السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا} (77)

{ فانطلقا } أي : موسى والخضر يمشيان لينظر الخضر أمراً ينفذ فيه ما عنده من علمه وورش يغلظ اللام في لفظ انطلقا على أصله بعد قتل الغلام { حتى إذا أتيا أهل قرية } ، قال ابن عباس : هي أنطاكية ، وقال ابن سيرين : هي الأيلة وهي أبعد أرض اللّه من السماء وعبر عنها بالقرية دون المدينة لأنه أدل على الذمّ ، وقيل : برقة ، وعن أبي هريرة بلدة بالأندلس { استطعما أهلها } أي : طلبا من أهل القرية أن يطعموهما ، وفي الحديث أنهما كانا يمشيان على مجالس أولئك القوم يستطعمانهم { فأبوا أن يضيفوهما } أي : أن ينزلوهما ويطعموهما يقال ضافه إذا كان له ضيفاً وحقيقته مال إليه من ضاف السهم عن الغرض وضيفه وأضافه أنزله وجعله ضيفاً فإن قيل : الاستطعام ليس من عادة الكرام وكيف قدم عليه موسى والخضر وقد حكى اللّه تعالى عن موسى أنه قال عند ورود ماء مدين ربّ إني لما أنزلت إليّ من خير فقير ؟ أجيب : بأن إقدام الجائع على الاستطعام أمر مباح في كل الشرائع بل ربما وجب ذلك عند الخوف من الضرر الشديد فإن قيل : لم قال : { حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها } ولم يقل : استطعماهم ؟ أجيب : بأن التكرير قد يكون للتأكيد كقول الشاعر :

ليت الغراب غداة يبعث دائباً *** كان الغراب مقطع الأوداج

وعن قتادة شر القرى التي لا تضيف الضيف .

فائدة : قال الرازي : وفي كتب الحكايات أن أهل تلك القرية لما سمعوا نزول هذه الآية استحيوا وجاؤوا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحمل من الذهب وقالوا : يا رسول اللّه جئناك بهذا الذهب لتجعل الباء تاء حتى تصير القراءة هكذا فأتوا أن يضيفوهما أي : أتيناهم لأجل الضيافة حتى يندفع عنا هذا اللوم فامتنع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقال : «تغيير هذه النقطة يوجب دخول الكذب في كلام اللّه تعالى وذلك يوجب القدح في الإلهية » فعلمنا أن تغيير النقطة الواحدة من القرآن يوجب بطلان الربوبية والعبودية . ولما أبوا أن يضيفوهما انصرفا { فوجدا فيها } أي : القرية ولم يقل فيهم إيذاناً بأن المراد وصف القرية بسوء الطبع { جداراً } أي : حائطاً مائلاً مشرفاً على السقوط ولذا قال : مستعيراً لما لم يعقل صفة من يعقل { يريد أن ينقص } أي : يسقط وهذا من مجاز كلام العرب لأنّ الجدار لا إرادة له وإنما معناه قرب ودنا من السقوط كما تقول العرب داري تنظر إلى دار فلان إذا كانت تقابلها فاستعير الإرادة للمشارفة كما استعير لها الهم والعزم في قوله :

يريد الرمح صدر أبي براء *** ويعدل عن دماء بني عقيل

وقول الآخر :

إنّ دهراً يلف صدري بجمل *** لزمان يهم بالإحسان

ففي البيت الأوّل دليل على استعارة الإرادة للمشارفة ، وفي الثاني دليل على استعارة الهم لها وجمل اسم محبوبته يقول : إن دهراً يجمع بيني وبينها زمان قصده الإحسان لا الإساءة ونظير ذلك من القرآن قوله تعالى : { ولما سكت عن موسى الغضب } [ الأعراف ، 154 ] وقوله تعالى : { أن يقول له كن فيكون } [ يس ، 82 ]

وقوله تعالى : { قالتا أتينا طائعين } [ فصلت ، 11 ] ، قال الزمخشري ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام اللّه تعالى ممن لا يعلم كان يجعل الضمير للخضر ، وقيل : إن اللّه تعالى خلق للجدار حياة وإرادة كالحيوان { فأقامه } أي : سواه ، وفي حديث أبيّ بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم «فقال الخضر بيده فأقامه » ، وقال ابن عباس : هدمه وقعد يبنيه ، وقال سعيد بن جبير : مسح الجدار بيده فاستقام وذلك من معجزاته ، وقال السدي : بلّ طيناً وجعل يبني الحائط فشق ذلك على موسى عليه السلام فإن قيل : الضيافة من المندوبات فتركها ترك مندوب وذلك غير منكر فكيف يجوز من موسى عليه السلام مع علو منصبه أنه غضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه في قوله : { إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني } وأيضاً مثل الغضب لأجل ترك الأكل في ليلة واحدة لا يليق بأدون الناس فضلاً عن كليم اللّه تعالى أجيب : بأن تلك الحالة كانت حالة افتقار واضطرار إلى الطعام فلأجل تلك الضرورة نسي موسى عليه السلام ما قاله فلا جرم { قال } موسى : { لو شئت لاتخذت عليه أجراً } أي : لطلبت على عملك أجرة تصرفها في تحصيل المطعوم وتحصيل سائر المهمات ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بتخفيف التاء بعد اللام وكسر الخاء ، وأظهر ابن كثير الذال عند التاء على أصلها ، وأدغمها أبو عمرو والباقون بتشديد التاء وفتح الخاء ، وأظهر حفص الذال على أصله وأدغمها الباقون .