بن سليم بن عمرو أبو حمزة التابعي (ت 108 هـ) له ترجمة في المعارف 458 وغاية النهاية 2/233.
[44098]:انظر: مختصر ابن خالويه 87 والبحر المحيط 6/183.
[44099]:ز: قراءة.
[44100]:هو أيوب بن تميم بن سليمان بن أيوب، أبو سليمان التميمي الدمشقي ضابط مشهور (ت 198 هـ) له ترجمة في غاية النهاية 1/172.
[44101]:ز: إذا.
[44102]:فيها سقط من ز.
[44103]:أن سقط من ز.
[44104]:ز: الخير.
[44105]:النون في لأن زيادة من ز.