قوله تعالى : { فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية } ، قال ابن عباس : يعني : أنطاكية . وقال ابن سيرين : هي الأيلة وهي أبعد الأرض من السماء . وقيل : برقة . وعن أبي هريرة : بلدة الأندلس { استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما } . قال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " حتى إذا أتيا أهل قرية لئاماً فطافا في المجالس فاستطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما " . وروي أنهما طافا في القرية فاستطعما أهلها فلم يطعموهما ، واستضافوهم فلم يضيفوهما . قال قتادة : شر القرى التي لا تضيف الضيف . وروي عن أبي هريرة قال : أطعمتهما امرأة من أهل بربر بعد أن طلبا من الرجال فلم يطعموهما . فدعا لنسائهم ولعن رجالهم . قوله تعالى : { فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض } أي يسقط ، وهذا من مجاز كلام العرب ، لأن الجدار لا إرادة له ، وإنما معناه : قرب ودنا من السقوط ، كما تقول العرب : داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها . { فأقامه } أي : سواه . وروي عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الخضر بيده فأقامه . وقال سعيد بن جبير : مسح الجدار بيده فاستقام . وروي عن ابن عباس : هدمه ثم قعد يبنيه . وقال السدي : بل طيناً وجعل يبني الحائط . { قال } موسى { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } ، قرأ ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب : ( لتخذت ) بتخفيف التاء وكسر الخاء ، وقرأ الآخرون : لتخذت بتشديد التاء وفتح الخاء ، وهما لغتان : مثل اتبع وتبع { عليه } يعني : على إصلاح الجدار { أجراً } يعني : جعلاً ، معناه : إنك قد علمت أننا جياع ، وأن أهل القرية لم يطعمونا ، فلو أخذت على عملك أجراً .
{ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا ْ } أي : استضافاهم ، فلم يضيفوهما { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ ْ } أي : قد عاب واستهدم { فَأَقَامَهُ ْ } الخضر أي : بناه وأعاده جديدا . فقال له موسى : { لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ْ } أي : أهل هذه القرية ، لم يضيفونا مع وجوب ذلك عليهم ، وأنت تبنيه من دون أجرة ، وأنت تقدر عليها ؟ . فحينئذ لم يف موسى عليه السلام بما قال ، واستعذر الخضر منه ، فقال له : { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ ْ }
ثم تسوق لنا السورة الكريمة الحادث الثالث والأخير فى تلك القصة الزاخرة بالمفاجآت والعجائب فتقول : { فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً . . . }
أى : فانطلق موسى والخضر - عليهما السلام - يتابعان سيرهما . حتى إذا أتيا أهل قرية قيل هى " أنطاكية " ، وقيل : هى قرية بأرض الروم .
{ استطعما أهلها } والاستطعام : سؤال الطعام . والمراد به هنا سؤال الضيافة لأنه هو المناسب لمقام موسى والخضر - عليهما السلام - ولأن قوله - تعالى - بعد ذلك : { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا } يشهد له .
أى : فأبى وامتنع أهل تلك القرية عن قبول ضيافتهما بخلا منهم وشحا .
وقوله - تعالى - { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } معطوف على { أتيا } أى : وبعد أن امتنع أهل القرية عن استضافتهما ، تجولا فيها { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً } أى : بناء مرتفعا { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } أى : ينهدم ويسقط { فأقامه } أى الخضر بأن سواه وأعاد إليه اعتداله ، أو بأن نقضه وأخذ فى بنائه من جديد .
وهنا لم يتمالك موسى - عليه السلام - مشاعره ، لأنه وجد نفسه أمام حالة متناقضة ، قوم بخلاء أشحاء لا يستحقون العون . . ورجل يتعب نفسه فى إقامة حائط مائل لهم . . هلا طلب منهم أجرا على هذا العمل الشاق ، خصوصا وهما جائعان لا يجدان مأوى لهما فى تلك القرية !
لذا بادر موسى - عليه السلام - ليقول للخضر : { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } .
أى : هلا طلبت أجرا من هؤلاء البخلاء على هذا العمل ، حتى تنتفع به . وأنت تعلم أننا جائعان وهم لم يقدموا لنا حق الضيافة .
فالجملة الكريمة تحريض من موسى للخضر على أخذ الأجر على عمله ، ولوم له على ترك هذا الأجر مع أنهما فى أشد الحاجة إليه .
وكان هذا التحريض من موسى للخضر - عليهما السلام - هو نهاية المرافقة والمصاحبة بينهما ، ولذا قال الخضر لموسى : { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ }
وينطلق السياق فإذا نحن أمام المشهد الثالث :
( فانطلقا . حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقض فأقامه ) .
إنهما جائعان ، وهما في قرية أهلها بخلاء ، لا يطعمون جائعا ، ولا يستضيفون ضيفا . ثم يجد أن جدارا مائلا يهم أن ينقض . والتعبير يخلع على الجدار حياة وإرادة كالأحياء فيقول : ( يريد أن ينقض )فإذا الرجل الغريب يشغل نفسه بإقامة الجدار دون مقابل ! ! !
وهنا يشعر موسى بالتناقض في الموقف . ما الذي يدفع هذا الرجل أن يجهد نفسه ويقيم جدارا يهم بالانقضاض في قرية لم يقدم لهما أهلها الطعام وهما جائعان ، وقد أبوا أن يستضيفوهما ? أفلا أقل من أن يطلب عليه أجرا يأكلان منه ?
{ فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية } قرية أنطاكية وقيل أبلة البصرة . وقيل باجروان أرمينية . { استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما } وقرئ { يضيفوهما } من إضافة يقال ضافه إذا نزل به ضيفا وأضافه وضيفه أنزله ، وأصل التركيب للميل يقال ضاف السهم عن الغرض إذا مال . { فوجدا فيها جدارا يريد أن ينقضّ } يداني أن يسقط فاستعيرت الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم قال :
يريد الرّمح صدر أبي براءٍ *** ويعدلُ عن دماء بني عقيلِ
إن دهراً يلمُّ شملي بجملٍ *** لزمانٌ يهم بالإحسانِ
وانقض انفعل من قضضه إذا كسرته ، ومنه انقضاض الطير والكواكب لهويه ، أو أفعل من النقض . وقرئ " أن ينقض " و " أن ينقاص " بالصاد المهملة من انقاصت السن إذا انشقت طولاً . { فأقامه } بعمارته أو بعمود عمده به ، وقيل مسحه بيده فقام . وقيل نقضه وبناه . { قال لو شئت لاتخذت عليه أجراً } تحريضا على أخذ الجعل لينتعشا به ، أو تعريضا بأنه فضول لما في { لو } من النفي كأنه لما رأى الحرمان ومساس الحاجة واشتغاله بما لا يعنيه لم يتمالك نفسه ، واتخذ افتعل من تخذ كاتبع من تبع وليس من الأخذ عند البصريين ، وقرأ ابن كثير والبصريان " لتخذت " أي لأخذت وأظهر ابن كثير يعقوب وخفص الدال وأدغمه الباقون .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.