الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري - الزمخشري  
{فَٱنطَلَقَا حَتَّىٰٓ إِذَآ أَتَيَآ أَهۡلَ قَرۡيَةٍ ٱسۡتَطۡعَمَآ أَهۡلَهَا فَأَبَوۡاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارٗا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُۥۖ قَالَ لَوۡ شِئۡتَ لَتَّخَذۡتَ عَلَيۡهِ أَجۡرٗا} (77)

{ أَهْلَ قََرْيَةٍ } هي إنطاكية . وقيل : الأبلة ، وهي أبعد أرض الله من السماء { أَن يُضَيّفُوهُمَا } . وقرىء : «يضيفوهما » يقال : ضافه إذا كان له ضيفاً . وحقيقته : مال إليه ، من ضاف السهم عن الغرض ، ونظيره : زاره من الازورار . وأضافه وضيفه : أنزله وجعله ضيفه وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " كانوا أهل قرية لئاماً " وقيل : شر القرى التي لا يضاف الضيف فيها ولا يعرف لابن السبيل حقه { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } استعيرت الإرادة للمداناة والمشارفة ، كما استعير الهمّ والعزم لذلك . قال الراعي :

فِي مَهْمَهٍ قَلِقَتْ بِهِ هَامَاتُهَا *** قَلَقَ الْفُئُوسِ إذَا أَرَدْنَ نُصُولاَ

وقال :

يُرِيدُ الرُّمْحُ صَدْرَ أَبِي بَرَاء *** وَيَعْدِلُ عَنْ دِمَارِ بَنِي عَقِيلٍ

وقال حسان :

إنَّ دَهْراً يَلِفُّ شَمْلِي بِجُمْلٍ *** لَزَمَانٌ يَهُمُّ بِالإحْسَانِ

وسمعت من يقول : عزم السراج أن يطفأ ، وطلب أن يطفأ . وإذا كان القول والنطق والشكاية والصدق والكذب والسكوت والتمرد والإباء والعزة والطواعية وغير ذلك مستعار للجماد ولما لا يعقل ، فما بال الإرادة ؟ قال :

إذَا قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقِ ***

تَقُولُ سِنِّي لِلنَّوَاةِ طِنِّي ***

لاَ يَنْطقُ اللَّهْوُ حَتَّى يَنْطِقَ العُودُ ***

وَشَكا إلَيَّ بَعْبرَةٍ وَتَحَمْحُم ***

فَإنْ يَكُ ظَنِّي صَادِقاً وَهْوَ صَادِقِي ***

{ وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب } [ الأعراف : 154 ] :

تَمَرَّدَ مَارِدٌ وَعَزَّ الأَبْلَقُ ***

ولبعضهم :

يَأْبَى عَلَى أَجْفَانِهِ إغْفَاءَه *** هَمٌّ إذَا انْقَادِ الْهُمُومُ تَمَرَّدَا

أَبَتِ الرَّوَادِفُ وَالثُّدِيُّ لِقُمْصِهَا *** مَسَّ الْبُطُونِ وَأَنْ تَمَسَّ ظُهُورَا

{ قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ } [ فصلت : 11 ] ولقد بلغني أن بعض المحرفين لكلام الله تعالى ممن لا يعلم ، كان يجعل الضمير للخضر ؛ لأنّ ما كان فيه من آفة الجهل وسقم الفهم ، أراه أعلى الكلام طبقة أدناه منزلة ، فتمحل ليردّه إلى ما هو عنده أصحّ وأفصح ، وعنده أن ما كان أبعد من المجاز كان أدخل في الإعجاز . وانقض : إذا أسرع سقوطه ، من انقضاض الطائر وهو انفعل ، مطاوع قضضته . وقيل : افعلّ من النقض ، كاحمرّ من الحمرة . وقرىء : «أن ينقض » من النقض ، «وأن ينقاص » من انقاصت السن إذا انشقت طولاً ، قال ذو الرمّة :

. . . . . . . . . مِنْقَاصٌ وَمُنْكَثِبُ ***

بالصاد غير معجمة { فَأَقَامَهُ } قيل : أقامه بيده . وقيل : مسحه بيده فقام واستوى . وقيل : أقامه بعمود عمده به . وقيل : نقضه وبناه . وقيل : كان طول الجدار في السماء مائة ذراع ، كانت الحال حال اضطرار وافتقار إلى المطعم ، ولقد لزتهما الحاجة إلى آخر كسب المرء وهو المسألة ، فلم يجدا مواسياً ، فلما أقام الجدار لم يتمالك موسى لما رأى من الحرمان ومساس الحاجة أن { قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } وطلبت على عملك جعلاً حتى ننتعش ونستدفع به الضرورة وقرىء : «لتخذت » ، والتاء في تخذ ، أصل كما في تبع ، واتخذ افتعل منه ، كاتبع من تبع ، وليس من الأخذ في شيء .